بلال سلايمة - خاص ترك برس

أعلنت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا يوم الأحد (16 آب/ أغسطس) أن واشنطن لن تقوم بتجديد مهمة بطاريات صواريخ "باتريوت" الموجودة في الأراضي التركية، والتي ستنتهي في شهر تشرين الأول/ أكتوبر القادم. البيان المشترك أكد أن بطاريات الصواريخ ستتمّ إعادتها خلال أسبوع في حال دعت الحاجة إلى ذلك. الأمر الذي عاد وأكد عليه المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية "جيف ديفيس" يوم الإثنين، عندما قال إن سحب بطاريات الصواريخ لا يعني تراجع الولايات المتحدة عن تعهداتها لتركيا في الجانب الدفاعي، وأضاف "لا يوجد أي تغير بالنسبة لعلاقاتنا مع تركيا في الشأن الدفاعي، وسنستمر بدعم حلفائنا ضمن حلف الناتو"، موضحًا أن سبب سحب الصواريخ هو تراجع الحاجة لها، حيث أن "قوة النظام السوري الصاروخية قد تراجعت بشكل لم تعد فيه قادرة على تشكيل خطر على تركيا".

وزارة الدفاع الألمانية من جهتها، والتي تلعب قواتها دورًا رئيسًا في المهمة، كانت قد أعلنت في وقت سابق إنهاء مهمتها في تركيا، وسحب قواتها المرافقة لبطاريات الصواريخ مع نهاية شهر كانون الثاني/ يناير 2016، مبررة ذلك بـ"انخفاض مستوى التهديدات" و"الكلفة المرتفعة للعملية"، مضيفة أن الخطر الرئيسي في المنطقة قد أصبح تنظيم الدولة "داعش".

هذه التصريحات التي حاولت نفي حدوث أي تغيرٍ في سياسة حلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية في تعاملها مع اللاعبين في المنطقة، تخفي ورائها أكثر مما تصرح به، وتفتح باب التساؤلات عن السبب الحقيقي وراء هذه الخطوة، مع التشكيك بالسبب المعلن بتراجع قدرة النظام السوري الصاروخية، خاصة إذا ما وضعت هذه الخطوة ضمن سياق التغيرات التي تشهدها المنطقة في الأشهر الأخيرة.

عملية السياج النشط

أعلن حلف شمال الأطلسي " الناتو" عن إطلاقه عملية "السياج النشط" في شهر كانون الأول/ ديسمبر من عام 2012، بعد أن طلبت تركيا من الحلف المساعدة لمواجهة هجمات صاروخية محتملة من قبل النظام السوري، وذلك إثر سقوط عدة قذائف داخل الأراضي التركية في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2012 أدّت لمقتل خمسة أشخاص في بلدة "آكشاكاله" الحدودية. حيث تم نشر ست بطاريات صواريخ باتريوت الدفاعية والتي تمتلك القدرة على اعتراض الصواريخ الهجومية من قبل الولايات المتحدة، ألمانيا، وهولندا (بمعدل بطاريتين من كل دولة) ضمن إطار حلف الناتو قرب مدن "كهرمانمرش، غازي عنتاب، وأضنة" التركية في الشهر التالي كانون الثاني/ يناير 2013. وقد قام حلف الناتو بتمديد مهمة "عملية السياج النشط" لاحقًا في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2013.

حاجة تركيا لنظام دفاعي مستقل

لا تمتلك تركيا بخلاف كثيرٍ من دول المنطقة نظامًا للدفاع الصاروخي، حيث يرجع البعض عدم امتلاك تركيا لمثل هكذا نظام لعدم شعورها بالحاجة، وذلك نتيجة لوجودها تحت مظلة حلف الناتو والذي كان يؤمن لها النظام الدفاعي كل ما دعت الحاجة إليه كما حدث إبان حرب الخليج في عام 1991.

في المقابل تمتلك مصر، الأردن، الكويت، المملكة العربية السعودية، الامارات العربية المتحدة، وإسرائيل نظام باتريوت للدفاع الصاروخي، في حين تسعى إيران لشراء نظام (س-300) للدفاع الصاروخي من روسيا منذ عام 2007، وإن كانت الصفقة قد تم تجميدها بسبب العقوبات التي كانت مفروضة على إيران، إلا أنها عادت لتوضع على الأجندة من جديد بعد الإعلان عن التوصل لاتفاق بين إيران والدول 5+1.

في السنوات الأخيرة، بدأت تركيا من جهتها السعي للحصول على نظام دفاعي خاص بها، وهو ما تمثل بإطلاقها لمشروع "نظام الدفاع الصاروخي الجوي بعيد المدى" أو "ت- لوراميدس/ T-LORAMIDS" كما اصطلح على تسميته. الأمر الذي أثار حفيظة حلفائها الغربيين وتحديدًا بعد أن رست الصفقة (التي شاركت فيها شركات من الولايات المتحدة وروسيا) على شركة صينية، الأمر الذي اعتبروه خروجًا لتركيا من تحت عباءة الناتو والمعسكر الغربي، فيما أكدت تركيا أن سبب اختيار الشركة الصينية هو تقني بحت، ومردّه إلى موافقة الشركة الصينية على مشاركة المعرفة وتكنولوجيا التصنيع.

وعلى الرغم من أن ظاهر الاختلاف بين الطرفين حول هذه المسألة تتمثل بتوجه تركيا لشراء النظام من الصين وليس من المعسكر الغربي، فإن بعض المراقبين رأى مرد عدم الارتياح الغربي للخطوة التركية إلا عدم وجود رغبة لدى الدول الغربية لرؤية تركيا أكثر استقلالاً في إمكانياتها العسكرية، الذي سيؤثر إيجابًا على استقلالية قرارها السياسي، وهذا ما لا ترغبه الدول الغربية.

افتراق أولويات حلف الناتو وتركيا

سعي تركيا للتحرك بحرية وبما يوافق مصالحها القومية بعيدًا عن الدول الغربية في سياسة المنطقة، والذي أخذ بالتشكل أكثر مع بدء الربيع العربي، تصاعد بعد الانقلاب في مصر وتدهور الحالة في سوريا، حيث يبدو الملف السوري الآن بتطوراته المتسارعة أهم نقاط الافتراق بين الجانبين. فمع استمرار تركيا بالتأكيد على أن أصل المشكلة هو النظام السوري وماعدا ذلك هو عبارة عن نتائج لهذا الأصل، ترى الدول الغربية أن تنظيم داعش أصبح يمثل التحدي الحقيقي لأمن المنطقة، والخطر الرئيسي الذي تجب مواجهته.

ومع أن تركيا قد انضمت رسميًا لضربات التحالف من خلال فتح قاعدة "إنجرليك" أمام طائراته لضرب تنظيم داعش، إلا أن الاختلاف في مقاربة المشهد ما زالت هي الطاغية على التعاون بين الطرفين، ويتضح هذا من خلال التفسيرات المتعارضة بين الطرفين الأمريكي والتركي للمنطقة التي يراد تشكيلها في الشمال السوري، ففي حين يحاول الطرف التركي جعل المنطقة منطقة "آمنة" تمثل قاعدة انطلاق للمعارضة السورية في الشمال السوري، يؤكد الطرف الأمريكي أن ما سيتم تطبيقه هو "منطقة خالية من داعش"، دون أن يكون لهذه المنطقة تأثير في تغيير توازنات القوى في الشمال السوري بشكل واضح.

و بغض النظر عن تفاصيل الخلاف حول توصيف المنطقة بين الطرفين و مآلات ذلك، فإن انضمام تركيا لضربات التحالف وفتح قاعدة "إنجرليك" لضرب تنظيم داعش مثّل إشارة على تماشي تركيا مع المقاربة الدولية بقيادة الولايات المتحدة وحرف بوصلتها ولو تكتيكيًا من النظام السوري إلى تنظيم الدولة.

من ناحية ثانية فإن الولايات المتحدة لا تنظر بعين الارتياح إلى الحملة التي تقوم بها الحكومة التركية ضد حزب العمال الكردستاني من خلال توجيه ضربات جوية لمعاقل الحزب، حيث يطالب الجانب الأمريكي من الطرف التركي التركيز أكثر على مواجهة تنظيم الدولة.

وبين أولوية الولايات المتحدة والتحالف الذي تقوده بمواجهة تنظيم الدولة بوصفه الخطر الرئيسي لأمن المنطقة، وأولوية الأمن القومي التركي بمواجهة حزب العمال الكردستاني ورؤيتها الخاصة للأزمة السورية يزداد افتراق وجهات النظر بين الجانبين (مهما حاول الطرفين مقاربتهما)، الأمر الذي قد يكون ساهم في دفع الجانب الأمريكي لاتخاذ قرار يعبر فيه عن امتعاضه من سياسات الحكومة التركية.

سحب الصواريخ و الصفقة النووية

و بالانتقال إلى المشهد الإقليمي، فمن الواضح أن الإعلان عن التوصل لاتفاق بين إيران و الدول (5+1) في الرابع عشر من شهر تموز/ يوليو السابق قد فتح الباب لإعادة تموضع اللاعبين الإقليميين ومهد الطريق لإعادة رسم التحالفات وخريطة توازنات القوى. وفي هذا السياق يبدو الإعلان عن نية حلف الناتو سحب بطاريات الصواريخ من الأراضي التركية تأكيداً على تحسن علاقة الدول الغربية مع إيران وخطوةً على طريق بناء الثقة بين الطرفين.

فقد سبق للطرف الإيراني أن اعتبر نشر صواريخ بطاريات الباتريوت تهديدًا مباشرًا له، حتى أن قائد أركان الجيش الإيراني وقتها "حسن الفيروز آبادي" حذر تركيا من نشر الصواريخ على أراضيها واصفًا نشر الصواريخ بأنه تدبير غربي لإشعال حرب عالمية، وهدد مسؤول عسكري آخر بضربها، وقد عمل وزير الخارجية صالحي على التخفيف من حدة التصريحات واعتبرها تمثل "آراءً شخصية". كما أن المسؤولين الروس لم يخفوا تخفوهم آنذاك من كون نشر الصواريخ موجه مباشرة ضد إيران وليس ضد سوريا، وإن كان في كلا الحالتين موجهًا لحلفاء روسيا الإقليميين.

بالنظر إلى توقيت الإعلان، وفي ظلّ الأجواء الجديدة للمنطقة ما بعد الاتفاق النووي، تبدو خطوة سحب بطاريات صواريخ الباتريوت من تركيا خطوةً مدروسة وموجهة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها في الناتو ألمانيا لإعادة توزيع الأوراق في الساحة الإقليمية، ورسالةً ضمنية بإمكانية سحب الثقة من اللاعب التركي، على طريق تعزيز الثقة مع اللاعب الإيراني.

عن الكاتب

بلال سلايمة

باحث وكاتب متخصص في السياسة التركية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس