
د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس
يُعَدّ مبدأ الشورى أحد الركائز الأساسية في الحكم الإسلامي، وقد تجسّد تطبيقه بوضوح في دولة نور الدين محمود زنكي، فقد اتسم حكمه بالحكمة والعدل والحرص على تطبيق التوجيه القرآني بوجوب الأخذ بالشورى، فاعتمد على رأي العلماء والأمراء في اتخاذ القرارات، مما أسهم في ترسيخ وحدة الدولة وتعزيز قيم العدالة والمشاركة في صنع القرار وتنفيذه. وقد رأى نور الدين محمود أهمية الشورى في حيوية الأمة وأمنها، واستقرارها، والأهم من ذلك كله: أن الله جعل فيها سورة من سور القرآن الكريم، حملت اسمها وهو مبدأ أرشد إليه القرآن الكريم، وهو يمثل أرقى أشكال التعاون قال تعالى:
﴿وَٱلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ﴾ [الشورى:38] . كما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه بشكل لا يقبل التأويل في قوله تعالى: ﴿وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [عمران: 159] .
والشورى واجبة على الحاكم في الشريعة الإسلامية، وإلى هذا القول ذهب كثير من العلماء، والفقهاء، فلا يحلُّ للحاكم أن يتركها، وأن ينفرد برأيه دون مشورة المسلمين من أهل الشورى، كما لا يحلُّ للأمة الإسلامية أن تسكت على ذلك، وأن تتركه ينفرد بالرأي دونها، ويستبد بالأمر دون أن يشاركها فيه (1)، فالأمة لا تنهض إلا إذا أخذت بفقه النهوض، والذي منه ممارسة الشورى في نطاقها الواسع.
ولقد اعتمدها نور الدين محمود، ولم ينفرد باتخاذ القرارات، بل تبادل الآراء في كلِّ أمور الدولة، فكان له مجلس فقهاء، يتألف من ممثلي سائر المذاهب والصوفية، يبحث في أمور الإدارة، والنوازل، والميزانية.
1 ـ الشورى في القضايا العامة: وثمة وثيقة قيمة يثبتها أبو شامة بنصها عن أحد المحاضر التي دونت بصدد عدد من قضايا الوقف والأملاك، كانت قد أُدخلت ضمن أوقاف الجامع الأموي، بدمشق، وسعى نور الدين إلى فصلها، وإعادتها إلى قطاع المنافع العامة، وبخاصة مسائل الدفاع والأمن، وقد تمثَّلت في تلك الوثيقة بوضوحٍ الرغبة الجادة لدى نور الدين في الأسلوب الشوري الحر باعتباره الطريق الذي لا طريق غيره للوصول إلى الحق (2).
ففي التاسع عشر من صفر سنة أربع وخمسين وخمسمئة أحضر نور الدين أعيان دمشق من القضاة، ومشايخ العلم، والرؤساء (3)، وسألهم عن المضاف إلى أوقاف الجامع بدمشق من المصالح ليفصلوها منها، وقال لهم: (ليس العمل إلا ما تتفقون عليه، وتشهدون به، وعلى هذا كان الصحابة رضوان الله عليهم، يجتمعون، ويتشاورون في مصالح المسلمين، وليس يجوز لأحد منكم أن يعلم من ذلك شيئاً إلا ويذكره، ولا ينكر شيئاً مما يقوله غيره إلا وينكره، والساكت منكم مصدِّق للناطق، ومصوِّبٌ له.
فشكروه على ما قال، ودعوا له، وفصلوا له المصالح من الوقف، فقال نور الدين: إنَّ أهم المصالح سدُّ ثغور المسلمين، وبناء السور المحيط بدمشق، والفضيل، والخندق لصيانة المسلمين، وحريمهم، وأموالهم، ثم سألهم عن فواضل الأوقاف هل يجوز صرفها في عمارة الأسوار، وعمل الخندق للمصلحة المتوجهة للمسلمين (4) فأفتى شرف الدين المالكي بجواز ذلك، ومنهم من روّى في مهلة النظر، وقال الشيخ ابن عصرون الشافعي: (لا يجوز أن يصرف وقف مسجد إلى غيره، ولا وقف معين إلى جهة غير تلك الجهة، وإذا لم يكن بدٌّ من ذلك؛ فليس طريقة إلا أن يقترضه من إليه الأمر من بيت مال المسلمين، فيصرفه في المصالح، ويكون القضاء واجباً من بيت المال. فوافقه الأئمة الحاضرون معه على ذلك). ثم سأل ابن أبي عصرون نور الدين: (هل أُنفق شيء قبل اليوم على سور دمشق، وعلى بناء بعض العمارات المتعلقة بالجامع المعمور بغير إذن مولانا؟ وهل كان إلا مبلغاً للأمر في عمل ذلك؟) فقال نور الدين: (لم ينفق ذلك، ولا شيء منه إلا بإذني وأنا أمرت به) (5).
2 ـ مجالس متخصصة: كان مجلسُه ندوةً كبيرةً، يجتمع إليها العلماء، والفقهاء للبحث والنظر (6)، ولم تكن المناظرات التي شهدتها مجالسه تزجيةً للوقت، وتخريجاً نظرياً للفروع على الأصول، وترفاً فكرياً... إنما كانت نشاطاً جاداً من أجل مجابهة المشاكل، والتجارب المتجددة المتغيِّرة، بالحلول المستمدة من شريعة الإسلام وفقهه الواسع الكبير، ما دام الرجل يسعى إلى إعادة صياغة الحياة في ميادينها كافةً وعلى مدى مساحاتها بما ينسجم وعقيدة الإِسلام، ورؤياه لموقع الإنسان في العالم... ومن ثم فإنَّ ندوات كهذه أشبه بمجالس أو (لجان برلمانية) متخصصة، تجتمع بين الحين، والحين لحلِّ مشكلة ما، أو استعدادُ تشريعٍ، أو إقرارُ قانونٍ.
ونحن نذكر هنا ذلك الاجتماع الموسَّع الذي مرَّ ذكره مع حشد من العلماء، الذين اختيروا لكي يمثلوا المذاهب الفقهية كافة، من أجل النظر في عدد من قضايا الوقف والمصالح العامة (7). وقد شبَّه ابن الأثير مجلسه بمجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس حلم وحياء، لا تؤبن فيه الحرم، ولا يذكر فيه إلا العلم والدين، وأحوال الصالحين، والمشورة في أمر الجهاد، وقصد بلاد العدو، ولا يتعدى هذا (8)... وإلى روايته الأخرى التي يتحدث فيها عن قيام نور الدين باستحضار عدد من الفقهاء، واستفتائهم في أخذ ما يحلُّ له من: (الغنيمة ومن الأموال المرصدة لصالح المسلمين، فأخذ ما أفتوه بحلِّه، ولم يتعده إلى غيره ألبَـتَّـةَ) (9).
فما يصدر عن ممثلي الشريعة الغرَّاء يتوجب أن يكون ملزماً لكل إنسان، سواء كان في القمة أم في القاعدة، وقولهم هو القول الفصل لأن نور الدين ـ وقد عرفنا مدى صدقه مع ربّه ومع نفسه ومع رعيته ـ ما كان يريد أن يمارس الاستشارات القانونية المزدوجة، ويبرز للناس أنه لا يقدم على عمل إلا بعد الاطلاع على رأي قادة فكرهم، ومشرعي قوانينهم، ويسعى في الخفاء إلى تنفيذ ما كان قد اعتزمه مسبقاً مهما كانت درجة تناقضه مع طروحات اللجان الاستشارية، والتشريعية، والبرلمانية، التي ستكون بمثابة الرداء الخارجي الذي يحمي في داخله مضامين، وممارسات لا تمتد إلى لون الرداء ونسيجه في شيء (10).
وكان يكاتب العلماء للاستشارة، فقد ذكر ابن الجوزي: أنَّ نور الدين كاتبه مراراً (11). وكان نور الدين يسأل العلماء، والفقهاء عمّا يَشْكُل عليه من الأمور الغامضة وكان يقول لمستشاريه من العلماء، والفقهاء: (بالله انظروا أي شيء علمتموه من أبواب البر والخير دلّونا عليه، وأشركونا في الثواب. فقال له شرف الدين بن أبي عصرون: والله ما ترك المولى شيئاً من أبواب البر إلا وقد فعله، ولم يترك لأحد بعده فعل خيرٍ، إلا وقد سبقه إليه) (12).
3 ـ فراسته في معرفة العلماء: لم يكن الرجل يتعامل مع العلماء بحساب الجملة، كما يقولون، حيث يختلط الفقيه بالجاهل تحت ستار العلم، ويضيع الجيد بالرديء، وحيث يبرز أحياناً من بين العلماء رجل، أو اثنان، أو أكثر، فيمتطوا المكانة التي بلغوها، ويختبئوا خلف الرداء الذي لبسوه؛ لكي يزيِّـفوا حقيقةً، أو يلبسوا باطلاً بحق، أو يشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً.
إن الرجل يرفض الكذب؛ الكذب على الله، وعلى الناس، وعلى الحقيقة، وبالتالي فهو يرفض الغش، والتزوير، والتضليل، والخداع، وهو ـ من الجهة الأخرى ـ يملك من الذكاء، وعمق النظر، وسرعة البديهة ما يجعله يزن الناس الذين يتعامل معهم بدقة عجيبة، كدقة الموازين، (فهو كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ متحدثاً عن نفسه: لست بالخبِّ، ولا الخبُّ يخدعني)، ومن ثم يبدو أن ليس بمقدور أي رجل أن يعبر على بداهة نور الدين، وتفحصه الذكي للرجال؛ حتى لو تدثَّر بألف رداء علمي، واختبأ خلف ستار.
فهذه الحادثة، التي يرويها لنا شاهد عصره العماد الأصفهاني تحمل دلالتها على علميَّة الرجل، ورفضه للخرافة، وفهمه العميق للرجال: (في رجب ـ يقول العماد ـ فوَّضَ إليَّ نور الدين إحدى مدارسه، وعوَّل عليَّ في التدريس، والنظر في أوقافها، وكان الفقيه فيها أبا البركات خضر بن شبل الدمشقي، فلما توفي سنة 562هـ خلَّف ولدين، واستمرَّا فيها على رسم الوالد، ثم خدعهما رجل مغربيٌّ، استهواهما بعمل الكيمياء، ونهج بهما سبيل الإغواء، فصاهراه، وظاهراه، فغاظ نور الدين هذا المعنى، وأحضرهما، واستوفى عليهما أنواع التوبيخ، فلم يجد من أحدهما لأمره سمعٌ، فقال لي: تسلَّم الموضوع، ورتبني فيها مدرساً وناظراً) (13).
والمقصود من كلامي: أن الملك العادل نور الدين محمود زنكي مارس الشورى على أسس صحيحة في دولته، وكانت له مجالس شورية، يلتقي فيها القادة العسكريون، والإداريون مع العلماء والفقهاء، فكلُّ حاكم يريد لحكمه أن يستمر، ولنظام دولته أن يستقر عليه أن يكون حريصاً على الإلمام بحقيقة الأوضاع ببلاده، والشورى خير سبيل لتحقيق هذه الغاية.
ومع تطور أمور الحياة، لا غنى لأمة تريد أن تنهض عن مبدأ الشورى، ولا مانع من ضبط ممارسة الشورى، وفق نظام، أو منشور، أو قانون يعرِّف فيه ولي الأمر حدود ما ينبغي أن يشاور فيه، ومتى؟ وكيف؟ وتعرف الأمة حدود ما تستشار فيه ومتى؟ وكيف؟ لأن الشكل الذي تتمُّ به الشورى ليس مصبوباً في قالب حديدي (14)، فأشكال الشورى، وأساليب تطبيقها، ووسائل تحقيقها وإجراءاتها ليست من قبيل العقائد، وليست من القواعد الشرعية المحكمة التي يجب التزامها بنهج واحد في كل العصور والأزمنة، وإنما هي متروكة للتحري، والاجتهاد، والبحث، والاختيار، أما أصل الشورى فإنه من قبيل المحكم الثابت الذي لا يجوز تجاهله، أو إهماله؛ لأن الشورى في جميع الأمكنة والأزمنة مفيدةٌ، ومجدية، والدكتاتورية، أو حكم الفرد في جميع الأمكنة، والأزمنة كريهةٌ، ومخربة (15).
إن شؤون الحياة متعددة، ولكل شأن منها أناس، هم المختصون فيه، وهم أهل معرفته، ومعرفة ما يجب أن يكون عليه، ففي الأمة جانب القوة، وفي الأمة جانب القضاء، وفض المنازعات، وحسم الخصومات، وفيها جانب المال، والاقتصاد، وفيها جانب السياسة، وتدبير الشؤون الداخلية والخارجية، وفيها جانب الفنون الإدارية، وفيها جانب التعليم والتربية، وفيها جانب الهندسة، وفيها جانب العلوم والمعارف الإنسانية، وفيها غير ذلك من الجوانب، ولكل جانب أناس عُرِفوا فيه، بنضج الآراء، وعظيم الاثار، وطول الخير والمران، هؤلاء هم أهل المشورة في الشؤون المختلفة، وهم الذين يجب على الأمة أن تعرفهم بآثارهم، وتمنحهم ثقتها، وتنيبهم عنها في الرأي، وهم الذين يرجع إليهم الحاكم لأخذ رأيهم، واستشارتهم، وهم الوسيلة الدائمة في نظر الإسلام، لمعرفة ما تسوس به الأمة أمورها ؛ مما لم يرد في المصادر الشرعية، ويحتاج إلى اجتهاد (16).
ولذلك ينبغي أن يعتمد في الشورى على أصحاب الاختصاص، والخبرة في المسائل المعروضة، التي تحتاج إلى نوع من المعرفة: ففي شؤون الدين والأحكام يستشار علماء الدين، وفي شؤون العمران والهندسة يستشار المهندسون، وفي شؤون الصناعة يستشار خبراء الصناعة، وفي شؤون التجارة يستشار خبراء التجارة، وفي شؤون الزراعة يستشار خبراء الزراعة وهكذا.... وهنا لابد من توجيه الأنظار إلى أنه من الضروري، أن يكون علماء الدين قاسماً مشتركاً في هذه الشؤون، حتى لا يخرج المستشارون في تقرير السياسات المتنوعة عن حدود الشريعة (17). لقد كان نور الدين يستشير كثيراً من كبار رجال دولته، سواء من الإداريين، أو السياسيين، أو العلماء، أو الفقهاء، أو الأعيان، وسنرى ذلك في هذا الكتاب ـ بإذن الله تعالى ـ.
المصادر والمراجع:
(1) فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم، علي محمد الصلابي، ص 454.
(2) فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم، علي محمد الصلابي، ص 454.
(3) نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل، ص 80.
(4) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، أبو شامة المقدسي، (نقلاً عن نور الدين محمود ص 81).
(5) المصدر نفسه ص82.
(6) التاريخ الباهر في الدولة الأَتَابِكِيَّة، ابن الأثير، ص 171 ـ 173. نور الدين محمود، عماد الدين خليل، ص 133.
(7) نور الدين محمود، عماد الدين خليل، ص 133.
(8) التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، ابن الأثير، ص 173. نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 133.
(9) التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، ابن الأثير، ص 164.
(0[1]) نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل، ص 134.
(1[1]) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ابن الجوزي، (10 / 249).
(2[1]) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، أبو شامة المقدسي، (1 / 374).
(3[1]) البرق الشامي، عماد الدين الأصفهاني، ص 119 ـ 120.
(4[1]) فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم، علي محمد الصلابي، ص 464.
(5[1]) فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم، علي محمد الصلابي، ص 465.
(6[1]) الشورى بين الأصالة والمعاصرة، عز الدين التميمي، ص 57.
(17) الشورى بين الأصالة والمعاصرة، عز الدين التميمي، ص 58-59.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس