ترك برس

يفصل مضيق البوسفور مدينة إسطنبول إلى شقين أوروبي وآخر آسيوي، مما يضفي جمالاً مميزاً للمدينة، وفي الوقت نفسه يمنح تركيا ورقة استراتيجية يمكّنها من التحكّم في الملاحة البحرية لدى أضيق وأحد أهم الممرات المائية الطبيعية.

ويقع مضيق البوسفور في الجهة الشمالية الغربية من تركيا، ويحتل موقعا إستراتيجيا مهما تتصارع للسيطرة عليه القوى السياسية الكبرى في العالم، ويعتبر المعبر الوحيد الذي يربط البحر الأسود بالبحار المفتوحة بالجنوب، وأحد المعابر المهمة للنقل البحري التجاري والسياحي وناقلات النفط، بحسب تقرير لـ "الجزيرة نت".

الموقع والجغرافيا

ممر مائي طبيعي يقع في الجهة الشمالية الغربية من تركيا وضمن مياهها الإقليمية، يعبر مدينة إسطنبول فاصلا بين قارتي آسيا وأوروبا، وواصلا البحر الأسود ببحر مرمرة، ويعد أضيق ممر مائي طبيعي في العالم يستخدم للملاحة الدولية.

يبدأ شمالا من الخط الذي يربط منارة الأناضول في القسم الآسيوي بمنارة روملي (تركلي) بالقسم الأوروبي. وتنتهي حدوده الجنوبية إلى الخط الذي يصل بين منارة "إنجي بورنو" في آسيا بمنارة "أهركابي" في أوروبا.

وتختلف الأرقام المقدرة لطول المضيق -الذي يتراوح طوله بين 30 و32 كيلومترا، وإذا أخذت التجاويف والنتوءات بعين الاعتبار فإن ساحل الأناضول يبلغ طوله حوالي 35 كيلومترا، وأما ساحل تراقيا فهو أكثر انحناء وتعرجا ويصل طوله إلى 55 كيلومترا بما في ذلك القرن الذهبي.

أما عرضه فليس على نسق واحد، فهو أوسع بشكل عام بالنصف الشمالي، حيث تقع النقطة الأكثر اتساعا له عند المدخل الشمالي بين منارتي "الأناضول" و"روملي" ويبلغ عرضها حوالي 3600 متر، ثم يبدأ بالتقلص عند منطقة "باشا بهتشة" إلى أن يبلغ أضيق نقطة له بين قلعتي الأناضول و"روملي" ويقدر عرضها بحوالي 698 مترا.

كما يتفاوت عمق المضيق من منطقة إلى أخرى، ويتناقص غالبا مع انحداره باتجاه الجنوب، ويبلغ متوسط عمقه حوالي 50 مترا، وتقع أعمق نقطة بين منطقة "بيبك" و"كاندللي" ويتراوح عمقها بين 110 و120 مترا.

التسمية

يشتهر المضيق عالميا باسم البوسفور (Bosphorus) أو "البوسبور" (Bosporus) ويعود أصل اللفظ الأخير للكلمة اليونانية "بوز بوروس" (boos poros) التي تعني "ممر البقرة" وقد ارتبط تاريخيا بالشخصية الأسطورية "آيو" التي كانت بحسب الأسطورة عشيقة "زيوس" (آلهة حسب المعتقد اليوناني) فحولها إلى بقرة لحمايتها من زوجته "هيرا" فسبحت على شكل بقرة عبر المضيق إلى مصر حيث أعيدت إلى صورتها الحقيقية.

ويشير بعض المؤرخين إلى أن الاسم مرتبط بالفريجيين الذين مروا من أوروبا إلى الأناضول، واستخدموا كلمة (boos) أي "ثور" للإشارة إلى مقدمة سفنهم الشبيهة بالثور.

كما يُعرف المضيق بأسماء أخرى، ففي تركيا يطلق عليه مضيق إسطنبول (İstanbul Boğazı) ويسمى باللاتينية مضيق تراقيا (Bosphorus Thracicus) أما في العصور القديمة فكان يسمى مضيق ميسيا (Mysia).

التشكل

يعود وجود البوسفور إلى العصر الجيولوجي الرابع، وهنالك العديد من النظريات التي تشرح عمليات التشكيل الأولى للمضيق.

والرأي السائد أن هذا المضيق جاء عن طريق صدع حدث نتيجة لحركة الصفائح التكتونية ثم مُلِئ بمياه البحر، وبحسب هذا فإن الكتل الجليدية التي غطت معظم أنحاء العالم بدأت بالذوبان بعد انتهاء العصر الجليدي. ونتيجة لعملية الذوبان التي استمرت آلاف السنين، ارتفع مستوى سطح البحر الأبيض المتوسط كثيرا بين عامي 8000 و7000 ق.م، وغمرت مياهه بحر مرمرة، وانضمت مياه بحر مرمرة إلى البحر الأسود نتيجة استمرار الارتفاع عبر الصدع مشكلا مضيق البوسفور.

بينما تقول نظرية أخرى إن البحر الأسود كان عبارة عن بحيرة عذبة، ارتفع مستوى سطحها بسبب ذوبان الثلوج، فانحدرت المياه إلى الجنوب لتغمر الصدع.

وفي رأي آخر يقول بعض الجيولوجيين إن المضيق بالعصور القديمة كان عبارة عن مجرى نهري كبير، وعندما انتهى العصر الجليدي وبدأ ذوبان الجليد في العالم، ارتفع مستوى الماء بالمجرى واتخذ شكل الممر.

الجزر

بالرغم من ضيق اتساعه، فإن قطعا صغيرة من اليابسة ارتفعت في أجزاء منه مشَكّلة جزرا ضئيلة، أهمها:

جزيرة "برج الفتاة" (Kız kulesi) وهي قطعة صغيرة من اليابسة وسط المضيق بني عليها برج ترتبط به أساطير وحكايات شعبية متداولة، وقد تحول إلى مطعم وموقع ترفيهي مشهور، وأصبح مقصدا للسياحة الداخلية والخارجية.
جزيرة غلطة سراي (Galatasaray Adası) وهي أرض من اليابسة بطول 400 متر وعرض 120 مترا، مقابل منطقة كرو تشيشمي على بعد 180 مترا من الساحل، أهداها السلطان عبد العزيز للمهندس المعماري سركيس داليان، ثم اشتريت من قبل نادي "غلطة سراي" الرياضي عام 1957، حيث تحولت إلى مركز ترفيهي، وأحد المواقع الجاذبة للسكان المحليين والسياح.
جزيرة دكلي كايا (Dikilikaya Adası) وتقع قبالة ساحل "روملي كافا" ويبلغ طولها 180 مترا وعرضها 120 مترا، وبني عليها منارة بارتفاع 8 أمتار.

التيارات المائية

يوجد في مضيق البوسفور تياران رئيسيان، وكلاهما دائم، الأول التيار السطحي المتجه من البحر الأسود إلى بحر مرمرة، والثاني التيار العميق الذي يجري من بحر مرمرة باتجاه البحر الأسود.

ويعود السبب في تَكوّن هذين التيارين إلى الاختلاف في مستوى السطح والملوحة والكثافة بين البحر الأسود وبحر مرمرة.

فمياه البحر الأسود أقل ملوحة وكثافة، كما أنه يتغذى بكميات كبيرة من الأمطار، بالإضافة إلى توفر تيارات ذات معدلات تدفق عالية ترفده.

ومع تدني درجات الحرارة بالمنطقة انخفضت نسب التبخر فقلت نسب فقدانه للمياه، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع مستوى سطحه مقارنة بسطح بحر مرمرة، مما ساعد على تدفق مياه البحر الأسود باتجاه بحر مرمرة في طبقات المياه السطحية للمضيق.

ومن ناحية أخرى، تتحرك مياه مرمرة الأكثر كثافة باتجاه البحر الأسود في الطبقات العميقة من مياه المضيق. ويمكن اعتبار تيار المضيق بمثابة تيارين يسيران في اتجاهين مختلفين، مثل نهرين يتدفقان في قاع واحد، مياه السطح لها ميزة البحر الأسود، والمياه العميقة لها ميزة بحر مرمرة، وتختلف التيارات العلوية والسفلية في درجات الحرارة والملوحة والكثافة.

وعندما تختلط التيارات العلوية والسفلية مع بعضها البعض أحيانا تكوّن دوامات تشكل خطرا على الملاحة.

موقع إستراتيجي

احتل مضيق البوسفور موقعا إستراتيجيا بالغ الأهمية على مر العصور، فعلى سواحله نشأت المستعمرات البشرية منذ تشكله في عصور ما قبل الميلاد.

وعام 330 ميلادي، قرر قسطنطين الأول إعادة بناء المدينة التي عرفت آنذاك باسم "بيزنطة" واتخذها عاصمة للإمبراطورية الرومانية، وأطلق عليها "القسطنطينية" التي أصبحت فيما بعد عاصمة الإمبراطوريتين البيزنطية ثم العثمانية حتى عام 1922.

وقد استخدم المضيق كخط أساسي للدفاع أو الهجوم على المدينة، فعلى امتداد شواطئه بالجانبين الآسيوي والأوروبي قام الأباطرة البيزنطيون وبعد ذلك السلاطين العثمانيون ببناء التحصينات والقلاع.

وتعد قلعة "الأناضول" -التي شيدها السلطان بايزيد الأول على الشاطئ الآسيوي لتكون قلعة للمراقبة على المضيق- أحد النماذج الشاهدة على ذلك.

وكذلك قلعة "روملي" التي بناها السلطان محمد الثاني (الفاتح) على المضيق، والتي شيدت بأسوارها وأبراجها العالية تمهيدا لفتح القسطنطينية.

ولم تقتصر أهمية المضيق على المستوى المحلي، بل حظي باهتمام دولي، كونه الممر المائي الوحيد الذي يربط البحر الأسود بالبحار المفتوحة بالجنوب.

وأصبحت السيطرة عليه هدفا للمطامع السياسية للقوى الكبرى، لا سيما من قبل روسيا التي تطمح دوما للحصول على منفذ لها إلى البحر المتوسط، من خلال الاستيلاء على المضائق التركية (البوسفور والدردنيل).

كما حاولت الإمبراطورية الروسية من قبل تحقيق هذا الهدف من خلال شن العديد من الحروب على الدولة العثمانية كالحرب التي قامت بين عامي 1877 و1878.

وكانت المضائق التركية أثناء الحرب العالمية الأولى مسرحا لحملة إنجليزية فرنسية شُنت عام 1915، وكان الهدف منها احتلال المضائق ومساعدة الاتحاد السوفياتي في الحفاظ على اتصالاته الحيوية بمواجهة ألمانيا والدولة العثمانية أثناء الحرب.

وقد حشد السوفيات أسطولهم في البحر الأسود، لكن الدولة العثمانية سمحت بعبور السفن الحربية لحلفائها الألمان عبر مضائقها ومنه إلى البحر الأسود، حيث دمرت ألمانيا الأسطول السوفياتي.

ومن جهة أخرى، منعت الدولة العثمانية مرور الإمدادات الإنجليزية للقوات السوفياتية، مما أدى إلى انهيار جبهة الاتحاد السوفياتي أمام الألمان، وفشل الحلفاء في السيطرة على البوسفور والدردنيل.

كما كان الموقع الإستراتيجي للمضائق إحدى المميزات التي دفعت حلف شمال الأطلسي (الناتو) لضم تركيا إلى صفوفه، بهدف كبح جماح الروس، فالمضائق التركية هي المخرج الوحيد للسفن الروسية.

طريق للشحن الدولي والنقل الداخلي

يعد المضيق واحدا من أكثر الممرات البحرية ازدحاما في العالم، ورغم أنه ممر داخلي فإنه يلعب دورا مهما في النقل الدولي، حيث إن دولا -مثل رومانيا وبلغاريا وأوكرانيا وجورجيا المطلة على البحر الأسود- ليس لديها أي منفذ على البحار المفتوحة إلا من خلاله.

وقد ازدادت حركة المرور في البوسفور بشكل كبير بعد توقيع اتفاقية "مونترو". وتشير التقديرات إلى أن المضيق يفسح المجال لحوالي 50 ألف سفينة سنويا بالعبور، بمعدل بدأ يتجاوز 150 سفينة يوميا.

ويستخدم ما يقرب من 1.5 مليون شخص بإسطنبول مضيق البوسفور يوميا عبر المواصلات البحرية التي تُعد من أهم وسائل النقل الداخلي أثناء تنقلهم بين جانبي المدينة الأوروبي والآسيوي، إضافة إلى قوارب الصيد والسفن واليخوت السياحية التي تتجول باستمرار على امتداد المضيق.

فإذا أُخذت الملاحة المحلية بعين الاعتبار، فإن ما يقارب 1700 إلى ألفي مركبة بحرية تبحر بهذا الممر المائي يوميا لأغراض مختلفة.

شحن النفط

يُصنف مضيق البوسفور من بين الطرق البحرية الهامة لنقل النفط من روسيا، والتي تعد من أكبر منتجي النفط الخام البحري في العالم، بالإضافة إلى دول أخرى مثل أذربيجان وكازاخستان، لتصديره إلى مناطق تشمل آسيا وغرب وجنوب أوروبا والولايات المتحدة.

ويبلغ عدد الناقلات التي تعبر البوسفور بحمولة من النفط والمنتجات البترولية ونحوها حوالي 5500 ناقلة سنويا، أي ما يعادل حوالي 15 ناقلة يوميا.

وتشير التقديرات إلى أنه يمر عبر هذا المضيق أكثر من 3% من الإمدادات العالمية، والتي تقدر بحوالي 3 ملايين برميل نفط يوميا، أي ما يعادل نحو 20 مليون طن في سنة من المنتجات البترولية.

بقعة صيد فريدة

يعتبر البوسفور طريق هجرة موسميا للأسماك، حيث يربط بحر مرمرة بالبحر الأسود، كما تجذب الأسماك طبيعة تيارات المضيق والاختلاف في درجة حرارة المياه وملوحتها.

وبفضل هذه الهجرة التي تجري في أوقات مختلفة من العام، تتنوع الأسماك المتوفرة في المضيق باختلاف الموسم، وكذلك فإن البوسفور يعد نفقا بيئيا يستضيف المرور باتجاهين للعديد من الكائنات البحرية الأخرى.

وهذه البيئة الفريدة التي يوفرها المضيق بسبب موقعه المميز تجعله مركزا مهما لأنشطة صيد الأسماك، مما يساهم في إثراء اقتصاد المنطقة.

معلم سياحي شهير

على امتداد ساحلي المضيق الآسيوي والأوروبي تنتشر الأحياء العريقة والقرى والمنتجعات والمساكن والفيلات، كما شيدت القصور والمباني والحصون التاريخية العثمانية الشهيرة كقصر "دولما باهتشة" وقلعة "روملي" وقصر "سيراجان" وقصر "يلدز" وجامع "أورتاكوي".

وهو ما يجعل البوسفور ومحيطه من أهم الوجهات السياحية المحلية والأجنبية، حيث تتجول السفن السياحية واليخوت عبره لمشاهدة المعالم التاريخية، والتمتع بجمال الطبيعة أثناء المرور عبر الحد الفاصل بين أوروبا وآسيا، كما يقصد الناس سواحله العامرة بالفنادق والمطاعم والمقاهي للاستمتاع بالإطلالة الساحرة والمنظر الخلاب للمضيق.

الجسور والأنفاق

شيدت فوق مضيق البوسفور 3 جسور معلقة لتسهل حركة المرور بين القارتين، وهي:

جسر "شهداء 15 يوليو" وهو أول جسر يربط ضفتي المدينة، وكان يعرف سابقا باسم "جسر البوسفور". افتتح يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول 1973، ويبلغ طوله 1074 مترا وعرضه 39 مترا، ويصل بين منطقتي أورتا كوي (على الجانب الأوروبي) وبكلر بكيي (على الجانب الآسيوي).
جسر "السلطان محمد الفاتح" يقع على بعد 5 كيلومترات شمالا من جسر "شهداء 15 يوليو". افتتح عام 1988، ويبلغ طوله 1510 أمتار، بينما يبلغ عرضه 39.4 مترا، ويمتد من منطقة "حصار أوستو" بالجانب الأوروبي إلى منطقة "قافا جيق" بالجانب الآسيوي.
جسر "السلطان ياوز سليم" يعتبر علامة بارزة في تاريخ الهندسة التركية والعالمية، افتتح يوم 26 أغسطس/آب 2016، ويبلغ عرضه 59 مترا، ويحتوي على 10 مسارات، 8 منها للسيارات، واثنان للقطار السريع، ويرتفع عن سطح البحر 59 مترا، ويربط بين منطقة "ساريير" بالجانب الأوروبي، ومنطقة "بيكوز" بالجانب الآسيوي من إسطنبول.

كما يمتد تحت ماء البوسفور نفقان، هما:

نفق مرمراي الذي افتتح يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول 2013، وهو أعمق نفق في العالم لأنظمة سكك الحديد المغمورة تحت الماء، وهو مخصص لعبور القطار الذي يصل آسيا بأوروبا في مدة تبلغ 4 دقائق.
نفق أوراسيا، افتتح نهاية عام 2016، وهو أول نفق مخصص للسيارات من طابقين يمر تحت البحر في العالم، ويبلغ طوله 14.6 كيلومترا، ويربط بين الشقين الآسيوي والأوروبي من إسطنبول.

المعاهدات

وقع المضيق تحت سيطرة الدولة العثمانية منذ عام 1453، وكانت تسمح بمرور السفن التركية أو المبحرة في خدمة تركيا، ونظرا لموقعه الإستراتيجي المهم باعتباره ممرا للنقل الدولي، والممر المائي الوحيد لعبور السفن التجارية والعسكرية القادمة من البحر الأسود أو المتجهة نحوه، فقد تطلعت كثير من الدول للحصول على امتياز عبوره أو السيطرة عليه.

لذلك وُقعت العديد من المعاهدات الثنائية مع الدولة العثمانية أو المعاهدات الدولية التي كان القصد منها التحكم بالمضيق أو الحصول على امتيازات فيه، أو لأجل تنظيم حركة السفن التجارية والحربية التي تعبره.

ففي عام 177،4وقعت اتفاقية "كوتشك كينارجي" التي من خلالها استطاعت الإمبراطورية الروسية كسر الاحتكار العثماني للبحر الأسود، حيث ضمنت المعاهدة لها حق الملاحة بالمضيق، ولكن بعد خضوع سفنها للإيقاف والتفتيش.

وبحلول عام 1800، كان هذا الامتياز المحدود والمشروط قد حصلت عليه أيضا القوى التجارية الهامة وكافة الدول الراغبة في الاستفادة من ذلك، فقد اعترفت الدولة العثمانية بحق مرور السفن التجارية الأجنبية بالمضائق التركية بما فيها البوسفور، ولكن هذا الحق لم يشمل السفن الحربية.

وعام 1841، عقد اتفاق دولي يقضي بفتح المضائق أمام كل السفن التجارية وغلقها أمام السفن الحربية فيما عدا التركية منها، وأكد هذا الحق في معاهدة باريس 1856.

غير أن الدولة العثمانية -من أجل تأكيد سيادتها وضمانا لأمنها- كانت تقيّد اجتياز السفن ساعات النهار، مع إلزامها بالحصول على إذن كتابي مسبق يعطى لحراس القلاع الحربية على جانبي المضيق.

وبعد الحرب العالمية الأولى وما نتج عنها من هزيمة "قوات المحور" والتي كانت الدولة العثمانية جزءا منها، وقعت معاهدة "سيفر" عام 1920، وكان من بنودها تجريد مضيق البوسفور من السلاح، وجعله منطقة دولية تحت سيطرة عصبة الأمم.

وبعد انتهاء حرب الاستقلال وإعلان قيام الجمهورية التركية، عُدِّل هذا البند بموجب معاهدة "لوزان" عام 1923، بحيث أعيدت المضائق لتركيا، ولكن مع السماح لكافة السفن الأجنبية والشحن التجاري بالحرية الكاملة للمرور في المضيق، ووضعت قيود على مرور السفن الحربية.

ثم عُدِلت البنود مرة أخرى وفقا لمعاهدة "مونترو" التي منحت تركيا الحق بالسيطرة التامة على مضائق البوسفور والدردنيل، وضمان المرور للسفن المدنية وقت السلم، وتقييد مرور السفن البحرية التي لا تنتمي لدول البحر الأسود، كما أعطت لتركيا الحق في إغلاق الممرات البحرية حالة الحرب أو الأخطار المتوقعة.

وقد طالب الاتحاد السوفياتي سابقا أكثر من مرة بتعديل معاهدة "مونترو" بحيث تشترك دول البحر الأسود جميعا في الإشراف على الملاحة بالمضائق التركية، ويتضمن هذا المطلب تدويل الممرات المائية الإقليمية لضمان بقائها مفتوحة أمام السفن السوفياتية التجارية والحربية وقت السلم والحرب على حد سواء، إلا أن تلك المطالب قوبلت بالرفض.

لذلك لجأت روسيا إلى تدعيم علاقات تعاونية مع تركيا بهدف ضمان حرية الملاحة الروسية في البوسفور والدردنيل، وإبعاد شبح العزلة الدولية.

المخاطر

أدت زيادة حركة الشحن عبر مضيق البوسفور إلى زيادة المخاوف من وقوع حوادث كبيرة يمكن أن تكون لها عواقب خطيرة.

فنظرا لضيق عرض المضيق إلى حد كبير في بعض أجزائه، وأعماقه الضحلة أحيانا وشواطئه المتعرجة شديدة الانحدار وتياراته السطحية القوية وتَشَكُل الدوامات، إضافة إلى سرعة الرياح القادمة من الشمال وانتشار الضباب في بعض أوقات العام، يؤدي كل ذلك إلى صعوبة الإبحار وخطورته أحيانا.

كما أدت الزيادة في عدد السفن التي تعبر المضيق، والتي رافقها زيادة في حجمها واختلاف نوعية البضائع التي تنقلها، إلى ظهور مخاطر تهدد بيئة المضيق الطبيعية.

فنتيجة لتطور صناعة السفن، ازداد حجمها وحمولتها، وكذلك زادت نسبة السفن التي تحمل بضائع خطرة كالنفط الخام ومشتقاته، والتي ينتج عنها تلوث مياه المضيق وهواء البيئة المحيطة به، وتأثر مستويات الصيد سلبيا، مع احتمالية الانفجار والحريق.

وقد أدى التخوف التركي من وقوع حوادث وزيادة التلوث إلى إعداد لائحة المضائق التي تهدف إلى ضمان سلامة الأرواح والممتلكات والبيئة والملاحة في المضائق التركية، وقد دخلت اللائحة حيز التنفيذ عام 1994.

ولكن بعض الدول قامت بحملة مكثفة تهدف إلى تغيير القواعد وإيقاف الإجراءات التي طبقت وفقا للائحة، بدعوى أنها تتعارض مع اتفاقية "مونترو" وقواعد الملاحة الدولية. ولكن الاعتراضات التي استمرت 4 سنوات لم تقبل من "لجنة السلامة البحرية" (MSC) التابعة للمنظمة البحرية الدولية (IMO) حيث قررت في مايو/أيار 1999 أن نظام المرور المطبق بالمضائق التركية "فعال وناجح" في تعزيز السلامة الملاحية.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!