
ترك برس
تناول تقرير للكاتب والمحلل السياسي التركي قدير أوستون، في صحيفة يني شفق، مخرجات جلسة نقاشية عقدت ضمن منتدى أنطاليا الدبلوماسي بعنوان "السلام في الشرق الأوسط: آن أوان حل الدولتين".
وركز أوستون على العقبات المتفاقمة أمام تحقيق حل الدولتين في ظل السياسات الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر، بما في ذلك استخدام المساعدات الإنسانية كسلاح، وممارسات التطهير العرقي، والإبادة الجماعية.
كما استعرض التقرير محدودية الضغوط الدولية، ودور الولايات المتحدة في تعطيل مسار السلام، مقابل تأكيد الحاجة إلى "الصبر الاستراتيجي" والإصرار على الدبلوماسية كطريق طويل الأمد لتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة.
وفيما يلي نص التقرير:
توليت إدارة جلسة نقاشية في منتدى أنطاليا الدبلوماسي بعنوان "السلام في الشرق الأوسط: آن أوان حل الدولتين". وقد ضمّت الجلسة متحدثين رفيعي المستوى قادرين على تقييم القضية من منظور التطورات الميدانية والجهود الدبلوماسية في آن معًا. كان عنوان الجلسة يستند إلى الفرضية القائلة إنه لا يمكن تحقيق السلام في الشرق الأوسط من دون أن يؤسس الشعب الفلسطيني دولته المستقلة. وقد اضطررنا خلال النقاش – كما كان متوقعًا – إلى التركيز على العديد من المواضيع التي من شأنها أن تدفع المستمعين إلى الشعور بالتشاؤم. فمنذ 7 أكتوبر، بات استخدام المساعدات الإنسانية كسلاح من قبل إسرائيل، وسياسات التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي لا تترك مجالًا لحل الدولتين، فضلًا عن محدودية تأثير الضغوط الدولية في ظل غياب الضغط الأمريكي... كلها محاور تؤكد صعوبة الوصول إلى السلام. وعلى الرغم من هذه الصورة القاتمة، من الواضح أن ما أُكد عليه ضمن الشعار الرئيسي لمنتدى أنطاليا، أي "الإصرار على الدبلوماسية"، وما يرتبط به من "صبر استراتيجي"، له أهمية حاسمة في تحقيق نتائج على المدى المتوسط والبعيد.
تحويل المساعدات الإنسانية إلى سلاح
من بين المحاور البارزة التي طُرحت خلال الجلسة، كان استخدام إسرائيل للمساعدات الإنسانية كسلاح في الحرب، في انتهاك صارخ لالتزاماتها الدولية. فقبل السابع من أكتوبر، كانت إسرائيل تُبقي غزة تحت حصار خانق لسنوات، ولم تكن تسمح إلا بمرور محدود جدًا للمساعدات الإنسانية. أما خلال الحرب على غزة، فقد اتبعت إسرائيل سياسة تهدف إلى إجبار الفلسطينيين على مغادرة المنطقة عبر تجويعهم. وقد تحوّلت مسألة السماح أو عدم السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى بند تفاوضي في مباحثات وقف إطلاق النار مع حركة حماس، في تجاهل تام لقواعد القانون الإنساني الدولي.
الهجوم المباشر من قبل إسرائيل على وكالة "الأونروا" – التي تُعد من أبرز المؤسسات الإنسانية العاملة في دعم الشعب الفلسطيني – بذريعة أن بعض موظفيها منتمون إلى حماس، ومنع دخولها إلى القطاع، إلى جانب وقف الولايات المتحدة تمويلها، كلها مؤشرات على أن جهود الإغاثة الإنسانية أصبحت هدفًا بحد ذاته.
وكما أشار وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال جهوده المكثفة لتأمين دخول المساعدات عبر الحدود المصرية، فإن ترك قوافل الإغاثة عالقة عند المعابر حتى تتلف يُعد "جريمة ضد الإنسانية". إن استخدام إسرائيل للمساعدات الإنسانية كسلاح لترهيب سكان غزة ودفعهم إلى النزوح يُشكّل أحد أركان استراتيجيتها الهادفة إلى جعل حل الدولتين غير قابل للتطبيق.
إمكانات حل الدولتين
عملية السلام في الشرق الأوسط، التي انطلقت مع مؤتمر مدريد عام 1991 واتفاق أوسلو عام 1993، بدأت من خلال مسار تفاوضي طويل بهدف التوصل إلى حل نهائي، غير أن غياب الضغط الكافي من الولايات المتحدة والغرب على إسرائيل حال دون تحقيق أي نتائج ملموسة. والأسوأ من ذلك، أن الاحتلال الإسرائيلي توسع في احتلاله خلال أكثر من ثلاثين عامًا، بينما ظل الفلسطينيون يُصوَّرون على أنهم الطرف الرافض للسلام.
في هذه المرحلة التي جرى خلالها تقسيم الأراضي التي يُفترض أن تُقام عليها الدولة الفلسطينية وتحويلها إلى ما يشبه "الرقع المتفرقة"، أعلنت العديد من الدول التزامها بمبدأ العودة إلى حدود عام 1967، لكنها لم تستخدم أي أدوات ضغط حقيقية لتحقيق ذلك. أما الولايات المتحدة، التي تحمي إسرائيل في كل المحافل الدولية، فقد استخدمت نفوذها الحاسم ليس من أجل إحلال السلام، بل استجابةً لمطالب اللوبي الإسرائيلي، وهو ما حوّل حل الدولتين إلى ما يشبه الحلم البعيد المنال.
السلطة الفلسطينية، التي اضطرت لإدارة الضفة الغربية ضمن الشروط الأمنية التي فرضتها إسرائيل، كانت تستند إلى فرضية مفادها أن الفلسطينيين سيتمكنون من إدارة أنفسهم تمهيدًا لإقامة دولتهم. غير أن هذه الفرضية كانت في واقع الأمر وعدًا أجوف. فقد جعلت إسرائيل من تمكين الفلسطينيين من إدارة شؤونهم أمرًا مستحيلًا بشكل منهجي، وفي الوقت نفسه عمّقت ووسّعت احتلالها، ولم تعد تشعر حتى بالضغط لإظهار التزامها بحل الدولتين.
الصبر الاستراتيجي
دخلت المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال – المستمرة منذ عقود – مرحلة جديدة كليًا بعد 7 أكتوبر. إذ أدى إعلان إسرائيل الصريح عن نواياها في تنفيذ تطهير عرقي، واتباعها سياسة إبادة من شأنها القضاء على فرص قيام الدولة الفلسطينية، إلى تعرية صورتها أمام الرأي العام العالمي والأجيال الشابة على وجه الخصوص.
ومع فقدان إسرائيل لشرعيتها الدولية، فإنها لن تتمكن من إنهاء إمكانية حل الدولتين ما دام الفلسطينيون لم يتخلوا عن مطلبهم بالسيادة الوطنية والاستقلال. ولهذا السبب، كما شددت عليه سيغريد كاغ، ممثلة الأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط خلال جلسة المنتدى، فإن على المجتمع الدولي الإصرار الفوري على تطبيق حل الدولتين.
فالانتظار إلى حين "نضج الظروف الميدانية" لن يؤدي إلا إلى تأجيل قيام الدولة الفلسطينية بطريقة تخدم مصالح إسرائيل فقط. وهذا هو جوهر تمسك تركيا، منذ 7 أكتوبر، بحل الدولتين، إذ أن الحل النهائي يكمن في تمكين الفلسطينيين من تقرير مصيرهم بأنفسهم.
وفي الوقت الذي كان يُظن فيه أن نظام بشار الأسد سيبقى في الحكم إلى الأبد، انهار كليًا خلال أسابيع قليلة. ومن هذه التجربة يمكن استخلاص دروس مهمة. ورغم اختلاف الديناميكيات على الساحة الفلسطينية، إلا أن المشترك في الحالتين هو أن المشاريع السياسية التي تفقد شرعيتها لا يمكنها الصمود طويلًا.
يمكن لسياسة خارجية تُبنى على هذا التصور أن تحقق نتائج. فعندما سُئل نائب وزير الخارجية التركي، نوح يلماز، خلال جلسة "إعادة التفكير في الشرق الأوسط" ضمن منتدى أنطاليا، عن "الدروس الأهم التي تعلّمتها السياسة الخارجية التركية في السنوات الأخيرة"، قدّم إجابة يمكن تطبيقها على القضية الفلسطينية. فقد أشار يلماز، مستشهدًا بالرئيس رجب طيب أردوغان، إلى مفهومي "قطع الحبل السري بنفسك" و"الصبر"، وهي مفاهيم يمكن إسقاطها أيضًا على القضية الفلسطينية.
ورغم أن القضية الفلسطينية كانت ضحية للتقلبات الدولية وصراعات القوى الكبرى، إلا أن الشعب الفلسطيني تمسك بحقّه في إقامة دولته، ودفع في سبيل ذلك أثمانًا باهظة، وهو ما ساعد على كشف عدالة قضيته وفقدان إسرائيل لشرعيتها أمام الرأي العام العالمي.
لذا، يجب على دولة كتركيا – التي تُعدّ من أكثر الدول دعمًا للقضية الفلسطينية – أن تواصل ثباتها في تقديم المساعدات الإنسانية، والتحرّك الدبلوماسي، وممارسة الضغط الدولي على إسرائيل. ورغم أن تحقيق حل الدولتين قد يبدو احتمالًا بعيدًا، إلا أن الصبر الاستراتيجي الفعّال الذي أظهرته تركيا في الملف السوري يمكن أن يُفضي إلى نتائج مماثلة في فلسطين.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!