ترك برس

استعرض مقال للكاتب والسياسي التركي ياسين أقطاي، أبعاد الأزمة الأخيرة بين أفغانستان وباكستان التي كادت أن تتطور إلى مواجهة عسكرية لولا الوساطة التركية القطرية الناجحة التي أفضت إلى اتفاق في الدوحة أعاد الهدوء إلى المنطقة. 

يحلل أقطاي في مقاله بصحيفة يني شفق خلفيات التوتر بين البلدين، خصوصاً ما يتعلق بعلاقة حكومة طالبان في كابول بحركة طالبان باكستان، مع تسليط الضوء على التشابكات الإقليمية والدولية التي تغذي النزاع، بما في ذلك دور الهند والولايات المتحدة وإسرائيل. 

كما يبرز الدور التركي المتنامي في إحلال التفاهم بين الدول الإسلامية، ويؤكد أن الحلول المستدامة لأزمات العالم الإسلامي تكمن في التعاون والوحدة بدلاً من الصراعات الداخلية التي تستنزف قدراته وتخدم مصالح القوى الغربية.

وفيما يلي نص المقال:

بينما كان العالم الإسلامي، بل العالم بأسره، يحبس أنفاسه مترقبًا ما ستؤول إليه الجهود الرامية إلى وقف الإبادة الجماعية في غزة، كانت حرب على وشك الاندلاع بين أفغانستان وباكستان. وفي ظل الحاجة إلى اليقظة تجاه أي تطور يمكن أن يطغى على غزة وكل ما يتعلق بها من أوضاع إنسانية وسياسية، فإن وصول بلدين إسلاميين عظيمين إلى هذه النقطة له دلالة كبيرة. واللافت أن هذا التصعيد بعد فترة وجيزة من تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن "الانسحاب من قاعدة باغرام كان خطأً وأنهم سيعودون إليها"، ليردّ وزير داخلية إمارة أفغانستان الإسلامية، سراج الدين حقاني، عليه قائلاً: "إن كانوا مستعدين لخوض حربٍ معنا لعشرين عامًا أخرى، فليأتوا ويأخذوها إن استطاعوا." لقد أعاد هذا المشهد المؤلم التذكير بمدى هشاشة توازنات العالم الإسلامي وقابليتها للتلاعب الخارجي.

والحمد لله، تمّ التوصّل بالأمس إلى اتفاق في الدوحة بوساطة قطر وتركيا قبل أن تتفاقم الأمور أكثر. إن مشهد طاولة التوقيع على الاتفاق، الذي وقّع عليه أيضاً رئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم قالن بأوامر من الرئيس التركي، كان بالفعل باعثاً على الأمل والفخر، وأكد مجدداً قدرة تركيا على حل المشكلات بالتعاون مع قطر. هذه القدرة لا تقتصر على حسن التقدير وامتلاك رؤية سديدة فحسب، بل بقدرة تركيا على أن تكون قوة موثوقة، تحظى بمكانة واحترام في العالم الإسلامي بل وعلى المستوى العالمي قادرة على تقديم الضمانات للأطراف المختلفة. وقد أُعلن أيضاً أن التفاصيل التقنية للاتفاق ستُناقَش وتُصاغ لاحقاً في إسطنبول بمشاركة الأطراف نفسها.

وفي الواقع، شهدت المنطقة نفسها في شهر أيار/مايو الماضي توترًا خطيرًا كاد أن يشعل مواجهة جديدة بين باكستان والهند، غير أنه جرى احتواؤه سريعًا، وكانت لتركيا آنذاك مساهمة مختلفة في حلّ الأزمة. ومن المرجّح أن يكون ذلك الحل مؤقتًا وعلى مستوى محدود فقط، إذ إن التوتر بين باكستان والهند متجذر في بنيتهما التأسيسية. فالصراع بينهما لا يقتصر عليهما وحدهما، كما أن أسبابه ليست مرتبطة بهما فقط. وبالفعل سرعان ما ظهرت أطياف كل من الهند والولايات المتحدة وإسرائيل كجهات فاعلة خفية أو مستعدة للانحياز فوراً في مكان ما من الصراع بين أفغانستان وباكستان.

في الأصل، ليس هناك ما يستدعي نشوب صراع بين أفغانستان وباكستان، إذ لا توجد بينهما أسباب جدية تبرر المواجهة. فالقيم والإمكانات والمصالح التي يتقاسمانها تستدعي تعاونًا وثيقًا، لا صدامًا، فالتعاون بينهما من شأنه أن يعود على الطرفين بمكاسب أكبر وازدهار أوفر.

غير أن توقيت زيارة وزير الخارجية الأفغاني أمير خان متقي إلى الهند في التاسع من أكتوبر بمعزل عن الأحداث - والتي تزامنت مع اندلاع التوترات بين البلدين - خلق انطباعاً بأن أفغانستان قد تكون بصدد إرسال رسالة إلى باكستان عبر التقارب مع نيودلهي.

فهل كان ذلك مجرد انطباع أم مؤشرًا على علاقة أعمق من ذلك؟ في الحقيقة، منذ أن تولّت حركة طالبان إدارة البلاد، وهي تسعى لانتهاج سياسة دبلوماسية متعددة الأوجه وسلمية تهدف إلى إنعاش الاقتصاد البلاد وتحريرها من حصارها الحالي. ففي ظل إحجام حتى أقرب الدول عن الاعتراف بها، اتخذت روسيا المبادرة لتكون أول من يعترف بإدارة طالبان، وهو ما قاد إلى تعميق العلاقات بين الجانبين. وقد أعلنت الهند أيضاً اعترافها بأفغانستان عبر رفع مستوى العلاقات إلى مستوى السفراء. ويجب التأكيد على أن حكومة طالبان بعيدة كل البعد عن فكرة مقايضة هذا الاعتراف على حساب أي دولة أخرى، وخاصة دولة مسلمة.

في الواقع، إن أفضل وسيلة لحماية أفغانستان من طرق أبواب خاطئة في هذا الحصار الذي تعيشه، هو أن تبدأ جميع الدول الإسلامية بتطبيع علاقاتها مع أفغانستان في أقرب وقت ممكن، وهو ما يخدم مصالحها ومصالح أفغانستان في آن واحد. إن أقوى انطباع تكون لدي من جميع لقاءاتي مع المسؤولين الأفغان هو أنهم يُعطون الأولوية لتطوير كافة العلاقات التجارية والسياسية مع الدول الإسلامية، وخاصة تركيا. لذلك لا يحق لأحد أن ينتقد أفغانستان على تعاملها مع أطراف أخرى طالما أن تركيا أو غيرها من الدول الإسلامية تتأخر في ذلك.

أما فيما يتعلق بالخلاف مع باكستان، فإن القضية تتعلق بشكل كبير بحركة "طالبان باكستان" وعلاقاتها مع أفغانستان. تأسست حركة "طالبان باكستان" في عام 2007 على يد بيت الله محسود، أحد قادة قبيلة محسود البارزين في المناطق القبلية شمال غرب باكستان، وتحديدًا جنوب وزيرستان على الحدود الأفغانية. وبعد مقتل محسود، الذي قاتل في صفوف طالبان الأفغانية ضد الاحتلال الأمريكي عام 2001، في غارة جوية أمريكية عام 2013، خلفه حكيم الله محسود والملا فضل الله.

وتعود العلاقة بين طالبان الأفغانية وطالبان الباكستانية إلى انتمائهما المشترك للمدارس الديوبندية الفكرية، وكونهما ذوي أغلبية بشتونية إلى حد كبير. (وبالطبع، لا تقتصر حركة طالبان الأفغانية على البشتون فقط، فكما أشرنا سابقاً، تتضمن الإدارة الحالية تمثيلاً لمجموعات عرقية أخرى في المناصب العليا، بما يتناسب تقريباً مع نسبتها السكانية). في الحقيقة، يقطن على جانبي الحدود بين باكستان وأفغانستان سكان يغلب عليهم البشتون والبلوش، وقد قُسّمت مناطقهم إلى نصفين بفعل الحدود التي رسمها البريطانيون خلال فترة الحكم الهندي. ونظراً للطبيعة الجغرافية للمنطقة، يبدو هذا الحد وكأنه يفصل البلدين على الخريطة فقط، بينما تبقى الروابط الثقافية والديموغرافية بينهما وثيقة. أصبحت هذه المنطقة ككتلة متكاملة تقريبًا خلال فترتي الاحتلال السوفيتي والأمريكي.

لقد قاتلت طالبان الباكستانية في تلك الفترات جنباً إلى جنب مع إخوانهم الأفغان، الذين درسوا معهم في المدارس الدينية ذاتها وتأثروا بالثقافة نفسها وتحدثوا اللغة ذاتها. غير أنّ الوضع الجديد الذي تشكّل بعد الحرب دفع إمارة أفغانستان الإسلامية إلى إعلان واضح بأنها لن تسمح باستخدام خطابها أو أراضيها ضد أي دولة أخرى، وأنها ستركز جهودها على تنمية بلادها. كما أصدرت عفواً عاماً لتحقيق سلام داخلي. لقد أحدثت هذه المبادرة للسلام المجتمعي فرقاً كبيراً لصالح الإمارة الإسلامية في أفغانستان.

لكن، تنتقد حركة "طالبان باكستان" بلدها باكستان، بشدة بسبب علاقاتها مع الولايات المتحدة، وتعتبر ذلك خيانة للإسلام وتمارس أنشطة ضدها. وتنفي أفغانستان أي مسؤولية في هذا الشأن، كما ترفض مزاعم حركة "طالبان باكستان" بممارسة أنشطة داخل أراضيها. هذا هو جوهر الخلاف بينهما، وهو في حقيقته خلاف يمكن حله عبر دول شقيقة مثل تركيا وقطر، اللتين تربطهما مشاعر الأخوة ذاتها مع كلا البلدين. إن العالم الإسلامي اليوم بحاجة إلى مزيد من الوحدة، فهناك سلسلة من القضايا المشتركة التي تستدعي التعاون والتضامن. وكلا البلدين يدركان حجم هذه المسؤولية المشتركة. ففي عالم يعجز فيه مليارا مسلم أمام إسرائيل التي يبلغ عدد سكانها 7 ملايين نسمة، لا ينبغي لدولتين تحملان هوية "الإسلام" في اسميهما أن تعجزا عن حل خلافاتهما فيما بينهما.

قد يكمن في نوى الشر خير لا ندركه، ويمكن تحويل هذا الشر إلى فرصة للخير إذا ما استُغلّ لتعميق الإحساس بالمشاكل المشتركة والتركيز على حلّها.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!