أحمد إشجان - عربي بوست

بدأت جمهورية شمال قبرص التركية مؤخراً في إنشاء طريق بيله – يغيتلر في قرية بيله الواقعة على الخط الأخضر الخاضع لسيطرة بعثة الأمم المتحدة، ويسكنها القبارصة اليونانيون والقبارصة الأتراك. كان هذا المشروع مخطط له بالفعل منذ 22 عاماً لتسهيل انتقال القبارصة الأتراك من القرية إلى شمال جزيرة قبرص المُقسّمة. ومع ذلك، اعترض جنود قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في الجزيرة العمل الذي بدأه الجانب التركي بدعوى أنَّه "محاولة لخرق الوضع الراهن في الجزيرة من خلال العمل على الخط الأخضر".

وضع جنود بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام كتلاً خرسانية في تلك المنطقة الفاصلة المقرر أن يمر الطريق عبرها، وأوقفت مركباتها في المنطقة المتاخمة لجمهورية شمال قبرص التركية. من ناحية أخرى، اعتبر الجانب التركي هذه الإجراءات بمثابة "تدخل أممي على أراضٍ ذات سيادة" وأزالت قوات الأمن القبرصية التركية مركبات البعثة الأممية من على حدودها بالجرَّافات، ما أدى إلى حدوث اشتباكات بين عناصر قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة وقوات الأمن القبرصية التركية، ما أسفر عن إصابة بعض رجال الشرطة والمدنيين. قد تتسبَّب محاولة عناصر البعثة الأممية وقف أعمال تشييد الطريق -والتي بدأها الجانب التركي لتخفيف معاناة قرية بيله وربطها بقبرص الشمالية- في إعادة تأجيج الوضع المعقد القائم في الجزيرة. دعونا نلقي نظرة على كيفية وصول جزيرة قبرص المُقسّمة إلى شطرين بين الأتراك واليونانيين إلى هذا الوضع.

استولت الإمبراطورية العثمانية على قبرص من البنادقة عام 1571 لتبقى الجزيرة تحت الحكم العثماني حتى عام 1878. عاش الأتراك المسلمون واليونانيون المسيحيون معاً على الجزيرة طوال هذه الفترة. قررت الإمبراطورية العثمانية تأجير قبرص للمملكة المتحدة للحصول على دعمها في صراعها ضد روسيا. احتلت المملكة المتحدة الجزيرة في عام 1914 بدعوى أنَّ الدولة العثمانية خاضت الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا. في الواقع، كانت جزيرة قبرص مهمة للغاية بالنسبة للمملكة المتحدة من أجل السيطرة على الطريق البحري المؤدي إلى الهند والطرق المؤدية إلى مستعمراتها. اعترفت دول أخرى بهذا الاحتلال البريطاني رسمياً بعد الحرب. ومع ذلك، بحلول خمسينيات القرن الماضي، بدأت تطورات قاسية تحدث بين الشعبين القاطنين في الجزيرة، الأتراك واليونانيين. أدت الأعمال المسلحة من جهة، وعدم التوصل إلى حل سياسي من جهة أخرى، وفشل المملكة المتحدة في إدارة هذه العملية إلى مذابح مختلفة في قبرص. وبينما تخلصت المملكة المتحدة من تلك المشكلات بمنح الجزيرة الاستقلال عام 1960 نتيجة اتفاقيات أُبرمت بين تركيا واليونان، كانت صراعات خطيرة لا تزال تنتظر سكان الجزيرة الأتراك واليونانيين.

في عام 1974، بالتزامن مع الانقلاب العسكري في اليونان، تحوَّلت مطالبات القبارصة اليونانيين في قبرص إلى لهجة خطابية حادة، وهو ما دفع تركيا، باعتبارها مجتمع لديه جذور مشتركة وواحدة من الدول الضامنة للوضع الراهن في قبرص، إلى اتخاذ إجراءات. من هنا، أطلقت القوات المسلحة التركية "عملية السلام" في جزيرة قبرص وتحوّلت الجزيرة إلى إدارتين منفصلتين، إدارة جنوب قبرص اليونانية وجمهورية شمال قبرص التركية. بات وضع الجزيرة بعد العملية العسكرية التركية موضوع مناقشات متفرقة. في عام 2004، فشل الأمين العام للأمم المتحدة، كوفي عنان، في محاولته لتوحيد قبرص بسبب قبول الجانب التركي ورفض الجانب اليوناني. في نفس العام، اعترف الاتحاد الأوروبي بإدارة جنوب قبرص اليونانية "ممثلاً شرعياً للجزيرة بأكملها" تحت اسم "جمهورية قبرص"، وهو ما يتعارض مع مكتسبات الاتحاد الأوروبي. تُمثّل القضية القبرصية أيضاً بُعداً مهماً لعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، وبعض قرارات حلف شمال الأطلسي "الناتو".

اكتسبت الأهمية الجيوسياسية للجزيرة بُعداً جديداً بعد اكتشاف احتياطيات الهيدروكربونات والغاز في منطقة شرق البحر المتوسط. جذبت قبرص مُجدّداً انتباه الأتراك واليونانيين باعتبارها معقلاً في وسط شرق البحر المتوسط. يرجع ذلك إلى أنَّ الجرف القاري للجزيرة أثبت أهميته من حيث احتياطيات الطاقة. بالإضافة إلى ذلك، عززت اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية بين دول شرق البحر المتوسط أهمية قبرص في هذا الصدد. أما فيما يتعلق بالنزاعات التركية-اليونانية، فيمكننا القول إنَّ الأهمية الجيوسياسية للجزيرة قد حظت بأسبقية على جميع النزاعات الأخرى.

ماذا تُبيّن لنا الأحداث الأخيرة؟ الإجابة عن هذا السؤال تتّضح من النبرة الحادة في خطاب الجانب التركي واليوناني (والأوروبي) في أعقاب تدخل قوات حفظ السلام الأممية لمنع أعمال بناء طريق قرية بيله. أدلى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ووزير الخارجية، هاكان فيدان، بتصريحات مطوّلة بشأن هذه القضية، مؤكدين فيها على ضرورة تحقيق الاستقرار في الجزيرة بينما أدلت وزارة الخارجية اليونانية بتصريحات تدين بناء الطريق وتدعم إجراءات قوة حفظ السلام الأممية. شرحت إدارة جنوب قبرص اليونانية الوضع لرئيس الوزراء اليوناني. على الجانب الآخر، صرَّح وزير خارجية جمهورية شمال قبرص التركية، تحسين أرطغرل أوغلو، بعبارات واضحة تماماً أنَّ هذا المشروع سوف يكتمل. على هذا النحو، يتضح جلياً أنَّ نزاع قبرص قد تأجج بحادث جديد آخر. على الرغم من تغيُّر الأحداث على مر السنين، لم تشهد مواقف الأطراف المعنية أي تغيير.

بينما تحمي تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية حقوق الشعب التركي في المنطقة، فإنَّ إدارة جنوب قبرص اليونانية واليونان تعرض ذلك للمجتمع الدولي باعتباره انتهاكاً. لكن التاريخ لم يعيد نفسه تماماً في هذه المرة. أرسل مجلس الأمن الدولي، الذي يضمن السلام والأمن الدوليين بموجب ميثاق الأمم المتحدة، بعثة أممية إلى قبرص لضمان السلام والأمن على تلك الجزيرة. لكن قوات البعثة الأممية، التي التزمت الصمت حيال الطرق التي بنتها الإدارة القبرصية اليونانية في وضع مماثل في عامي 1996 و2004، قد تخلَّت عن موقفها المحايد هذه المرة من خلال الاشتباك مع قوات الشرطة على طريق يحتاجه الناس، وتحاول جمهورية شمال قبرص التركية تشييده. أصبحت قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة عنصراً مزعزعاً للاستقرار في حد ذاتها، وهو ما يتجاوز كثيراً الغرض المرجو من وجودها على الجزيرة. يُمثّل التدخل العاجل للأمين العام للأمم المتحدة ضرورة أساسية لمنع نزاع قبرص من اتخاذ أبعاد جديدة.

ثمة سؤال آخر يجب طرحه بشأن تدخل قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مشروع بناء الطريق المعلن عنه مسبقاً -ومن ثمَّ المخطط له- ألا وهو مَن أعطى الأمر بالتدخل؟ في الواقع، على الرغم من أنَّ الأمم المتحدة والأوساط الدولية تدافع عن ما فعلته قوات البعثة الأممية بمزاعم مختلفة، لا يوجد توضيح بأنَّ أمر التدخل المُتسبّب في اندلاع تلك الاشتباكات جاء من مسؤول مختص. ومع ذلك، بموجب القانون الدولي، فإنَّ معرفة الشخص الذي أصدر الأمر وحشد جنود قوة حفظ السلام الأممية هو أمر غاية في الأهمية، لأنَّ من المعروف أنَّ نطاق صلاحيات قوة حفظ السلام محدودة للغاية ولا تستطيع قواتها اتخاذ قرارات خارج هذا النطاق بمفردهم. ثمة احتمالان في هذه الحالة: إما أنَّ البعثة الأممية المتمركزة في الجزيرة باتت معيبة جداً لدرجة أنَّها غير قادرة على الالتزام بالقواعد والاضطلاع بالمهمة المسندة إليها -ومع ذلك لا تزال منظمة الأمم المتحدة تحمي تلك البعثة- أو أنَّ عناصر البعثة الأممية قد تلقت هذا الأمر غير القانوني من مسؤول مختص -وهو ما ينذر بوضع أخطر كثيراً.

بالنظر إجمالاً إلى عدد من التطورات، مثل رفع الولايات المتحدة حظر توريد الأسلحة المفروض منذ 35 عاماً على الإدارة القبرصية اليونانية في عام 2022 والدعم بطريقة ما سباق التسلح في الجزيرة والحاجة المتزايدة إلى الموارد الغنية في المنطقة والتسابق في هذا الصدد والتصريحات المتواصلة الصادرة من الدول الأوروبية ضد جمهورية شمال قبرص التركية، وأخيراً تدخل قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة لمنع بناء طريق قرية بيله، سيظهر لنا وضع تُعزل فيه جمهورية شمال قبرص التركية، وتضفي المنظمات الدولية والمجتمع الدولي الشرعية على احتلال قبرص الشمالية، تماماً كما أضفى الشرعية على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. يتضح ذلك في قول رئيس جمهورية شمال قبرص التركية، أرسين تتار: "يريدون إجبارنا على الهجرة من هنا. يريدون إضفاء الشرعية على ما يسمى بجمهورية قبرص في انتهاك للقانون الدولي، وإقصاء الأتراك من هذه الجمهورية المزعومة".

يُمثّل التدخل غير القانوني لقوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة تعدياً على سيادة الدول وتجاوزاً لحدود سلطاتها وصلاحياتها. حاولت قوات حفظ السلام الأممية منع بناء طريق من شأنه أن يفيد اليونانيين والأتراك في المنطقة. هذا يتعارض تماماً مع المهمة الشاملة لتلك البعثة التابعة للأمم المتحدة. للأسف، لا تُعد هذه الممارسات غير القانونية جديدة على الأمم المتحدة. عندما تعرّض مسلمو البوسنة لمذابح على يد الصرب خلال الفترة من عام 1992 حتى 1995، تدخلت الأمم المتحدة بعد فوات الأوان. في عام 2011، تدخلت الأمم المتحدة تدخلاً غير قانوني في ليبيا بدعاوى "إنسانية"، وهو ما ترك البلاد في حالة من الفوضى؛ وهي أيضاً نفس المنظمة الدولية التي تراقب الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ سنوات. لذا، ما يمكننا فهمه أنَّ الأمم المتحدة غير قادرة على تجاوز مصالح الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن فيما يخص العديد من القضايا. من هذا المنطلق أيضاً، لا يمكننا النظر إلى موارد الطاقة في قبرص، والتي ازدادت أهميتها في ظل أزمة أمن الطاقة الناجمة عن الحرب الروسية-الأوكرانية، بمعزل عن مصالح الولايات المتحدة وحليفتها الدائمة، إسرائيل.

عن الكاتب

أحمد إشجان

كاتب وباحث تركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس