د.مصطفى حامدأوغلو - خاص ترك برس

تخوض تركيا غداً انتخابات بلدية محلية ، لكنها بطعم رئاسية سياسية، هي ككل الانتخابات التركية هامة ومفصلية ، لما سيترتب عليها من نتائج وانعكسات ، ليس على المستوى المحلي فقط ، بل على المستوى السياسي العام.

درجت العادة أن توصف كل الانتخابات التركية بأنها هامة ومفصلية ، وهذا صحيح ، وحقيقة واضحة ، كون كل انتخاب يحمل بطايته عدة منعطفات ومضاعفات تجعله بهذه الاهمية ، لكن أن تكون انتخابات محلية وخاصة بلدية اسطنبول بهذه الاهمية والحساسية فربما تكون الفريدة من نوعها والأولى منها وقد تكون الأخيرة أيضاً.

تصريح الرئيس أردوغان عشية الانتخابات الرئاسية واشارته لانتخابات اسطنبول في تلك الدقائق الأولى من الفوز ، وتحديد الهدف الجديد في غمرة الفرحة بالفوز هو أكبر مؤشر على درجة الحرص والتحدي والمنافسة على اسطنبول ، وأهمية انتخابات البلدية هذه المرة..

فهل بالفعل مهمة هي بلدية اسطنبول لهذا الدرجة ..!؟

نعم هي مهمة لعدة اسباب وخاصة هذه المرة ...

أولا لثقل مدينة اسطنبول السكاني فهي صورة مصغرة لتركيا ، ومكانتها التاريخية والاقتصادية والسياحية وحتى السياسية لعدد ممثليها بالبرلمان ..

لكن رمزية بلدية اسطنبول على مر العقود الماضية، والقول التركي الشهير "من ينجح بادراة اسطنبول ينجح بإدرة تركيا، وطريق رئاسة تركيا يبدأ من رآسة اسطنبول هو الذي اضفى ميزة جديدة لها.

أردوغان الذي نجح بهذه المقولة جعل انتخابات بلدية اسطنبول من بعده تحمل هذه القيمة المضافة ، وهذا ما حاول فعله رئيس بلدية اسطنبول الحالي أمام اوغلوه

وهذا هو السر ايضا الذي يجعل الانتخابات الحالية تحامل هذا  الثقل السياسي والاهمية بالنسبة لأردوغان وامام اوغلو على السواء.

ايضا تأتي هذه الانتخابات بعد خسارة كبيرة للمعارضة التركية بالانتخابات البرلمانية الماضية مما جعل هذه الانتخابات بمثابة العودة للتوازن بعد الغيبوبة التي عاشتها بالانتخابات الماضية وخاصة بالنسبة للحزب الجمهوري ورئيس بلدية اسطنبول الذي وضع كل ثقله بالانتخابات الرئاسية حيث كان مرشحا لمنصب معاون الرئيس في حال الفوز.

فهي بمثابة عودة اعتبار ومنعرج للاستمرار نحو هدف الرئاسة حلمه القديم الجديد..

كبوة فارس.!؟ أم ماذا!؟

أردوغان فاز برئاسة بلدية اسطنبول بالعام 1994 رغم كل الظروف السلبية التي كانت تقف بوجهه تلك الايام، من تعتيم اعلامي ومحاربة من القوى الاعلامية والسياسية والدولة العميقة والمؤسسات الاقتصادية، وعدم وجود التقبل الشعبي العام الواسع لحزب الرفاه في تلك الحقبة التاريخية .

استطاع أن يحقق وبفترة قصيرة ، انجازات ملموسة كانت تعتبر  شبه مستحيلة مما مهد لاستمرار العهد الاردوغاني حتى خسارة البلدية بشكل مذهل وغير متوقع بالانتخابات الماضية بالعام 2018

إقالة رؤساء بلديات أسطنبول وأنقرة وبعض المدن الكبرى  قبيل الانتخابات الماضية ، أمر لم يستطع أحد فهم سره حتى هذا اليوم ، وربما ترك جرحا عميقا وكان له تأثيرا سلبياً على نتائج الانتخابات ، مع العوامل السلبية الاخرى التي تتعلق بالمرشحين وترهل الكوادر الحزبية حينها، واجتماع المعارضة وتوحدها ضد مرشح العدالة والتنمية كانت نتيجتها خسارة بلديات أنقرة واسطنبول لأول مرة منذ الفوز بها بالعام 94 وهذا سبب انقطاع بمسيرة الخدمات البلدية وتضعضع عام لبلديات المناطق بعد فقدان الانسجام مع بلدية اسطنبول الكبرى.

صحيح أن العدالة والتنمية حاز على معظم بلديات اسطنبول الفرعية وعلى الأغلبية بمجلس بلديةاسطنبول ،لكن العصى التي تدق الطبل والقلم الذي يملك القرار أصبح بيد غيرهم .

وهذا ما يجعل العدالة والتنمية والرئيس أردوغان يضعون الفوز برئاسة بلدية اسطنبول الكبرى برأس هرم الألويات والاهتمامات.

النظام الرئاسي وتركيا:

انتقلت تركيا للنظام الرئاسي بشكل سريع ومفاجئ بعد تصريحات رئيس الحركة القومية دولة بهجلي مطالباً الرئيس أردوغان إما التقيد بالنظام البرلماني السابق وهذا ما لا ينسجم مع طبيعة أردوغان وتصريحاته ، بأنه سيكون رئيسا مختلفا عن بقية الرؤساء ، أو الانتقال لنظام رئاسي يسمح لرئيس الجمهورية ممارسة السياسة والانتساب للأحزاب، وهذا ما صوت عليه الشعب التركي بفارق بسيط وانتقال تركيا لنظام رئاسي جديد،  يعترف الجميع- الحزب الحاكم والمعارضة- بأنه بحاجة لاصلاحات وتحسينات من خلال تشريعات قانونية ينوى الحزب الحاكم القيام بها بهذه الفترة البرلمانية..

هذا النظام الرئاسي وبدل أن يصقل الاحزاب الصغيرة ويذيبها ضمن حزبين رئيسيين مثل أمريكا ، على العكس من ذلك رأينا بالانتخابات الماضية أن الاحزاب الصغيرة امتلكت أوراق تفاوضية قوية بل وصلت لدرجة الابتزاز والتفاوض على مناصب عليا وكبيرة مقابل نسبة أصوات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة بل وأقل من ذلك بكثير ، وما اتفاقية كليجدارأوغلو مع رئيس حزب الظفر أو المقاعد التي حصل عليها داوودأوغلو وعلي بابجان وحزب السعادة وغيرهم إلا أكبر دليل على ثغرة جديدة أو من مضاعفات أو مزايا  هذا النظام الرئاسي الجديد.

نجل أربكان والتوازنات الجديدة

بعد وفاة الزعيم الروحي والمؤسس لكل هذه الحركات السياسية المحافظة الحالية ،حاولت عدة أحزاب تبني الارث السياسي لأربكان منها حزب العدالة والتنمية وحزب السعادة وحزب الخاص الذي كان يتزعمه رئيس البرلمان الحالي نعمان كورتلموش ونجل أربكان بزعامة حزب الرفاه من جديد

سياسة حزب الرفاه من جديد كانت أكثر اعتدالاً  ووقعية وتحضيراً لمرحلة مابعد أردوعان حيث حظيت هذه السياسة بقبول شعبي ووجد بعض المنزعجين من بعض تصرفات الحزب الحاكم متنفساً لهم ، بدل الذهاب للبديل النقيض ..

هذه السياسة جعلت التوافق  ممكناً بين الحزب الحاكم وحزب الرفاه من جديد وانضمام الأخير وحصوله على مقاعد بالبرلمان الحالي ، ما كان ليحصل عليها لو خاض الانتخابات لوحده بشكل مستقل.

لكن هذا الانسجام والمؤازرة لم تحصل هذه المرة،  وخاصة ببلدية اسطنبول حيث التنافس الحاد بين امام أوغلو ومراد كروم  مرشح الاتفاق الجمهوري، وحيث الحاجة ماسة وملحة لهذا الدعم بهذا الوقت الحرج..

أسباب كثيرة يقال أنها وراء عدم حصول الاتفاق ، من أهمها كما ذكرنا محاولة الاحزاب الصغيرة الحصول على أكبر المكاسب ، وتضخيم المطالب  والابتزاز من خلال التهديد بورقة " التفشيل" يعني صحيح أنني لن أفوز أنا ، لكن بدون دعمي ستخسر أنت أيصاً..

وربما هذه من مفرزات النظام الرئاسي كما قلنا ...

وهناك من يرى أن اسباب عدم الاتفاق هو اللوبي المعارض للتقارب مع العدالة والتنمية والذي يطمح بفرص أكبر في حال حصول الفراغ بتركيا ، وهذا اللوبي غالبيتهم من العائدون من حزب السعادة الذي أوصلوه للحضيض..

أربكان الأبن الذي يطمح بدور سياسي بالانتخابات الرئاسية القادمةوفترة مابعد أردوغان ، ربما سيكون هو أول من يطلق الرصاص على قدميه من حيث لا يدري  في حال تسهيل فوز امام اوغلو  بهذا الانتخابات..

وهذا الحرص نراه في كثير من الدول والاحزاب حيث يكون الحرص الشخصي أو الحزبي هو خسارة للجميع ولكل المكاسب الأخرى...

الفائز بانتخابات بلدية اسطنبول اذا كان امام اوغلو فمن المؤكد أنه سيكون رجل الانتخابات الرئاسية القادمة بالعام 2028 وعصب المعارضة التركية بتلك الانتخابات .

امام وغلو ورغم فشله الذريع برئاسة بلدية اسطنبول ورغم نسيانه تعهداته الانتخابية ورغم تصريحه بذلك بكل تبجح وعلانية بدون أي تردد ، لا يزال متصدرا استطلاعات الرأي وهذا أمر يستدعي الوقوف عنده والتعمق به ودراسته من عدة نواحي ، وهو دليل على تخندق شعبي واصطفاف سياسي بعيداً عن كون هذه الانتخابات هي انتخابات خدمية ومحلية وبلدية..

مرشح الاتفاق الجمهوري مراد كروم رجل المهام والانجاز حرص منذ البداية على التركيز على المشاريع والخدمات والانجازات واستطاع تقليص الفارق بينه وبين اماماوغلو خلال فترة وجيزة  وتقدم عليه ببعض استطلاعات الرأي بالأيام الأخيرة..

استطلاعات الرأي تشير لمنافسة حادة ومتقاربة جدا بين المرشحين مراد كروم وأماماوغلو بفارق نقطة أو نقطتين وربما أقل من نقطة،وإن كانت هناك بعض الاستطلاعات تعطي كلا الطرفين فارق أكثر من ذلك...

لوبي اسطنبول القوي الداعم لإمام أوغلو استطاع التوفيق بين حزب "دم" الجديد المنحاز لتعليمات جبال قنديل ومنع المرشحة القوية زوجة ديمرطاش وترشيح نيابة عنها مرشحة ضعيفة وتوقيع اتفاق ضمني لدعم امام اوغلو باسطنبول ،  واستطاع اقناع الرفاه الجديد ترشيح شخصية لها رمزية باسطنبول من أجل سحب أصوات من العدالة والتنمية ، استطاع ايضا بدعايات قوية التغطية على فشل امام اوغلو الذريع مما جعل أمام اوغلو لايزال منفاساً قوياً إن لم يكن متقدماً ...

مراد كروم سيكون مكسبا كبيرا لاسطنبول في حال الفوز الذي يمسك بطرف خيطه الآن ، ويبقى الأمر منوطا بالاصوات التي ستذهب هباءا لمرشح لن يفوز مثل حزب الرفاه من جديد وبقية الأحزاب الاخرى وهذا ما يجعل أربكان الأبن أمام موقف تاريخي هام ومفصلي

أردوغان دفع بكل ما يملك من أجل الفوز من جديد ببلدية اسطنبول الهامة بالنسبة له ويريد تتويج هذه الفترة بهذا الفوز الرمزي

لكن هذه  الجهود قد لا تكفي لوحدها لشدة التخندق الشعبي  والاصطفاف السياسي ويظل موقف أربكان الابن قد يكون هو بيضة القبان فهل سيكون له دور الحسم بالفوز ببلدية اسطنبول أو خسارتها.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس