ترك برس

توجت الاجتماعات الأمنية رفيعة المستوى بين المسؤولين الأتراك والعراقيين مؤخراً، بإعلان بغداد ولأول مرة "بي كا كا" تنظيماً إرهابياً محظوراً على أراضيها، لتنتقل الأنظار بعد ذلك إلى المحطة التالية في العلاقات بين البلدين الجارين، لا سيما مع وجود العديد من الملفات الأخرى العالقة مثل المياه والانتشار العسكري التركي شمالي العراق.

الكاتب حسام عمر وفي مقال له على موقع "ميدان" بعنوان "تركيا.. ماذا بعد الزيارات رفيعة المستوى إلى العراق" على المرحلة المقبلة في العلاقات بين أنقرة وبغداد.

وقال الكاتب إن "الزيارة التي قام بها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى بغداد مؤخراً، صحيح أنها لم تكن الأولى من نوعها، إذ سبقها جولة له خلال شهر أغسطس/آب 2023 استغرقت ثلاثة أيام، التقى خلالها بعدد كبير من الشخصيات الحكومية والزعامات السياسية والحزبية في العاصمة العراقية وفي مدينة أربيل بإقليم كردستان العراق، إلا أنني أجزم بأن هذه الزيارة الأخيرة تتسم بأهمية بالغة، تجعلها أكثر من مجرد زيارة بروتوكولية عادية، ويرجع ذلك ابتداء لعاملين أساسيين هما طبيعة الوفد المرافق له، وتوقيت الزيارة نفسها."

وأضاف: "فقد جاءت طبيعة تشكيل الوفد المرافق لوزير الخارجية لتشير إلى أهمية الزيارة، حيث ضم الوفد كلا من وزير الدفاع يشار غولر ورئيس الاستخبارات إبراهيم قالن، وهما يترأسان سلم كبار المسؤولين الأتراك المنوط بهم صياغة وتنفيذ الخطط العسكرية والأمنية للبلاد، بخلاف الحال في الزيارات السابقة التي ضمت وزراء ومسؤولين تكنوقراط في مجال الطاقة وخلافه."

وفيما يلي النص الكامل للمقال:

وأما من ناحية التوقيت، فقد أتت هذه الزيارة بعد زيادة وتيرة تعرض القوات التركية للعديد من الهجمات التي أودت بحياة العشرات من عناصر الجيش التركي والتي يُتهم بارتكابها تنظيم حزب العمال الكردستاني بي كيه كيه انطلاقاً من معاقله في جبال قنديل شمال العراق حيث أدت تلك العمليات وتكرار سقوط ضحايا من الجيش التركي إلى توجيه أسهم النقد من قِبل المعارضة التركية للحزب الحاكم وإدارته.

يتزامن ذلك مع استمرار تفاقم الأوضاع العسكرية والأمنية في المنطقة سواء من حيث تواصل الحرب في غزة دون وجود أفق للحل، أو من حيث انحسار الملاحة وحركة النقل البحري في مضيق باب المندب نتيجة لتزايد هجمات الحوثيين في اليمن.

وفي ضوء ما سبق، فإن الأمر الذي قد يطرأ على الذهن مباشرة أن تركيا تستعد لعملية عسكرية واسعة ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق..!!

دعوني هنا أذكر بشيء.. قبل أيام من هذه الزيارة، نشر موقع ميدل إيست آي مقالاً أكد فيه أن تركيا تتجهز للقيام بعملية عسكرية نوعية واسعة النطاق، ربما خلال الصيف المقبل، تستهدف معاقل تنظيم بي كيه كيه في شمال العراق. ولفت المقال النظر إلى أنه من المرجح أن تكون التحركات التركية الأخيرة وزيارة الرئيس أردوغان المتوقعة إلى بغداد الشهر المقبل والزيارات رفيعة المستوى التي تسبقها، ممهدة لأن يكون التدخل التركي ليس فقط عبر ضربات جوية كما اعتاد سابقا، وإنما يحتمل أن يكون التدخل هذه المرة برياً وربما طويل الأجل.

إذن، هل حدث تغير جيوسياسي بالمنطقة يجعل من هذا التدخل التركي أمرا ممكنا وملحاً أكثر من أي وقت مضى؟

وللإجابة على هذا التساؤل فإنني يمكنني أن أستعرض بعض العوامل التي تصب في كون الظرف الزمني أفضل من أي وقت للإجهاز على تنظيم بي كيه كيه في العراق.

مشروع طريق التنمية العراقي

يمتلك العراق دراسات جدوى تهدف لإنشاء "مشروع طريق التنمية" وهو مشروع تم تقدير تكلفته بنحو 17 مليار دولار، هذا الطريق يمر داخل الأراضي العراقية بطول 1200 كيلو متر ويشمل طريقا بريا وسكة حديدية ويربط بين طرق التجارة من آسيا ودول الخليج جنوبا حتى ميناء الفاو في محافظة البصرة جنوب العراق ثم ينطلق شمالا حتى يصل إلى مدينة أوفاكوي التركية الحدودية ومنها إلى الأسواق الأوروبية عبر الأراضي التركية.

هل لفت نظرك شيء؟ نعم إن هذا الطريق يتقاطع مع أماكن نفوذ حزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان العراق.

لذلك فإن أحد أهداف التحرك التركي البري المحتمل هو القضاء على عناصر التنظيم المنتشرة في جبال متينا وكاره في دهوك شمال العراق حتى يمكن توفير الحماية والتأمين لأعمال الإنشاءات الخاصة بالمشروع العراقي من ناحية وكذلك توجيه ضربات تركية حاسمة للتنظيم للقضاء على العمليات التي يستهدف بها أمن واستقرار تركيا وحدودها الجنوبية وقواتها المسلحة من ناحية أخرى.

وعلى ذلك يمكننا القول إن توافقا تركيا عراقيا و"بمباركة إيرانية"، على توجيه تلك الضربة العسكرية المشتركة ضد التنظيم الكردستاني، يكون مطلوبا بشدة، خاصة وأن هذا التنظيم يمثل عامل زعزعة للأمن والاستقرار في تلك المنطقة ومهددا لمصلحة العراق في أن يمر من خلال أراضيها ممر دولي حيوي للتجارة يجعلها تتصل بقلب الاقتصاد العالمي ويكون بمثابة منافس لطريق الهند الذي سوق له رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو في سبتمبر/أيلول الماضي بالأمم المتحدة.

لكن لماذا ذكرنا إيران في معرض الحديث عن هذا الأمر؟

الموقف الإيراني

تعتبر إيران ولا شك من أكبر القوى الإقليمية التي تتحكم في كثير من قواعد اللعبة السياسية داخل العراق بما في ذلك دعمها -من حين لآخر- لتنظيم بي كيه كيه أو للتنظيمات الأخرى المتحالفة معه مثل تنظيم وحدات المقاومة بإقليم سنجار والقريب من بعض عناصر قوات الحشد الشعبي المدعوم إيرانيا.

ويرجع السبب وراء الدعم الإيراني لتنظيم بي كيه كيه سعيها إلى إضعاف أحزاب المعارضة الكردية داخلها، مثل حزب كردستان الديمقراطي الإيراني وحركة كومله الناشطة سرا داخل البلاد، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى استخدام إيران هذا الدعم كورقة للضغط على تركيا كلما تطلب الأمر ذلك خاصة وأن الأخيرة تدعم بدورها تنظيمات أذرية انفصالية في شمال إيران.

إلا أنني أعتقد أن التطورات الراهنة في الإقليم وما أعقبها من زيارة الرئيس الإيراني الأخيرة إلى أنقرة في فبراير/شباط الماضي ربما أدى إلى بلورة تفاهم بين البلدين وتقريب وجهات النظر في الملفات الخلافية وعلى رأسها تحجيم أنشطة حزب العمال الكردستاني الإرهابية في شمال العراق.

كما أنه من المعروف أن حزب العمال الكردستاني هو ذراع متقدمة للمعسكر الغربي سواء من حيث التمويل أو التسليح أو التدريب العسكري الذي ترعاه عدة دول غربية وتتولاه على الأرض أجهزة مخابرات الكيان الصهيوني وما يرتبط بها من شبكات العملاء.

وبالتالي لا عجب أن تغير إيران موقفها من التنظيم وتتخلى عن دعمها له داخل العراق لتحقيق مصلحة أهم لها مع تركيا وربما الحصول على مكاسب في ملفات خلافية أخرى مثل سوريا أو القوقاز.

كما أن مباركة إيران للعملية التركية العراقية المشتركة لتأمين إنشاء طريق تجاري عالمي يمر بالعراق ويربط بين آسيا وأوروبا، يجعلها تؤسس لمكسب جيوسياسي قد ينتج عنه إحكام حصارها الاقتصادي للكيان المحتل ومطبعيه، فمن خلال إفساحها المجال لإنشاء هذا الممر التجاري الدولي القريب من حدودها، يصبح الطريق الذي تكلم عنه نتنياهو سلفا، والرابط بين الكيان والهند عبر بعض الدول العربية، بلا فائدة، خاصة وأن هذا الطريق كان يهدف أساسا إلى تعويض بعض خسائر الكيان الناتجة عن إغلاق باب المندب بفضل عمليات الحوثي في البحر الأحمر.

أين أميركا من هذا..!!

تأتي كل هذه التطورات في ظل انشغال الولايات المتحدة بالعديد من الملفات الداخلية والخارجية التي تراكمت عليها في الآونة الاخيرة والتي قد لا تجعلها تقف بقوة أمام التحرك التركي الوشيك، بل وقد تدفعها باتجاه تفهم مخاوف حليفتها في حلف شمال الأطلسي.

فداخليا، هناك مسألة الانتخابات الرئاسية الأميركية التي أصبحت تفصلنا عنها بضعة شهور والتي تضغط بشدة على بايدن خاصة في ظل تراجعه في استطلاعات الرأي لصالح ترامب، منافسه العائد بقوة.

‏أما خارجيا، فإن استمرار التورط الأميركي في الحرب على غزة وتفاقم الوضع الإنساني وانعدام أفق الحل من شأنه أن يخلق ضغطا دبلوماسيا مطرداً عليها في كثير من المحافل الدولية بسبب دعمها المطلق والمتهور للكيان الصهيوني في حربه الهمجية على القطاع.

‏كما أن تعرض الولايات المتحدة إلى هجمات استهدفت قواعدها العسكرية انطلاقا من العراق من قبل التنظيمات الموالية لإيران وذلك بعد اندلاع الطوفان، أصبح يمثل تهديدا للوجود العسكري الأميركي عبر قواعدها في المنطقة ويضغط عليها لربما باتجاه اتخاذ قرار بسحب قواتها من العراق وسوريا. ناهيك عن تورطها‏ عسكريا في التصدي للتهديدات الحوثية في البحر الأحمر.

وفي ضوء ما سبق، قد لا يكون أمام واشنطن سوى أن تبدي تفهما للمخاوف التركية والتحركات العسكرية المترتبة عليها، وقد بدأت بالفعل مؤشرات هذا التفهم تتضح، بعد زيارة وزير الخارجية التركي الأخيرة إلى واشنطن والإعلان عن إنشاء آلية إستراتيجية بين البلدين لمناقشة الملفات السياسية والعسكرية المشتركة، الأمر الذي قد يفتح المجال لقدر أكبر من التنسيق بين البلدين في ما هو قادم من تحركات تركية محسوبة.

وبناء على كل ما سبق، يمكننا القول إن تركيا تمضي باتجاه خطوة كبيرة قد تحقق لها أكثر من هدف إستراتيجي كانت دوما تسعى إلى تحقيقه، ويبدو أنه قد حان وقته.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!