ياسين أقطاي - الجزيرة مباشر

يرى العالم كله اليوم ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي من هجمات وحشية مستمرة تجاوزت أربعين يومًا على سكان غزة الذين يعيشون بالفعل في حصار وظروف شديدة الصعوبة منذ 17 عامًا. وتكشف تلك الهجمات يومًا بعد يوم الوجه الحقيقي للاحتلال أمام العالم، كما تشير بأصابع الاتهام بالفعل إلى كل من يدعمه أو يقف وراءه. ويُصبح من الواضح أكثر فأكثر مع كل فعل تقوم به إسرائيل أنها في الحقيقة ليست دولة؛ فهي تتصرف مثل التنظيمات المسلحة التائهة الخارجة على القانون التي لا تستند إلى أي أصول.

وبعد مدة طويلة من استمرار القتال، وبناء على طلب أمريكا، كان من المتوقع أن تنفذ إسرائيل أول تطبيق لوقف القصف لمدة أربع ساعات يوميًّا، ولكنها انتهكت الاتفاقيات مرة أخرى وقصفت المستشفيات في الوقت الذي كان عليها عدم القيام بذلك.

والحقيقة أن هذا سلوك طبيعي من الكيان الإسرائيلي؛ فقد فعل الشيء نفسه في جميع مفاوضات السلام مع الفلسطينيين. كما أن هذا الكيان كثيرًا ما يقدم تعهدات ببعض القضايا، ويستخدم كلمة السلام أحيانًا ليبدو مسالما، لكنه لا يلتزم بأي من تلك الوعود، ولذلك فإن وعوده لا ثبات لها وكأنها كتابة على الماء.

وخير مثال على هذا النهج الإسرائيلي أنه في كل المفاوضات مع الفلسطينيين التي جرت بوساطة أمريكية، كان من أهم الشروط التي قبلها الكيان هو عدم إنشاء مستوطنات جديدة. ومع ذلك فإنه في كل مرة -على الرغم من إظهار الالتزام بشروط المحادثات- يستمر في بناء مستوطنات جديدة على حساب الأراضي الفلسطينية التي يغتصبها من أصحابها الفلسطينيين، بشكل أسرع من ذي قبل، وكأن إسرائيل تستهزئ بالعالم كله.

وهكذا يظهر بجلاء أن إسرائيل ليس لديها أي مستوى حقيقي من الوفاء بالوعود؛ لذلك لم تكن هناك مفاجأة في عدم التزامها بوقف القصف والمجازر مدة الساعات الأربع التي تم الاتفاق عليها. كما أن الطلب الذي تقدمت به أمريكا في الحقيقة ليس سوى دعم لقوات الاحتلال الإسرائيلي وتشجيع لها على جرائمها بدلا من العمل على وقف المجازر. وكذلك فإن هذا الدعم الأمريكي غير المحدود يمثل مصدرًا مهمًّا لقوة إسرائيل.

ولكن كما قلنا من قبل، نقلًا عن الكاتب والمفكر المصري عبد الوهاب المسيري: إن هناك مصدرًا آخر لقوة إسرائيل هو اللامبالاة غير المحدودة من جانب الدول العربية. والحقيقة أن هناك ما هو أكثر من مجرد اللامبالاة؛ حيث يتطلع العديد منها إلى هزيمة حماس على يد إسرائيل علاوة على أنهم -مع الأسف- يقدمون الدعم اللازم سرًّا أو علنًا لتحقيق هذه الغاية.

ومع ذلك، لم يعد هناك احتمال الآن لهزيمة حماس التي نجحت وما زالت مستمرة في إلحاق الهزائم بإسرائيل، وتمكنت من تحطيم جميع الأساطير المرتبطة بقوة إسرائيل العسكرية والاستخبارية والإعلامية والسياسية، رغم الإمكانيات الضعيفة لحماس مقابل ما لدى الاحتلال. فقد نجحت حماس في تحقيق أهدافها وأشعلت شعلة الحرية والاستقلال بصورة غير مسبوقة ليس في العالم الإسلامي فحسب بل في أعين جميع شعوب العالم. وهكذا صار نجاح حماس كابوسًا يزلزل عروش كل من يريدون تدميرها، وكل تدابيرهم لن تغني عنهم شيئًا بل ستكون سببًا في نهايتهم أسرع مما يتخيلون.

وفي هذا السياق من المناسب أن نتذكر عبارة هايديجر المقتبَسة من شعر هولدرلين: “حيثما يكبر الخطر، تكبر القوة المنقذة أيضًا”. فالعالم تحت سيطرة الصهيونية الزائفة والمستغلة والظالمة والمجرمة، يبتعد يومًا بعد يوم عن الإنسانية؛ فالصهيونية تجعل الظلم والفساد والفوضى والاستغلال والمجازر عادة وأمرًا طبيعيًّا؛ وبذلك تشكل خطرًا كبيرًا على الإنسانية، وتُغرقها في الفساد باستراتيجيتها في إثارة النعرات وإفساد الأجيال وانتهاك المقدسات والابتعاد عن العدالة؛ ليصير الاضطهاد والظلم مهيمنًا وكأنه أمر طبيعي تألفه النفوس.

وتطبيع هذه العادات هو الأكثر خطورة؛ حيث يمكن أن تقود مَن يريدون الخروج من هذه الدائرة إلى يأس كبير، وهذا هو مكمن الخطر. ومع ذلك فإن إرادة الله فوق كل شيء، وكذلك ما منحه الإنسانَ من إرادة تساعده على إيجاد المخرج الذي يبحث عنه. والمهم هنا أن يؤمن الإنسان بأنه يستحق الحرية، وأن مع كل عسر يأتي اليُسر. ففي قطاع غزة الذي خنقته إسرائيل بما لديها من قوة مسلحة، هناك انتصرت كتائب القسام وأهانت تلك القوة الشرسة والمتغطرسة الظالمة التي يقال إنها لا تقهر.

وربما يرى البعض أن رجال المقاومة ربما ضحوا بأنفسهم، لكنهم في الواقع أظهروا أيضًا أنه لا توجد قوة لا تُقهر. إضافة إلى أن أولئك الذين يتطلعون إلى هزيمة حماس على يد القوة الصهيونية المحتلة سيرون بالطبع نور الثورة التي ستطيح بهم.

لقد استخدمنا من قبل مصطلح ميتافورا “شبكات العنكبوت”، وهو الوصف الذي وسم به المفكر عبد الوهاب المسيري قوة إسرائيل والصهيونية. فقد كرس المسيري جزءًا كبيرًا من حياته لدراسة إسرائيل والصهيونية. وهذه الدراسات قيِّمة جدًّا تأخذ بأيدينا للتعرف على الصهيونية بجميع أبعادها.

وعلى سبيل المثال، يذكر المسيري في أواخر التسعينيات أنه يوجد في مكان ما في إسرائيل عدد كبير من المتاحف يصل إلى 1500 متحف أثري. ويشير إلى أن ذلك الاهتمام الواضح يكشف تركيز إسرائيل على إيجاد أساس للإعجاب بالذات وتعظيمها، وزيادة ادعاءات التفوق اليهودي. ولكن من ناحية أخرى، فإن الحقيقة وراء هذا التركيز هي محاولة إيجاد جذور للذات الإسرائيلية؛ لأنهم لا يملكون أي جذور حقيقية لما يَدَّعُون.

ولذلك من الضروري أن تبحث في أعماق التاريخ من أجل دعم دعواهم من خلال ثقافات مختلفة وعصور مختلفة وبيئات اجتماعية مختلفة. ولكنها في الواقع بقدر ما تتقدم في هذه الطريق فإنها تبتعد كثيرًا عن الظروف الحالية وقوانينها وكذلك عن التاريخ الحقيقي الذي لا يمكن تزييفه.

يمكن للمرء أن يبتعد عن تاريخ اليوم بقدر ما يريد، يمكنه أن يعيش في أوهام أصوله، لكن المشكلة لا تكمن في استعداده للذهاب في طريق أوهامه المتصلة بأصله، بل في محاولته دفع البشرية جمعاء إلى حيث يريد. وهذا هو بالضبط ما تحاوله الصهيونية. وفي المقابل يسعى المسلمون لدفع البشرية إلى الأمام إلى الحرية والنهضة ليس للمسلمين فقط بل للإنسانية أجمع.

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس