بلال سلايمة - خاص ترك برس 

عادت الأضواء من جديد لتسلّط على تنظيم غولن الذي صنفته الحكومة التركية منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي كتنظيمٍ إرهابي، التنظيم الذي كان يعرف باسم جماعة فتح الله غولن أو جماعة الخدمة برز إلى الأضواء أكثر خلال السنوات الأربعة الماضية، وتحديدًا مع اتهام السلطات التركية وعلى رأسها رئيس الجمهورية أردوغان للتنظيم وشبكة عناصره المتغلغلة داخل أجهزة الدولة (الكيان الموازي) بالوقوف خلف المحاولات المتكررة لإسقاط الحكومة التركية.

لا شك أن الخلاف حول ماهية التنظيم وأهدافه بين المعلن من قبل التنظيم والمتّهم به من قبل خصومه أكبر من مساحة المتفق عليه. كما أن حالة من عدم الوضوح والضبابية تواجه أي باحثٍ في فهم الأطر الفكرية والمرتكزات الإيديولوجية التي يقوم عليها هذا التنظيم.

بداية لا بد من الإشارة هنا إلا أننا أمام تنظيمٍ متفردٍ في آلية عمله وأركان بنيته الفكرية، الأمر الذي يجعل الكثير من المقارنات بين التنظيم وغيره من الحركات الإسلامية والاجتماعية في عالمنا العربي عبثيًا بل ومضللًا في كثير من الأحيان. وإن كانت ملامح التنظيم وآلية عمله بدأت تتضح أكثر بُعيد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي شهدتها تركيا في الخامس عشر من تموز/ يوليو وما تلاها من اعترافات أثناء التحقيق مع عناصر إلا أنه من المؤكد أن ما ظهر للرأي العام حول التنظيم ليس إلا رأس جبل الجليد. فنشاطات التنظيم التي وصلت ذروتها مع المحاولة الانقلابية المذكورة تمتد جذورها إلى سبعينيات القرن الماضي مع بداية نشاطات التنظيم كجماعة دعوية خدمية تولي جلّ اهتمامها لاستقطاب الموارد البشرية من الطلاب والزجّ بها في خضم مشروعها الذي تضخم مع الزمن.

ولعل محاولات فهم التنظيم لا بد لها أن تنطلق بداية من تحديد وفهم أركان بنيته الفكرية، بعيداً عن الخطوط العريضة واللافتات الدعائية التي يحرص التنظيم على رسمها للرأي العام (في العالم الإسلامي أم الغربي على حد السواء). وهنا لا بد من الإشارة إلى أن حقيقة التنظيم وطبيعة نشاطاته تبدو أكثر وضوحًا للمواطن التركي بحكم المعاشرة والمقاربة، بل إن الاستياء وحتى البغضاء لدى كثير من شرائح المجتمع التركي (بما فيهم الإسلاميين) الناتجة عن سلوك التنظيم دفعت البعض للتشفي من التنظيم وعناصره، ولم يجد التنظيم بعد سقوطه من يدافع عنه، إلا وسائل الإعلام الغربية.

الميكافيلية

لعل أهم دعائم الإطار الفكري الذي يقوم تنظيم غولن عليه هي المكافيلية بمفهومها "الغاية تبرر الوسيلة"، والميكافيلية التي يتبعها التنظيم بل ويحرص على تنشئة عناصرها عليها لا قاع لها. فالتنظيم لجأ منذ أواسط الثمانينات (كما تشير ملفات الادعاء العام) إلى سرقة أسئلة امتحانات دخول الكليات العسكرية وتسريبها لعناصرهم قبيل الامتحانات، هذا بغض النظر عن المحسوبية أثناء المقابلات. كما أن أداة التنظيم في تصفية خصومه داخل المؤسسات الحكومية وتحديدًا المؤسسة العسكرية اعتمدت على تلفيق قضايا تبين لاحقًا تزوير أدلتها بهدف إزاحة منافسي التنظيم وفسح المجال لأنصاره لشغل مناصبهم. ولعل قضيتي المطرقة والإرغناكون أبرز الأمثلة على ذلك. كما أن التنظيم لم يتورع حتى عن التجسس من خلال شبكة عناصره في مؤسسات الدولة واستخدام التسجيلات لاحقاً للابتزاز. ولعل المثير في هذا الصدد أن هذه الأفعال الغير المشروعة دينًا وقانونًا كانت تتم وفق فتاوي وتوجيهات قيادة التنظيم وعلى رأسهم غولن نفسه، في ظل تنظيم يدعي ويحرص على التعبئة الدينية الأيديولوجية لأتباعه.

المهداوية

ساعد خروج التنظيم من رحم الحركة النورسية واعتماده على أساليب التربية الصوفية في نشوء وتعزيز الفكر المهدوي ضمن أبناء التنظيم، الفكر الذي يقدس أبناء التنظيم فيه مؤسس التنظيم الأوحد فتح الله غولن ويضفون عليه صفات "فوق بشرية". وكان لافتاً في هذا الصدد اعترافات معاون رئيس الأركان التركي والمنتمي للجماعة التي أقر فيها باعتقاده بوجود صفات إلهية لفتح الله غولن زعيم التنظيم. هذه الهالة من القداسة حول زعيم التنظيم يتم زرعها ورعايتها في أبناء التنظيم من خلال التركيز بداية على كتب وخطب ورسائل فتح الله غولن كمصدر وحيد للتلقي، كما أن مسابقات وامتحانات الترقي داخل التنظيم تحوي أسئلة تتعلق بشخص غولن ومعيشته وتفاصيل حياته وصفاته، هذه التنشئة التي تتمحور حول شخصية غولن وتعاليمه تنتهي بترسيخ هالة من القداسة على زعيم التنظيم ينظر فيه أتباعه له على أنه شخص مختار من قبل الله، الأمر الذي يجعل طاعتهم له مطلقة.

التقية

ليست التقية بالأمر الجديد على الحركات والمذاهب الإسلامية بكل تأكيد، لكن التنظيم يستخدم التقية في كل حالاته وينشأ أفراده عليها، الأمر الذي جعله متفردًا بهذه الصفة عن بقية الحركات والجماعات الإسلامية التركية. كما أن التنظيم نجح في استخدام هذه الوسيلة للتغلغل في مؤسسات الدولة التي كانت حصنًا منيعًا على الإسلاميين في مرحلة من المراحل. وتشير اعترافات عناصر التنظيم السابقين كيف طُلب منهم أن يخفوا تدينهم وتوجهاتهم حتى وإن تطلب منهم الأمر التجرّء على بعض المحرمات الدينية كشرب الخمر على سبيل المثال بغيت التغلغل في مؤسسات الدولة التركية بما فيها الجيش. وقد ساهمت فتاوي من قبيل فتوى غولن نفسه لأتباعه من الفتيات بعد انقلاب 1997 على حكومة أربكان بخلع الحجاب بعد أن وصفه بأنه من "الفروع في الدين" إثر منع الانقلاب وقتها للحجاب في الجامعات والدوائر الرسمية، ساهمت هذه الفتاوى وغيرها في نشر وتعزيز فكرة التقية داخل أبناء التنظيم وحتى خارجه. ومن الملاحظ أن كافة الجماعات والحركات الإسلامية عارضت هذه الفتوى ووصفتها بالمعيبة ما جعلت غولن وتنظيمه متفردًا بهذا السلوك.

"الميكافيلية، المهداوية والتقية" جعلت التنظيم متفردًا في بنيته الفكرية، كما انعكست بطبيعة الحال على بنية التنظيم وآلية عمله والوسائل التي اتبعها خلال سنواته الأربعين من التغلغل في أجهزة الدولة التركية، ولعل هذه النقاط تكون محاور المقال القادم حول تنظيم غولن.

عن الكاتب

بلال سلايمة

باحث وكاتب متخصص في السياسة التركية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس