ترك برس

تناول تقرير للكاتب والناشط التركي أرسين تشيليك، بصحيفة يني شفق، التحول الجذري في الرأي العام والسياسة الأمريكية تجاه إسرائيل بعد الإبادة الجماعية في غزة، مبرزًا كيف أدت الجرائم المستمرة إلى انقسام غير مسبوق داخل المجتمع الأمريكي، خصوصًا بين الأجيال الشابة التي باتت ترى في دعم فلسطين موقفًا أخلاقيًا يتجاوز الانتماءات الحزبية.

يركز التقرير على صعود "الاصطفاف الاجتماعي الجديد" في نيويورك الذي تجسده حملة السياسي الاشتراكي المسلم زهران ممداني، حيث تحولت قضية غزة إلى محور سياسي وأخلاقي أعاد تشكيل المشهد الأمريكي، وجعل انتخابات نيويورك القادمة استفتاءً على الموقف من الإبادة الجماعية الإسرائيلية.

وفيما يلي نص التقرير:

لم تقتصر الإبادة الجماعية المستمرة دون انقطاع منذ عامين في غزة على زعزعة أسس القانون الدولي فحسب، بل قلبت أيضًا ضمائر العواصم الغربية وتوازناتها السياسية رأسًا على عقب. فالرياح المناهضة لإسرائيل التي تهب في أوروبا تتحول إلى إعصار في أمريكا.

فالسياسة الأمريكية تشهد مخاض إعادة اصطفاف تاريخي، فقدت فيها مفاهيم "اليمين" و"اليسار" الموروثة من القرن العشرين معناها. ولنتذكر المشهد في اليوم الأول لتولي دونالد ترامب البيت الأبيض، حين اصطف عمالقة التكنولوجيا مثل جيف بيزوس ومارك زوكربيرغ وتيم كوك وساندار بيتشاي في القاعة صفًا واحدًا. غير أن واجهة هذا "الاصطفاف السياسي" التي بناها ترامب لا يمكنها أن تخفي حقيقة "الاصطفاف الاجتماعي" الذي يحرك الجماهير فعلياً. فمفهوم “الاصطفاف الاجتماعي” ليس نظريةً وليدة تحتاج إلى التحقق لاحقًا، بل ظاهرة طبيعية قد تبلورت بالفعل. إنها حركة ضمير مركزها الحالي في نيويورك، تتجاوز الأحزاب والأيديولوجيات وصراعات الأجيال القديمة، وتقوم أساسًا على قطيعة أخلاقية عميقة. وتعد غزة هي مركز هذا الاصطفاف.

قد تبدو قراءة المشهد من خلال غزة مبالغاً فيها، لكن المعطيات واضحة تمامًا. ففي مسيرات دعم "أسطول الصمود" المناهضة للإبادة الجماعية في صقلية، أتيحت لي فرصة التحدث مع الشباب، وقد لاحظت بوضوح تام أنهم أفرغوا حمولتهم السياسية التقليدية وتبنوا غزة كمسؤولية أخلاقية. ورغم أن تعبيري عن هذه الملاحظات قد يثير استياء بعض الأوساط في بلادنا، إلا أن تغير المناخ السياسي في الغرب بات حقيقة لا مراء فيها.

جرس الإنذار.. نسبة غير متوقعة

ولفهم مدى عمق الاصطفاف الاجتماعي والسياسي الجديد، يجب علينا النظر إلى البيانات. إن الاستطلاع الذي أجرته جامعة هارفارد ومعهد "هاريس بول" في أغسطس/آب الماضي يُعد جرس إنذار للنظام الأمريكي. ووفقاً للاستطلاع، فإن 60% من جيل الشباب (18-24 عاماً) يعبّر صراحة عن دعمه لحماس ضد إسرائيل. وهذه النسبة غير متوقعة على الإطلاق في بلد نشأ على دعاية "مكافحة الإرهاب". كما أن ارتفاع نسبة التأييد لإسرائيل إلى نحو 84٪ لدى الفئات العمرية الأكبر سنًّا يكشف عن انقطاع الرابط السياسي بين الأجيال.

وهذه ليست موجة غضب مؤقتة، بل تحول سياسي دائم. وهناك استطلاع آخر أجرته صحيفة نيويورك تايمز بالتعاون مع جامعة سيينا في سبتمبر الماضي، يعزز هذه الحقيقة. إذ أظهر أن 51٪ من الأمريكيين يعارضون تقديم أي مساعدات عسكرية أو اقتصادية إضافية لإسرائيل، وترتفع هذه النسبة إلى 68٪ بين الشباب دون الثلاثين عامًا. وفي عام 2023 كانت نسبة التأييد للفلسطينيين 20٪ مقابل 47٪ لإسرائيل، أما اليوم فقد تساوى الطرفان تقريبًا عند حدود 34-35٪.

لكن البيانات الأكثر إثارة للدهشة هي أن 40% من الأمريكيين (بعد أن كانت النسبة 22٪ عام 2023) باتوا يعتقدون أن إسرائيل تتعمد قتل المدنيين. وهذه القفزة دليل على أن حقيقة الإبادة الجماعية في غزة قد اخترقت ضمائر الشعب، رغم كل جهود وسائل الإعلام الرئيسية لطمسها.

اتحاد يتجاوز الأحزاب: "إنكم تثيرون اشمئزازهم"

رغم محاولات اللوبي الإسرائيلي والمنظومة الحاكمة تصوير هذا الانقسام الحاد في الآراء، الذي تعكسه استطلاعات الرأي، على أنه مشكلة تابعة لـ "اليسار المتطرف"، فإن الفظائع في غزة توحّد الشباب متجاوزة حدود الأحزاب. وقد لخصت الصحفية الأمريكية من أصل أرمني آنا كاسباريان جوهر الاصطفاف الاجتماعي الجديد بقولها: "كل المجتمعات تشمئز منكم. لا تقعوا في فخ الدعاية في وسائل الإعلام الأمريكية. أنتم مُبغضون".

إن تأكيد كاسباريان على عبارة "الشباب اليمينيون واليساريون معًا" يحمل أهمية بالغة. فهؤلاء الشباب اليمينيون الذين كانوا من داعمي إسرائيل تقليدياً و لكنهم ينأون بأنفسهم عن الوضع الراهن، وجدوا أنفسهم اليوم يلتقون لأول مرة مع الشباب التقدميين اليساريين الداعمين لفلسطين على أرضية مشتركة واحدة: رفض "المنظومة الحاكمة في واشنطن" التي تثير الحروب، وتضخ المليارات في آلة الإبادة الجماعية، بينما تحكم على شعبها بالفقر.

"الحالم" في نيويورك.. زهران ممداني

وتتجلى اليوم في نيويورك النتائج السياسية لهذا التحول الاجتماعي العميق. فقبل عام واحد فقط، كان ترشح زهران ممداني (33 عاماً)، وهو "اشتراكي مسلم"، لمنصب عمدة نيويورك يُعدّ خطوة “حالمة” وغير واقعية. فقد كان منافسه آنذاك “أندرو كومو”، أحد كبار شخصيات الحزب الديمقراطي، فيما كان يُعتقد أن السياسة الأمريكية بعد ترامب تتجه نحو اليمين.

لكن ممداني والاشتراكيين الديمقراطيين الأمريكيين، الذين يضمون 80 ألف عضو ويساندونه، أحسنوا قراءة اتجاه الرياح السياسية. ففي مقال نشره الصحفي الأمريكي جوناثان ديربيشاير في صحيفة "فايننشال تايمز" ونقلت عنه صحيفة "أوكسجين"، أشار إلى أن أطروحة الاقتصادي فيرنر سومبارت التي طرحها عام 1906 والتي تقول: "لا يمكن للاشتراكية أن تقوم في أرض يسودها شرائح اللحم وفطائر التفاح"، قد فقدت صلاحيتها في أمريكا عام 2025.

إن القضية التي تشغل بال الأجيال الشابة والتي يتجنب الإعلام السائد الخوض فيها، لم تعد اقتصادية بحتة. فالجيل الجديد يضع الأولويات الأخلاقية فوق الانتماءات الأيديولوجية.

كلمة السر: الحديث عن الإبادة الجماعية

حشد مماداني في حملته الانتخابية 50 ألف متطوع، معظمهم ليسوا حتى أعضاء في الحركة الديمقراطية الاشتراكية الأمريكية. وعندما طرق هؤلاء الشباب أبواب 1.6 مليون منزل، لم يعدوا بتقديم سياسة إسكان أفضل فحسب، بل وعدوا أيضاً باتخاذ موقف واضح وصريح ضد الإبادة الجماعية في غزة.

ومن بين أسرار نجاح ممداني أنه نقل كلمة «الإبادة الجماعية» إلى قلب المشهد السياسي. فمفهوم "الإبادة الجماعية" الذي استخدمه اليهود درعاً لسنوات، لم يعد مجرد خطاب ناشط هامشي، بل تحوّل إلى حقيقة سياسية يُعبّر عنها في برامج إعلامية رئيسية مثل "The View".

اندثار "الولاء الحزبي" لدى الشباب الأمريكي

أثبت ممداني أيضاً أن الولاء الحزبي قد اندثر لدى الناخبين الشباب. فدعمه لحملة "التصويت بالورقة البيضاء" ضد المرشحة الرئاسية الديمقراطية كامالا هاريس احتجاجًا على "الإبادة الجماعية الإسرائيلية"، أظهر أن الشباب يضعون قضية غزة فوق توجهاتهم اليمينية واليسارية، رغم ما ينطوي عليه ذلك من مخاطرة سياسية.

ويشير استطلاع "Data for Progress" الذي نشرته صحيفة "The Forward" إلى الكيفية التي قاد بها ممداني وأنصار حركته هذا التحول:

ـ يقول 62% من المصوتين لممداني إن "دعمه لحقوق الفلسطينيين" أثر على قرارهم بالتصويت له.

ـ والأهم من ذلك، أن 78% من ناخبي ممداني يعتقدون أن إسرائيل "ترتكب إبادة جماعية" في غزة.

ـ يؤيد 63% من ناخبي ممداني وعده بـ "اعتقال نتنياهو إذا جاء إلى نيويورك".

ويكشف الاستطلاع أن موقف ممداني المؤيد لفلسطين قد حرّك "موجة من الداعمين الجدد والأصغر سناً، الذين يصوتون لأول مرة".

استفتاء نيويورك.. المدافع عن الإبادة الجماعية ومنتقدوها

ولهذا، فإن انتخابات بلدية نيويورك المقررة في 4 نوفمبر لم تعد مجرّد انتخابات محلية، بل تحوّلت إلى استفتاء عالمي حول الإبادة الجماعية في غزة. ولم تكن الخطوط الفاصلة في السياسة الأمريكية يومًا أوضح مما هي عليه الآن.

على أحد الجانبين، يقف أندرو كومو، الذي يمثل الوضع القائم القديم والفاسد للحزب الديمقراطي، والذي تطوع ليصبح جزءاً من "فريق الدفاع القانوني" عن نتنياهو أمام المحاكم الدولية "خلال فترة الإبادة الجماعية". وعلى الجانب الآخر، يقف زهران ممداني، الذي يمثل الاصطفاف الاجتماعي الجديد المولود من نيران غزة، والذي يقول: "إذا أصبحت عمدة المدينة وجاء نتنياهو إلى نيويورك، فسأطبّق أمر الاعتقال الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية.”

"لأنني لم ألاحظ الغضب تجاه إسرائيل"

سنرى ما إذا كانت نتائج استطلاعات الرأي والغضب الشعبي في الشوارع سينعكسان فعلًا في صناديق الاقتراع. لكنّ منافسه، حاكم نيويورك السابق أندرو كومو، يبدو وكأنه أعلن هزيمته مسبقًا من خلال تصريحاته. ففي مقابلة مع قناة "MSNBC" بعد خسارته في الانتخابات التمهيدية وترشحه كمرشح مستقل، اعترف كومو شخصياً بإدراكه للاصطفاف الاجتماعي، وذلك عندما سُئل: "ما الذي لم تره في الناخبين؟" فأجاب: "رأيت الغضب المناهض لإسرائيل في الشارع، لكنني لم أدرك أنه سيكون مؤثراً في قرار التصويت لرئاسة البلدية".

التغيير لن يطال رئيس البلدية وحده

كان من المحتم أن تفرض غزة وشعبها المقاوم ثمناً على أولئك الذين شاركوا في الفظائع المستمرة منذ ثلاث سنوات أو وقفوا متفرجين عليها. وكانت النتائج السياسية لهذا الثمن مؤكدة، وأول عملية محاسبة كبرى توشك أن تحدث في نيويورك، عاصمة المال والإعلام في العالم.

إن انتصار زهران مامداني المتوقع لن يكون مجرّد تغيير في موقع رئيس بلدية فحسب؛ بل تدخلا تاريخيًا لغزة في العواصم الغربية السياسية التي اكتفت بالمشاهدة، وإعلانا سياسيا بأنّ العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر 2023 باتت مستحيلة، وأن غزة هي من تحدد إلى حد كبير بوصلة الإنسانية.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!