
ترك برس
تناول تقرير للكاتب والخبير التركي سليمان سيفي أوغون، تحليلاً سياسيًا وسينمائيًا عميقًا، ينطلق من أعمال تشارلي تشابلن، وبخاصة فيلم "الديكتاتور"، ليفكك المشهد السياسي والاقتصادي الراهن في الولايات المتحدة تحت إدارة دونالد ترامب.
ومن خلال مقارنة ساخرة بين مشاهد كوميدية وتمثلات السلطة، يناقش التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق، سياسات ترامب التجارية، وتحديدًا حرب الرسوم الجمركية مع الصين، بوصفها انعكاسًا لعقلية "رجل العقارات" الذي يرى في الدمار فرصًا استثمارية.
كما يسلّط الكاتب الضوء على توازنات القوة داخل التحالفات الاقتصادية والسياسية التي تدعم ترامب، ويتوقع أن هذه السياسات قد تكون مقدّمة لحروب عالمية قادمة، لا مجرد صدامات تجارية.
وفيما يلي نص المقال:
برأيي، يُعد تشارلي تشابلن، المعروف أيضًا باسم "شارلو"، أعظم فنان سينمائي في كل العصور. صحيح أنني قد أسترسل بشغف لو كان السياق مختلفًا، لكن نيتي هنا ليست مناقشة أسباب ذلك. سأكتفي بتسجيل هذه الملاحظة: فيلم الأزمنة الحديثة التي تتراوح مدته لساعة كاملة هو بمثابة تقديم لمادة "سوسيولوجيا التحديث"، التي تُدرَّس في الجامعات على مدى عام كامل. بل وأكثر من ذلك، يقدمه بأسلوب لا يُتعب المشاهد، بل يجعله يضحك ويفكر في آنٍ واحد.
أما الفيلم الذي شاهدته بشعور متناقض، يجمع بين المتعة والحزن، لما وجدته فيه من بعض المشكلات، فهو فيلم الديكتاتور. في هذا العمل، يتم السخرية من هتلر والنازية. والمشكلة تكمن هنا: هل يمكن تناول النازية والفاشية بلغة الكوميديا؟ بالنسبة لبعض الأشخاص، هذا ممكن. أما بالنسبة لي، فلا أرى ذلك ممكنًا. فقد قال أدورنو: "بعد أوشفيتز، لا يمكن كتابة الشعر". وإذا كان حتى الشعر لا يمكن كتابته، فمن باب أولى ألا تكون الكوميديا ممكنة. مع ذلك، يجب أن نكون منصفين وألا ننسى أن فيلم الديكتاتور بدأ عرضه عام 1942... وفي ذلك الوقت، لم يكن هتلر قد أطلق العنان لوحشيته بالكامل بعد. صحيح أن معسكرات الاعتقال كانت قائمة منذ زمن، إلا أن تحوّلها إلى معسكرات إبادة جماعية تزامن تقريبًا مع سنة 1942، أي مع توقيت عرض الفيلم. ويُروى أن تشارلي تشابلن، الذي صوّر الفيلم في الولايات المتحدة، قال: "لو كنت أعلم بما حدث في أوشفيتز، لما كنت صورت هذا الفيلم".
في الأسبوع الماضي، شهدنا تطورًا ذكرني بمشهد من فيلم الديكتاتور. (كنت قد اقترحت على الكاتب التركي ندرِت إرسنال استخدام بعض تلك المشاهد في برنامجنا "غرفة التفكير"، لكن يبدو أن هناك مشاكل متعلقة بحقوق النشر، ولذلك تم التراجع عن الفكرة). فقد قام كل من ترامب وشي جين بينغ بزيادة الرسوم الجمركية المتبادلة. وقد فسّر بعضهم هذا المشهد بأنه حوّل العالم إلى قاعة مزاد. أما أنا، فوجدت أن المشهد يذكرني أكثر بأحد مشاهد الديكتاتور؛ إذ يصادف أدونويد هاينكل (وهو تمثيل لهتلر) وبنزينو نابوليني (تمثيل لموسوليني) بعضهما في صالون حلاقة، ويبدآن الحلاقة جنبًا إلى جنب. يحاول أحدهما أن يُظهر تفوقه من خلال رفع مقعده، فلا يتأخر الآخر عن مجاراته ورفع مقعده أيضًا. ومع كل رفع، يسارع الآخر للقيام بالمثل. وفي النهاية، تتعطل آلية الكراسي ويسقط الاثنان أرضًا. حينما كنت أتابع حرب الرسوم الجمركية الأسبوع الماضي، خطر هذا المشهد في بالي.
نعم، الرأي العام الأميركي أبدى إعجابه بترامب، وهو يمارس هذه السياسات تجاه العالم. لكن ينبغي الإقرار بأن المشهد العام بات يشبه إلى حد بعيد الأوضاع التي سبقت الحرب العالمية الثانية. كثيرون كانوا يدعون أن ترامب والجمهوريين، على خلاف بايدن والديمقراطيين، سيضعون حدًا للحروب في العالم. إلا أن ما يتكشف اليوم يثبت العكس؛ إذ يبدو أن الحروب التجارية ستؤدي، عاجلًا أم آجلًا، إلى مواجهة عسكرية.
ترامب ليس بطبعه ولا من حيث المبادئ والقيم شخصًا معاديًا للحرب. إنسان يعتبر غزة فرصة عقارية، ويغض الطرف عن الإبادة الجماعية التي تجري هناك، لا يمكن بأي حال أن يُنتج سلامًا. الفرق بينه وبين الديمقراطيين أنه لا يريد أن يخوض الحروب عبر إسراف مالي مفرط. إنه يرفض أن تتحمل الولايات المتحدة وحدها كلفة الحروب. بطبيعة الحال، هو يدرك أن بلاده تمتلك أقوى جيش في العالم من حيث القوة النارية. لذا، يفضّل أن يحسم الأمور عبر التهديدات أو عبر أساليب البلطجة، دون اللجوء الفوري إلى الحرب. أما إذا لم تُجدِ هذه الوسائل، فعندها فقط ستُستخدم القوة العسكرية. ومما يؤسف له، أنني أرى أن الأمور تتجه بالفعل إلى هذا المسار.
يُقال إن ترامب يستمد قوته من قطاع الصناعة، والمستثمرين في قطاع الطاقة، وجزء من رواد التكنولوجيا والمالية. ويُقال إن القطاعين الأولين قدما دعماً كثيفاً للغاية لترامب. أما دعم الأوساط التكنولوجية فكان محدودًا في البداية؛ ولهذا برز اسم إيلون ماسك بشكل واضح. لكن بقية المترددين أو المعارضين من هذه الأوساط انضموا سريعًا إلى صفوف ترامب بعد انتخابه. ومن المعروف أن الأوساط المالية الداعمة لترامب تتكوّن غالبًا من أولئك الذين سئموا من المقامرة المالية والتقلبات غير المتوقعة، ويرغبون في رؤية مستقبل أكثر استقرارًا عبر ارتباطهم الوثيق بقطاع الطاقة. وبطبيعة الحال، فإن القطاعات المالية التي دعمت استثمارات "الاتفاق الأخضر" وضغطت على شركات الطاقة لم تكن ضمن هذا التوجه.
أما القطاع الآخر الذي استهدفه ترامب، فهو قطاع الأدوية الذي تصدّر المشهد خلال جائحة كورونا. وبالمحصلة، تم تهميش أنصار قضايا المناخ والعاملين في قطاع الصحة. وقد شن ترامب حربًا بلا هوادة ضد كوادر هؤلاء داخل البيروقراطية الأميركية. كما استخدم ملفات ضاغطة، وعلى رأسها ملفات إبستين، لإسكات امتداداتهم داخل الإعلام وقطاع السينما. الحرب ضد مجتمع الميم وقضايا الاستغلال الجنسي للأطفال اندمجت أيضًا ضمن هذه الحملة.
لا أدري إن كان قد لفت انتباهكم، لكن القطاع الوحيد الذي ظل موقفه غامضًا هو قطاع السلاح. كثير من التحليلات تشير إلى أن علاقة ترامب بهذا القطاع ليست على ما يرام. وإذا تذكرنا أن قطاع السلاح شهد "أيامه الذهبية" خلال عهد بايدن، يمكننا، من خلال استنتاج منطقي، الافتراض أن ترامب لا ينظر إليه بعين الرضا. وقد يكون هذا صحيحًا جزئيًا. قد يعتقد البعض أن رجال العقارات لا يريدون الحروب، وأنهم يفضّلون توسعة أعمالهم في بيئة يسودها السلام والاستقرار. لكنني أجد هذه الرؤية، التي تفترض أن "العقل الاقتصادي يبشر بالسلام بينما العقل السياسي يبشر بالحرب"، ساذجة أو خبيثة في حقيقتها.
خلافًا لهذه المزاعم، هناك علاقة عضوية لا يمكن تجاهلها بين الاقتصاد والحرب. وأرى أن فتور ترامب تجاه هستيريا الحرب، التي ابتلي بها الديمقراطيون، حالة طارئة ومضللة. إنني أعتقد أن هذا الفتور لا يعدو أن يكون الهدوء الذي يسبق العاصفة. فترامب، بصفته رجل عقارات، يدرك جيدًا أن أعظم الفرص في هذا المجال تنبع من الدمار الذي تخلفه الحروب. إن نظرته إلى غزة باعتبارها "فرصة عقارية" وتحفزه الظاهر حيال ذلك خير دليل على هذا المنطق.
المحصلة، طريقة تفكير رجل العقارات تميل إلى حب الحرب في مرحلةٍ ما. وإذا بدا اليوم أن ترامب يخفف من حدة خطر الحرب، فإن السبب في ذلك يرجع إلى أن قطاع السلاح خلال عهد بايدن قد استهلك كامل مخزونه ووصل إلى حالة من التخمة. ما نشهده أشبه بسبات حيوان مفترس شبعان؛ لكنه سيستفيق أقوى وأشد جوعًا. وحينها، لن تكون هناك "وجبات صغيرة" أو معارك محدودة، بل وليمة كبرى ربما تتمثل في سلسلة من الحروب العالمية.
أعتقد أن ترامب يُعدّ الولايات المتحدة، ومن خلالها العالم كله، لمثل هذا السيناريو. فبغير ذلك، لا يمكن للاقتصاد الأميركي أن يتعافى عبر القرارات التي اتخذها ترامب والتي، في منطق الاقتصاد السليم، لا تؤدي إلا إلى سحق النشاط الاقتصادي بدلًا من إنعاشه. لقد بدأوا يعبثون بإعدادات الكراسي بطريقة شرسة لا تحكمها أي اعتبارات وظيفية، بل اندفاع كارثي أعمى.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!