قاسم قصير - عربي21

كل الأنظار في هذه الأيام تتجه نحو تركيا والشعب التركي بعد انتهاء الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية والنيابية دون أن يتم حسم النتيجية النهائية باختيار رئيس جديد للجمهورية، مع الحاجة إلى جولة ثانية في الثامن والعشرين من الشهر الحالي.

وبغض النظر عمن سيكون الفائز في رئاسة الجمهورية بين زعيم حزب العدالة والتنمية الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان وبين زعيم المعارضة كمال كليتشدار أوغلو، فإنه من الواضح أن المنافسة ستكون قوية جدا، وقد تكون المشاركة الشعبية فيها أكبر من المشاركة في انتخابات المرحلة الأولى. وقد بلغت نسبة المشاركة في المرحلة الاولى وفق الهيئة العليا للانتخابات التركية، نحو 88.92 في المئة من عدد الناخبين، وهذه من أعلى النسب في الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية في العالم.

فما هي أبرز دروس التجربة التركية؟ وما هي دلالات ما يجري في تركيا اليوم سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي؟ وكيف نجحت تجربة حزب إسلامي محافظ (حزب العدالة والتنمية) في تطوير التجربة الديمقراطية والمشاركة فيها، في ظل نظام علماني استمر لعشرات السنين منذ سقوط الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى في العام 1918 وإنهاء نظام الخلافة في العام 1923؟

لم تأت تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا من فراغ، بل هي حصيلة تطور كبير للتجربة الإسلامية في تركيا في ظل النظام العلماني وتعاقب الحكومات المختلفة، وفي مواجهة الانقلابات العسكرية أو محاولات الانقلابات العسكرية كما جرى في العام 2015 ضد أردوغان.

فالحالة الإسلامية في تركيا حافظت على وجودها وحضورها طيلة عشرات السنين من خلال المدارس الدينية التقليدية والطرق الصوفية والواقع الإسلامي المجتمعي وبعض الهيئات الاجتماعية المنظمة، وصولا لإعادة بناء الأحزاب الإسلامية الجديدة والتي كان أبرزها حزب الرفاه الإسلامي بزعامة نجم الدين أربكان (المتأثر بحركة الإخوان المسلمين والتيارات الإسلامية المحافظة).

وقد نجح أربكان في الوصول إلى رئاسة الحكومة التركية بين عامي 1996 و1997 بعد مسيرة طويلة من العمل السياسي والإنجازات المهمة. وقد كان صاحب مشروع التحالف بين الدول الإسلامية الثماني، وهي مصر وتركيا ونيجيريا وباكستان وإندونيسيا وماليزيا وإيران وبنغلاديش.

وقد تعرض أربكان لانقلاب عسكري أدى لإخراجه من الحكم وحل حزب الرفاه، ومن ثم تطورت تجربة حزب الرفاه إلى حزب الفضيلة وصولا إلى حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان، الذي حقق إنجازات مهمة في تركيا سواء عندما كان رئيسا لبلدية إسطنبول ومن ثم توليه رئاسة الحكومة ومن ثم رئاسة الجمهورية، رغم التحديات العديدة التي واجهها داخليا وخارجيا والانقسامات التي شهدها الحزب ووضعه في السجن في مرحلة معينة.

ولن أدخل هنا في تقييم السياسات التركية الداخلية والخارجية، أو الخلافات التي حصلت بين التيارات الإسلامية وحتى داخل حزب العدالة والتنمية وخروج عدد من قياداته ورفاق أردوغان منه، لكن النقطة البارزة والمهمة في كل تجربة التيارات الإسلامية في تركيا هي الحفاظ على النظام الديمقراطي وتطويره من الداخل، بدل الانقلاب عليه أو ممارسة العنف ضده، رغم كثرة الانقلابات والضغوط التي تعرض لها الإسلاميون طيلة عشرات السنين.

وقد نجح حزب العدالة والتنمية خلال عهد أردوغان بتحقيق الكثير من الإنجازات الاقتصادية والسياسية والحفاظ على استقرار تركيا، واتباع سياسات متوازنة في العلاقات الخارجية رغم علاقاته القوية مع أمريكا وكون تركيا من ضمن حلف الأطلسي.

ولا يعني ذلك عدم وجود ملاحظات كثيرة على التجربة التركية، سواء من ناحية الحريات أو شكل النظام الديمقراطي أو دور تركيا في المنطقة، وكل ذلك يحتاج لتقييم تفصيلي، لكن النقطة الأهم والتي يمكن التركيز عليها في هذا المقال هي الجمع بين الالتزام الإسلامي العام وخيار الديمقراطية في الحكم، وهي تجربة مهمة ساعدت في نجاح حزب العدالة والتنمية في تحقيق الكثير من الإنجازات وتطوير التجربة السياسية والحزبية والاقتصادية.

وبدون الدخول في تقييم الأنظمة الديمقراطية والتجارب الديمقراطية في العالم، فإن هناك نقاطا أساسية تلتقي فيها الأسس المهمة في النظام الإسلامي مع النظام الديمقراطي ومنها: المحاسبة الشعبية وتداول السلطة والحريات العامة ضمن القوانين والاعتراف بالتنوع والتعددية والعمل لخدمة الناس أو الشعب، وأن يكون معيار المحاسبة خدمة الناس وتحقيق التنمية المتوازنة. وأن القبول بالعودة إلى الناس من خلال الصيغة الديمقراطية الحالية في إدارة شؤونهم واختيار حكامهم لا يتنافى أبدا مع الأسس التي اعتمدها الإسلام.

طبعا لا يعني ذلك تطبيق الديمقراطية على مسألة التشريع الديني أو الجوانب الفقهية والعقائدية فلذلك حديث آخر، وما أشير إليه هنا هو إدارة شؤون الناس واختيار من يحكمونهم من أجل تحقيق أفضل مستوى من الحياة.

ومن راقب التجربة التركية وخصوصا الانتخابات الأخيرة يلحظ حالة التنافس الشديد على صعيد الخيارات السياسية والاقتصادية وكيفية مقاربة مختلف الموضوعات، وكل ذلك شكّل دافعا قويا من أجل تعزيز المشاركة في الانتخابات في الداخل والخارج، ودفع المرشحين لتقديم أفضل ما لديهم من أفكار وطروحات لمعالجة المشكلات التي تواجهها تركيا اليوم.

هذه التجربة الديمقراطية في تركيا غير متعارضة مع المناخ الإسلامي العام الذي يتميز به الشعب التركي اليوم رغم وجود النظام العلماني والتنوع الكبير على الصعيد القومي والعرقي والمذهبي، وذلك يشكّل الضمانة الأقوى لتطوير هذه التجربة نحو الأفضل في ظل تراجع التجارب الديمقراطية في العالم بشكل عام وفي العالم العربي والإسلامي خاصة.

واليوم وفي ظل التطورات الهامة التي يشهدها العالم والمنطقة وعودة التوافق بين الدول العربية وإيران وبين تركيا والدول العربية، وبروز التعددية في النظام العالمي والعلاقات القوية بين تركيا وإيران وروسيا، فإن التجربة الديمقراطية التركية قد تكون محطة مهمة في الدعوة إلى مشروع عربي وإسلامي جديد في العالم، والمهم الحفاظ على هذه التجربة وعدم الانقلاب عليها مجددا، فعندما يلتقي الإسلام بالديمقراطية الشعبية الحقيقية في إدارة الحكم يتحقق الكثير الكثير.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس