يوسف قابلان - يني شفق

تتجه الانتخابات التركية نحو الجولة الثانية. يحتاج الرئيس أردوغان للفوز في الجولة الثانية بقوة. بعد ذلك، يمكن فك الحصار متعدد الأوجه الذي يُمارس خارجيا وداخليا بشكل متزامن. وبالتالي يمكن لكفاح تركيا من أجل الاستقلال والمستقبل أن يستمر ويمضي قُدما.

لكي لا ننسى: يطور الغرب استراتيجيته القديمة لإيقاف تركيا ومنع صعودها. وبالنظر إلى قرنين من التاريخ سنرى هذه الحقيقة.

كانت تركيا دولة المحور لمدة ألف عام. وأتمنى أن يكون الأمر كذلك في المستقبل.

وهذا يتم بشرط واحد وهو تمكننا من إيجاد مدارنا ...

لهذا، إذا استطعنا تطبيق تربية متواضعة (منفتحة على عوالم أخرى، ومحترمة من قبل الآخرين) وثقة عالية بالنفس (مجهزة بفكرة الحضارة ومعرفة العالم جيدًا) سنحظى بأجيال رائدة تبني مستقبلنا وتعرف كيف تنتقد وتجدد نفسها...

قصة تأسيس الحضارة الغربية وانحسارها باختصار

شكلت الحضارة الغربية الوثنية الحديثة مسار تاريخ العالم منذ القرن السابع عشر، حيث كانت محاطة بدافع السيطرة والاستعمار. وتحولت بذلك إلى هجوم على فكرة الله والحقيقة و الطبيعة والحضارات الأخرى. ونتيجة لذلك، تم استبدال الإنسان بالله، والسياسة بدلاً من الكنيسة.

أدى تأليه الإنسان إلى تأليه العقل. وأدى وضع السياسة في موقع يحدِّد مصادر السلطة والهيمنة والشرعية إلى تقديس السياسة كأداة.

من خلال إسناد قوى غير محدودة إلى عقله المحدود ووضع الوسائل (السياسة المنتجة للقوة، العلم، التكنولوجيا ، إلخ) في مقدمة الغايات، حقق الإنسان الوثني الحديث طفرة مبهرة من شأنها أن تؤسس الهيمنة على الطبيعة والعالم ، ولكن من ناحية أخرى، أصبحت الديناميكيات التي جعلت هذا الاختراق المادي ممكنا ديناميكيا يقوض الحضارة الغربية الحديثة.

عندما كان العقل المحدود مشبعا بسلطات غير محدودة وأعطى وظائف وجودية للسياسة ووسائلها (ولكن ليس لوسائل إنتاج القوة) والتي كان ينبغي أن تكون بمثابة وظيفة قيادية بدلا من كونها تأسيسية، خضعت حينها الحضارة الوثنية الحديثة تحت هذا العبء وبدأت تنهار.

كانت التكلفة باهظة للغاية فلسفيا وفكريا وثقافيا وأخلاقيا واجتماعيا ليس فقط بالنسبة للحضارة الوثنية الحديثة بل دفعت الكثير من الحضارات الأخرى ثمن هيمنة الحضارة الوثنية الحديثة الشرسة على العالم من خلال حملة السيطرة والاستعمار.

فلسفة ما بعد الحداثة: فلسفة الانحطاط

الوضع الحالي سيء للغاية ويسير على مفترق طرق ليس فقط بالنسبة للغرب، ولكن للعالم بأسره: تم تدمير فكرة الله. أولا في الغرب. ثم على نطاق العالم مع مرور الوقت. تم إعلان الطبيعة لأول مرة أنها العدو. ثم تم الاستيلاء عليها وتمزيقها. ودخل الوجود البشري في مرحلة خطيرة.

الرحلة الوثنية الحديثة، التي بدأت بالإنسانية ووضعت الإنسان في مركز كل شيء، ألقت بالبشرية جمعاء على حافة طريق مسدود يسمى ما بعد الإنسانية (حيث أصبح عالم بدون إنسان ونوع من العالم يفكر فيه الإنسان ويصبح عبدا للسرعة والمتعة والإغراء حيث بات يُنظر إليها على أنها حرية من قبل الجماهير التي فقدت أرواحها وتحولت إلى حياة قوية ومهجورة).

لقد انهارت الحضارة الغربية الوثنية الحديثة فلسفيا قبل قرن من الزمان. أعلن نيتشه هذا الانهيار لأول مرة وصرخ بصوت عال قدر استطاعته: نيتشه صلب الحضارة الوثنية الحديثة.

لقد انهارت الحضارة الوثنية الحديثة فلسفيا، لكن الفلسفة لم تنهار. أصبحت فلسفة الانحطاط.

صرخة نيتشه لقت ردة فعل قوية من قبل فلاسفة ما بعد الحداثة والمنظرين الاجتماعيين:

قال الفيلسوف الألماني هايدغر إن الوجود، وبالتالي الحقيقة، منسية.

ويرى الفيلسوف ماكس فيبر بأن الحداثة تنتج "قفصا حديديا". كما قال ميشال فوكو إنه أصبح "سجينا" وتحول بطريقة ما إلى شبح، وقال الفيلسوف الفرنسي جان بودريار إنها كانت محاكاة وتبخرت.

لم يقدم فلاسفة الانحطاط ما بعد الحداثة حل. لقد اعترفوا بأن السبيل الوحيد للخروج من هذا الطريق المسدود هو الخروج من النموذج السائد. هذا بالضبط ما قاله فوكو. وسار على خطى سيده نيتشه.

ما قاله نيتشه: "الشيء الجديد الوحيد الذي يمكننا قوله بعد الآن هو حقيقة أننا لا نستطيع قول أي شيء جديد".

من سيقول "كلمة" جديدة؟

من سيكون له رأي جديد؟

الصينيون، الهنود، اليابانيون؟

بالطبع لا.

لا، لأنهم جميعا كانوا رأسماليون. تم تخديرهم وابتلاعهم.

يمكن للمسلمين أن يقولوا الشيء الجديد الوحيد.

أعلن بودريلار هذه الحقيقة بقوله: "نحن ندمر الخيار الوحيد أمام الإنسانية" ، عندما ربط الغرب الإسلام بالإرهاب .

الحضارة الغربية، ليس لديها ما تقوله، تشبثت بقوتها المخيفة: إنها فقط تغزو وتدمر كل شيء: هذا هو العدوان الذي يصفه بودريار بأنه "وصول برابرة جدد" هو أهم مؤشر على عدم وجود ما يقال.

نحن في عملية كسر الموجة ويجب أن نكون مستعدين جيدًا لعملية كسر الموجة.

لم تنهار الحضارة الغربية فلسفيًا فحسب، بل أدت أيضًا إلى انحسار حضارات أخرى غير الإسلام وأنهتها من خلال الاستفادة منها.

لكن هذه الحضارة الوثنية أُصيبت بالجنون لأنها لا تستطيع التضييق على الإسلام وحسره. هذا هو السبب في أنها تطور استراتيجياتها التي تعود إلى قرون لمنع ظهور الإسلام لأنها تعرف أكثر منا أن ظهور الإسلام على مسرح التاريخ سيكون ممكنًا مع إعادة تحضير تركيا بمطالبات الحضارة. لذلك تطور الحضارة الغربية الوثنية استراتيجياتها التي تعود إلى قرن من الزمان حصريا من خلال تركيا، ومن أجل منعها من التعافي والوقوف على قدميها واستعادة جغرافية الحضارة بأي وسيلة.

وهذا هو سبب مهاجمة كل وسائل الإعلام الغربية لتركيا وأردوغان بسبب الانتخابات.

يعرف الغرب هذا جيدًا: تركيا هي الدولة الوحيدة التي لديها عمق تاريخي وتجربة حضارية عميقة الجذور يمكنها حشد العالم الإسلامي وصعوده .

هل تركيا في وضع يمكنها من تحمل هذا العبء؟

في هذه الحالة لا يمكنها لكن تركيا تسلك هذا الطريق. إذا أخضع حزب العدالة والتنمية نفسه لنقد ذاتي متجذر وتجديدي، فإن أحزاب المعارضة ستدعم أيضًا فكرة "تركيا أولاً!" حول فكرة الحضارة. إذا وصلنا إلى نقطة يمكننا فيها قول ذلك وإذا كان بإمكاننا اتخاذ خطوات ثورية في التعليم والفكر والفن والثقافة والعمران والإعلام والشباب في السنوات العشر القادمة ، نعم بإمكان تركيا تحمل هذا العبء .

هذا هو الوقت الذي ستبدأ فيه الرحلة الحقيقية. إنها عملية بناء موجة.

في الوقت الحالي، نحن نكافح في مرحلة كسر الموجة ... نتعامل مع إفشال المخططات ودحرها.

وأتمنى بعد ذلك أن تبدأ عملية بناء الموجة.

عن الكاتب

يوسف قابلان

كاتب تركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس