
ترك برس
تناول مقال للكاتب والمحلل التركي طه قلينتش، مفهوم «الإنسان المسلم» في التصور الحضاري الإسلامي، من خلال سيرة المفكر والمناضل التركستاني محمد أمين بوغرا، بوصفه نموذجًا جامعًا بين العلم والجهاد، والفكر والعمل، في زمن الأزمات.
يستعرض الكاتب محطات حياته من نشأته في تركستان الشرقية، وقيادته للحراك المقاوم ضد الهيمنة الصينية، مرورًا بسنوات المنفى والتأليف، وصولًا إلى دوره الدبلوماسي في الدفاع عن قضية تركستان الشرقية في العالم الإسلامي.
كما يسلّط الضوء على الندوة الأكاديمية الدولية التي أُقيمت في إسطنبول لإحياء الذكرى الستين لوفاته، باعتبارها خطوة مهمة في إعادة بوغرا إلى الذاكرة الفكرية والأكاديمية المعاصرة. وفيما يلي نص المقال الذي نشرته صحيفة يني شفق:
تُنتج كل حضارة نمطها الإنساني الخاص، وضمن هذا الإطار يمتلك الإسلام بدوره تصورًا محددًا للإنسان ونموذجًا مميّزًا له. وإذا ما تأمّلنا في سِيَر المسلمين الذين تركوا أثرًا عميقًا في التاريخ ورسموا مساراتٍ يُحتذى بها من بعدهم، وجدنا أنهم يشتركون في سمات متقاربة. فإلى جانب خصالٍ أساسية كالاجتهاد، والصبر، والإيثار، والمثالية، تتجلى في هذه الشخصيات قدرةٌ على الجمع—عند الضرورة—بين العلم والجهاد، وبين القلم والسيف. فالإنسان في التصور الإسلامي كائنٌ كاملٌ ومتطوّر قادر على إعادة رسم مساره وفق مجريات الأحداث، ومواصلة نضاله بثبات دون أن يحيد عن طريقه، مهما اختلفت الظروف.
وفي تاريخنا الحديث، لا تخلو بقاع العالم الإسلامي من نماذج مماثلة. غير أنني أركّز بصورة خاصة على الأصوات التي ارتفعت من مناطق الأزمات، لأن النماذج التي قدّموها تمثّل في الوقت ذاته ملاحم صبر ومقاومة تتجاوز حدود الزمن. وإذا قيل: «مثل من؟» فإن أول من يخطر ببالي هو محمد أمين بوغرا (1901–1965).
وُلد محمد أمين بوغرا في مدينة خوتن بتركستان الشرقية، لعائلة عريقة تعود جذورها إلى المتصوف الشهير المدفون في سمرقند، خواجة عبيد الله أحرار (ت. 1490). وبسبب وفاة والده في سن مبكرة، نشأ تحت رعاية خاله وتلقى تعليماً إسلامياً متينًا. ومنذ سنوات شبابه الأولى، أدرك بوغرا الواقع المرير الذي تعيشه تركستان الشرقية تحت التسلط الصيني،. وخلال جولة داخلية استمرت ستة أشهر عام 1931، زار جميع مدن تركستان الشرقية، وعاين أوضاع الناس عن كثب، وأجرى في غولجا مشاورات مطوّلة مع العالِم والسياسي ثابت دامولا (1883–1934). اتفق بوغرا ودامولا على ضرورة خوض كفاح فعلي ضد الصين. وبقيادة «منظمة الثورة الوطنية» التي أسسها بوغرا عام 1932، اندلعت أولى الانتفاضات في قضاء كاراكاش، وسرعان ما امتدّت إلى كامل خوتن، وفي غضون شهر واحد (نيسان/أبريل 1933) تأسست "حكومة خوتن الإسلامية".
عاش بوغرا حياة حافلة بالعمل والنضال حتى اضطر لمغادرة تركستان الشرقية نهائياً عام 1949، قضى خلالها الفترة ما بين 1934 و1943 في المنفى بين الهند وأفغانستان. وخلال إقامته في كابل، أتمّ مؤلفه الضخم "تاريخ تركستان الشرقية"، وهو تحفة فريدة ومصدر مرجعي رصين لا يزال يعتد به حتى يومنا هذا.
بعد هجرته، استقر بوغرا في أنقرة عام 1951، وتمكّن، إثر مفاوضات أجراها مع حكومة عدنان مندريس، من توطين 1850 لاجئًا من تركستان الشرقية في تركيا. وبذلك، أُنيطت به مهمةٌ جديدةٌ على نطاقٍ عالمي: تمثيل قضية تركستان الشرقية دبلوماسياً في محافل العالم الإسلامي، من دلهي إلى القاهرة، ومن لاهور إلى القدس، ومن مكة إلى راولبندي. وقد آتت هذه الجهود ثمارها، حيث لا يزال من الممكن اليوم العثور في أرجاء العالم العربي على من يعرف محمد أمين بوغرا أو شهد نضاله.
وبعد حياة حافلة امتدت 64 عامًا، توفي محمد أمين بوغرا في 14 حزيران/يونيو 1965 في أنقرة، بعيدًا عن وطنه الذي أحبه واشتاق إليه دائمًا. ولا يزال قبره في مقبرة جيبجي العصرية شاهدًا حيًا على عزيمة الإنسان المسلم في الكفاح، ومقصدًا للزائرين حتى اليوم.
إن استحضاري لذكرى محمد أمين بوغرا اليوم يأتي بمناسبة انعقاد " الندوة الدولية لإحياء الذكرى الستين لوفاة محمد أمين بوغرا"، والتي استضافتها جامعة "صباح الدين زعيم" بإسطنبول في معهد أبحاث طريق الحرير يوم الأربعاء الماضي (17 ديسمبر)، بالتعاون مع جمعية الفارابي للتعليم والثقافة، وأكاديمية بوغرا، وجمعية علماء تركستان الشرقية، وجمعية الذاكرة الرقمية، ودار نشر تاكلامكان.
وتميزت الندوة، التي عُقدت في قاعة عبد الله تيفنكلي بحرم جامعة هالكالي، بجانبين بارزين: الحضور الكثيف للأكاديميين والباحثين الشباب، وتقديم الأوراق البحثية بأربع لغات: التركية والعربية والإنجليزية والأويغورية. وكانت هذه المرة الأولى التي يُحتفى فيها بذكرى محمد أمين بوغرا في الأوساط الأكاديمية التركية ببرنامج بهذا الحجم.
لقد كنت مدعواً للندوة، ولكن نظراً لارتباطي بإلقاء ثلاث محاضرات حول تركستان الشرقية في أماكن مختلفة من إسطنبول في اليوم نفسه، قمنا بتقسيم العمل مع أصدقائنا الأويغور: فقد تحدثوا عن القضية في الجامعة، وأنا تحدثت عنها في المدارس في آن واحد.
وبهذه المناسبة، نسأل الله أن يتغمد روح "الإنسان المسلم" محمد أمين بوغرا بواسع رحمته، وأن يرفع درجاته في عليين.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!











