أحمد البرعي - خاص ترك برس

يكاد يجمع المختصون في شأن الحركات "الإرهابية" التي تقوم بعمليات تفجيرية أو "انتحارية" أن الهدف من وراء مثل هذه الأعمال ليس قتل الأبرياء من الأطفال والنساء العزل، وإنما تهدف بشكل أساسي إلى إرسال رسائل موجهة في أوقات معينة.

ضجت وكالات الأنباء التركية والإقليمية والدولية بنبأ استهداف انتحاري لمجموعة من الشبان الذي كانوا يتجمعون في مدينة سروج التابعة لولاية شانلي أورفا الحدودية التركية ذات الأغلبية الكردية منذ عدة أيام، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 30 شخصًا وإصابة ما يزيد عن مائة جريح، وصفت جراح 10 منهم بالحرجة جدًا.

ردًا على هذه الجريمة البشعة، توالت عبارات الإدانة والاستنكار من جهات عدة وبعبارات متفاوتة الحدة والدلالات، فكانت كلمة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والذي كان في زيارة لقبرص التركية والتي أعلن فيها أنه "لا دين ولا وطن ولا عرق ولامذهب للإرهاب". وقال أيضًا "كنا ولا زلنا نشجب ونلعن الإرهاب أينما وقع ومن أي جهة كان، ولكن هذه المرة أضحى الأمر ملحًا لأن ننتقل من مجرد الكلام والشجب والإدانة إلى العمل والإجراءات على الأرض" وهو ما يشير بشكل واضح أن الرد التركي هذه المرة حتميًا، ولا يمكن تأخيره وخاصة أن تركيا، في الأونة الأخيرة، كانت قد شرعت في حشد وتعبئة القوات التركية على الحدود السورية للتدخل العسكري الفعلي في سوريا وإقامة منطقة عازلة رغم المعارضة العلنية لحلف الناتو والولايات المتحدة وإيران للتدخل التركي. ولكن هذه العملية، إن ثبت وقوف "داعش" وراءها، فهي تعتبر بمثابة إعلان حرب فعلية على الجمهورية التركية وهو ما يعزز الموقف التركي محليًا وإقليميًا وأمميًا للتدخل العسكري.

هل فعلًا داعش هي من نفذت هذه العملية؟ ولماذا؟

الأنباء الأولية، حسب مصادر إعلامية، تشير إلى أن منفذة العملية فتاة تبلغ من العمر 18 عامًا وقد تم القاء القبض على انتحاري آخر في المكان ولكن التحقيقات النهائية لم تنشر بعد، ومع ذلك لا تزال أصابع الاتهامات تشير بشكل مباشر إلى "تنظيم الدولة" الذي يعرف باسم "داعش" وجاء ذلك على لسان العديد من المسؤولين الأتراك على رأسهم رئيس الوزراء أحمد داود أغلو ونائبه نعمان كورتولوموش الذي قام بزيارة لمنطقة الحدث والمشاركة في جنازة بعض من ارتقوا إثر هذه العمل الإرهابي.

كما نشر حذيفة عبد الله عزام، وهو نجل الشهيد عبد الله عزام الذي كان أستاذا لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، على حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي أن البغدادي، زعيم تنظيم الدولة، كان قد طالب الجولاني، أمير جبهة النصرة في سوريا بتنفيذ عمليات تفجيرية مشابهة في تركيا ولكن الأخير رفض ذلك وكانت هذه الحلقة جزء من سلسلة اختلافات بين الكيانين مما أشعل الخلاف الحاد بينهما. الغريب أن من يقوم بمثل هذه الأعمال لا يتوانى في الإعلان عن مسؤوليته وتبنيه للعملية ببث فيدوهات ورسائل مسموعة أو مرئية وهو ما لم تقوم به "داعش" في معظم العمليات التي نسبت لها. بينما يرى البعض أن هذه العملية رسالة قوية ردًا على الاعتقالات والحملات التي قامت بها الحكومة التركية باعتقال ومطاردة بعض من يقدمون الدعم اللوجيستي لتنظيم الدولة.

ولكن ما يثير الاستغراب والاستهجان الهجوم الحاد الذي قام به رئيس حزب الشعوب الديمقراطي، صلاح ديمرطاش، ضد شخص الطيب أردوغان، وهتاف جمع من أنصار حزبه بأن "أردوغان القاتل" وقارن دميرطاش بين ما فعله الطيب أردوغان عندما قطع زيارة لدول أفريقية لتعزية السعودية بوفاة الملك عبد الله بينما ارتقى في تركيا أكثر من 30 شهيدًا ولم يقطع زيارته لقبرص ولم يأت لتقديم التعزية، بل وذهب إلى أنه لم يواس أهل المغدورين ولو بكلمة لأنه حريص على أن لا يزعج أصدقاءه من الداعشيين، على حد قوله، وأضاف أن الحكومة التركية وعلى رأسها أردوغان تقف وراء داعش وتدعمها وإلا فكيف استطاع أن يطلق سراح الرهائن الأتراك قبل بضعة أشهر سوى باتفاق مريب، على حذ زعمه، بل وذهب لأبعد من ذلك بمطالبة داود أوغلو إغلاق مراكز الدعم اللوجستي والتدريبي لداعش في "أكشتشا كالا" "وجيلان بينار"، حيث تنتشر العديد من الكيانات، بغطاء مسميات الجمعيات الخيرية، التي تقدم الرجال والمال لداعش، على حد زعمه.

وبمثل هذه الادعاءات والافتراءات التي ألقاها الرجل دون دليل أو أساس، فقد أضحت الحكومة التركية شريكة في الدم ومسئولة عن عدم حماية الشعب الكردي وتركها لقمة سائغة للحركات الإرهابية، وعليه فقد مهد الطريق لما يرمي إليه بمطالبته للشعب الكردي بالتسلح للدفاع عن نفسه، وهو أمر غاية في الغرابة والدهشة، فمتى كان رؤساء الأحزاب في الدول يطالبون طائفة أو مجموعة عرقية معينة أن تحمي نفسها بنفسها، ولكن ذلك يبدو ويكأنه استثمار للحدث لتحقيق غاية ما.

ولكن، وبغض النظر عن ادعاءات حزب الشعوب الديمقراطي، فقد ذهب البعض إلى قصور يشوب عمل الجهات الحكومية التركية، إلا أنه من الإجحاف الصارخ أن تتهم الاستخبارات التركية والشرطة المحلية بالتقصير في منطقة مثل الجنوب الشرقي التركي الواقع بين ثلاث جبهات مشتعلة بين العراق وسوريا وإيران بحدود طويلة يصعب إن لم يكن مستحيلًا التحكم فيها ومراقبتها.

وهذا ما يثير التساؤلات حول ردود حزب الشعوب الديمقراطي باستغلاله التفجير لأغراض سياسية بدأت تتضح مؤشراتها بشكل جلي عقب قيام أحد أعضاء البرلمان التركي عن حزب الشعوب الديمقراطي بارسال التحية والسلام إلى جبل قنديل الذي تتخذه الحركة الانفصالية الكردية، حزب العمال الكردستاني، مقرًا لها؟! وهو ما يشير بشكل قاطع إلى وجود صراع نفوذ واضح داخل البيت الكردي بأقطابه الثلاثة، فمن جهة، جزيرة إمرالي وفيها عبد الله أوجلان الزعيم المؤسس لحزب العمال الكردستاني والذي يدعم عملية التصالح والسلام الداخلي، ومن طرف آخر جبل قنديل وفيه مراد قرة إيلان واسمه  الحركي "جمال" وهو رئيس اللجنة التنفيذية في حزب العمال الكردستاني والمتنفذ صاحب الكلمة العليا لامتلاكه القوة والسلاح، ومن جهة ثالثة الحزب السياسي "حزب الشعوب الديمقراطي" والذي يرأسه دميرطاش، والذي كان قد نادى حزب العمال الكردستاني صراحة قبل أيام في برنامج تلفزيوني إلى ضرورة إلقاء السلاح وخاصة بعد دخول حزبه البرلمان التركي في الانتخابات الأخيرة بنسبة وصلت إلى 13% من أصوات الناخبين الأتراك والأكراد. فما الذي حدث حتى ينقلب رأساً على عقب ويطالب بحمل السلاح وحماية الشعب الكردي.

هل تعد هذه العملية استدراجًا لتركيا للتدخل التركي العسكري المباشر في الحرب الطاحنة في المنطقة؟ أم أن تركيا أنضج سياسياً وعسكرياً من أن تستدرج إلى أتون معركة لا تعرف عواقبها ومآلاتها؟ أم أن تركيا كانت تجهز وتعد للدخول إلى أرض المعركة لإقامة المنطقة العازلة التي تنادي بها أنقرة منذ مدة وتجابه بمعارضة الحلفاء والأصدقاء؟ هل لو فاز العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة كما كان يطمح ويتمنى، هل كان سينتظر كل هذا الوقت للتدخل المباشر وهو يرى المؤامرات بل والخطط الواضحة المعلنة لانشاء كيانات معادية على حدوده الجنوبية الشرقية؟

بالتزامن مع هذه العملية أعلن الجيش التركي أنه قد عثر على عبوة ناسفة 100 كيلو في قريبة سوتلاجا غربي البلاد، وقام مجهولون بإطلاق النار على مخفر للشرطة في إسطنبول، وقامت مجموعة تابعة لحزب العمال الكردستاني باطلاق النار على نقطة للجيش التركي دون وقوع إصابات. هل يجبر ذلك تركيا على عملية "حزم" تركية في سورية أم أن الواقع والجغرافيا والتحديات أعقد وأصعب بكثير؟!

عن الكاتب

د.أحمد البرعي

باحث ومحاضر في قسم الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة أيدن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس