
ترك برس
تناول تقرير للسياسي والبرلماني التركي السابق ياسين أقطاي، تطورات الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي استمرت اثني عشر يومًا، مسلطًا الضوء على التحولات العسكرية والسياسية التي كشفتها المواجهة، وعلى رأسها انكشاف محدودية القدرة الإسرائيلية على الحسم، رغم الدعم الأمريكي، مقابل قدرة إيران على فرض توازن ردع جديد من خلال استخدامها المكثف لصواريخها الفرط صوتية.
وناقش التقرير - الذي نشرته صحيفة يني شفق - أبعاد هذا التصعيد على مستوى التوازنات الإقليمية والدولية، بما في ذلك تداعياته على الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، وانعكاساته على صورة إسرائيل كقوة لا تُهزم.
وركز أقطاي على أن الهدنة الحالية لم تأتِ نتيجة اتفاق سياسي بل كضرورة ميدانية فرضتها الوقائع، مشيرًا إلى تغير في المزاج الإسلامي العام حيال تعريف "التهديد"، وتراجع فعالية الرواية الأمريكية–الإسرائيلية التقليدية في المنطقة.
وفيما يلي نص التقرير:
يبدو أن الحرب الإيرانية الإسرائيلية والتي استمرت 12 يوما قد توقفت مؤقتًا مع إعلان إسرائيل موافقتها على وقف إطلاق النار. ورغم أن إسرائيل أعلنت في الساعات الأولى أن إيران انتهكت وقف إطلاق النار بإطلاق صاروخ، متوعدةً بالرد، إلا أن المؤشرات تفيد بأن هذا التهديد لن يتطور إلى تصعيد جديد. فالأجواء السائدة والظروف الموضوعية ومسار الحرب حتى الآن تجعل من الهدنة في هذه المرحلة، ضرورة ملحة لجميع الأطراف.
في الواقع، إن وقف إطلاق النار في هذه المرحلة يشبه إلى حد كبير ذلك الذي جرى بين إسرائيل وحماس في شهر ديسمبر؛ إذ يشكل علامة على انكسار الغطرسة الإسرائيلية. فقد اندفعت إلى هذه الحرب بعجرفة مفرطة، وثقة كبيرة بالأسلحة والدعم الكامل الذي تلقته من الولايات المتحدة، إضافةً إلى يقينها المطلق بصحة معلوماتها الاستخباراتية حول إيران. لكنها، وبعد اثني عشر يومًا، وجدت نفسها أمام واقع مغاير تمامًا لحساباتها النظرية، لقد أوصلتها استخباراتها عن إيران إلى حدٍّ معين في ساحة المعركة، لكنها سرعان ما اصطدمت بالحقائق الميدانية التي لم تتوقعها.
فالواقع الميداني أظهر أن إيران، خلال الحرب الباردة التي استمرت خمسين عامًا، قد طوّرت تكنولوجيا دفاعية فاقت التوقعات، وأنها تملك القدرة على اختبار سلاح جديد غير متوقع في كل مرحلة من مراحل الحرب، وهو ما تحوّل خلال أيام معدودة إلى كابوس حقيقي لإسرائيل. وتحول هذا الكابوس إلى كارثة حقيقية حين بدأ صاروخ تلو الآخر يخترق "القبة الحديدية" التي لطالما تباهت بها إسرائيل، ليمطر شوارع تل أبيب، وموانئ حيفا، ومنشآت النفط، والقواعد الجوية بوابل من الهجمات.
فإسرائيل التي سعت على مدار 17 عامًا إلى تحويل غزة إلى سجن كبير أو معسكر اعتقال، لم تتوقع مقاومة بهذه الشراسة من حركة حماس، ناهيك عن قدراتها القتالية المفاجئة التي أظهرتها. وكذلك لم تتخيل أن تكنولوجيا الحرب الإيرانية قد تلحق بها ضررًا مباشرًا. وحتى نشوة النصر التي شعرت بها مبكرا بعد اغتيالها شخصيات إيرانية بارزة في اليوم الأول تحولت إلى سقف مرتفع يستحيل عليها بلوغه مجددًا.
ورغم الخسائر الكبيرة التي تكبدتها إيران في صفوف شخصياتها المهمة، فقد أمطرت إسرائيل في الأيام التالية بصواريخها الفرط صوتية التي اختبرتها لأول مرة، وكأن شيئًا لم يحدث.
وعند إجراء مقارنة بين خسائر الطرفين في هذه الحرب قد يبدو التفاوت واضحاً، ولكن تأثير هذه الخسائر على الطرفين يُظهر بصورة جلية أن الأضرار التي تكبدتها إسرائيل كانت أكبر بكثير، بل إن هذه الأضرار كانت العامل الحاسم الذي دفعها للقبول بالهدنة في هذه المرحلة.
لقد وجدت إسرائيل نفسها بعيدةً كل البعد عن تحقيق أهدافها الأولية، تماما كما حدث في حربها على غزة،. صحيحٌ أن المنشآت النووية الإيرانية قد استهدفت، لكن من الواضح أن تلك الضربات كانت استعراضية. وهذا بالضبط ما تريده واشنطن، فلم تكن ترغب في تجاوز هذا الحد. لكن هل كان بإمكانها الذهاب إلى أبعد من ذلك؟ وهل كانت إيران عاجزة عن الرد؟ ألم يكن لديها أي تدابير تتخذها؟ يمكننا طرح هذه الأسئلة تباعًا. والإجابة عن هذه الأسئلة جاءت من طهران، فقد أعلنت أنها كانت على علم مسبق بالضربات، وأنها نقلت كميات اليورانيوم المخصب إلى أماكن آمنة. كما أن الرد الإيراني على كلٍّ من إسرائيل والقواعد الأميركية أظهر أنها ليست عاجزة عن الرد على أي تصعيد مُحتمل. ومن ثم بدا أن خيار التوازن المتبادل في القوة هو المسار الأكثر عقلانية للطرفين.
في الواقع يجب أن ندرك أن إيران، إذا فقدت قدرتها على تشكيل تهديد نووي، فلن يبقى لها أي وظيفة استراتيجية في سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط. ولهذا، فإن واشنطن وإن كان بوسعها المضي قدمًا في التصعيد، فإنها لا تجرؤ على ذلك، لهذا السبب فقط. إذ إن إضعاف إيران أكثر مما هي عليه الآن كان ليُخلّ بالتوازن الذي رسمته واشنطن للمنطقة. ورغم ذلك، فإن هذه الضربة بحد ذاتها أخلّت حتى اللحظة بتوازن الولايات المتحدة في الشرق الأوسط على نحو كبير. فبعد الآن لم تعد ورقة "التهديد الإيراني" التي اعتادت واشنطن التلويح بها أمام دول الخليج، تملك نفس التأثير الذي كانت عليه في السابق.
أما البيان الصادر عن اجتماع وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول فقد أظهر تحولًا في نظرة المسلمين للتهديدات، فبعد الهجوم الذي تعرضوا له بدعم من التحالف الإسرائيلي الأمريكي والغرب، لم يعد المسلمون يرون في بعضهم البعض تهديدًا، بل أصبح التهديد الحقيقي بالنسبة لهم هو التحالف الصليبي الصهيوني. وعليه، فإن العلاقة الوصائية التي كانت تُدار عبر تصوير إيران كخطر على الخليج دخلت مرحلة جديدة، فقدت فيها فاعليتها القديمة.
إن رغبة ترامب الشديدة في وقف إطلاق النار في الحرب التي وصفها بـ "حرب الـ 12 يومًا" كشفت جانبًا من وصاية إسرائيل على السياسة الأمريكية. في الواقع لقد أُرغم ترامب على دخول حرب مع إيران لم يكن يرغب فيها على الإطلاق، وذلك بسبب نتنياهو. إن الوصاية التي يمارسها نتنياهو بسهولة على السياسة الخارجية الأمريكية باسم إسرائيل تمثل مشكلة خطيرة تستدعي المساءلة من قبل المواطنين الأمريكيين أولًا وقبل كل شيء. كما أن التناقض المفرط الذي أبداه ترامب خلال هذه الحرب، والذي اشتهر بالفعل بعدم تناسق أقواله، سيزيد من انعدام الثقة بالسياسة الأمريكية إلى أقصى حد. وقد أكد مقال نُشر في صحيفة وول ستريت جورنال قبل يومين أن الأمن القومي الأمريكي تلقى ضربة مدمرة على المدى المتوسط جراء عجزه السياسي عن قول "لا" لإسرائيل. وأوضح المقال أن صواريخ إسرائيل بدأت تنفد، وأن الولايات المتحدة لم يعد لديها ما يكفي من الصواريخ لتزويدها. وأضاف المقال: "تستخدم إسرائيل نظام دفاع صاروخي مكون من أربع مراحل، وتُعتبر صواريخ 'آرو 3' ـ التي تعترض الصواريخ الباليستية بعيدة المدى ـ أثمن مكون في هذا النظام." ويدعي الإسرائيليون أنهم أسقطوا حوالي 90% من الصواريخ الـ370 التي أطلقتها إيران، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن الإيرانيين يمتلكون عددًا أكبر من الصواريخ الباليستية بعيدة المدى مقارنة بأنظمة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية. وإذا نفدت صواريخ الدفاع، ولا تزال إيران تملك القدرة على الإطلاق، فإن ذلك سيؤدي بحسب الأرقام إلى فوضى عارمة في إسرائيل.
إن الولايات المتحدة تقدم الدعم، لكن مواردها ستكون محدودة للغاية في السنوات القادمة. وهذه الثغرة الكبيرة في منظومة الدفاع الأمريكية معروفة منذ سنوات، وهي مشكلة تحدثت عنها أنا وغيري لسنوات عدة ولكن لم يُتخذ بشأنها أية إجراءات عملية حتى الآن.
وتمتلك الولايات المتحدة ما يكفي من الصواريخ الذكية لخوض حرب شاملة لمدة 3-4 أسابيع فقط، وبعد ذلك، ستحتاج إلى 4-6 سنوات من الإنتاج المستمر دون إطلاق أي صواريخ للوصول إلى المستويات الحالية. وخلال هذه الفترة، ستفتقر الولايات المتحدة، إلى جانب إسرائيل وأوكرانيا والدول الأوروبية وغيرها، إلى مخزون كاف من الصواريخ.
وفي تتمة المقال، أُشير إلى أن الولايات المتحدة، التي تثق بها إسرائيل ثقة كبيرة، ليست لديها القدرة على خوض حرب طويلة الأمد مع إيران. بل الأسوأ من ذلك، أن الأسلحة التي يُفترض أن تُستخدم في مواجهة الصين يتم استهلاكها هنا بطريقة رخيصة وعبثية، مما يعرّض الأمن القومي الأمريكي للخطر.
والواقع أن إسرائيل، التي انطلقت في هذه المواجهة بزعم القضاء على البرنامج النووي الإيراني وإضعاف قدراته العسكرية، لم تستطع الصمود أكثر من اثني عشر يومًا أمام الرد الإيراني. وقد باتت إيران اليوم أقرب إلى تنفيذ برنامجها النووي مما كانت عليه قبل اندلاع الحرب. كما أتاح العدوان الإسرائيلي لطهران فرصة ثمينة لتعزيز قوتها على الصعيد الوطني، وكسب الشرعية على الساحة الدولية. والحقيقة أن إسرائيل التي ترى في البرنامج النووي الإيراني تهديدًا، قد أثبتت أنها التهديد الأكبر للإنسانية جمعاء. وحتى لو كان التهديد النووي حقيقة، فإن إسرائيل، باعتبارها كيانًا متورطًا في جرائم إبادة ومصدر تهديد وجودي للبشرية، لا يحق لها أن تكون طرفًا في منعه. بل إن عدوانيتها هذه جعلتها خطرًا كبيرا يجب أن يواجه بكل أشكال الردع، بما في ذلك الردع النووي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!