جلال سلمي - ترك برس

بعد طفو ظاهرة الدول القومية على السطح عقب الثورة الفرنسية التي انطلقت عام 1798 أصبح هناك مصطلح سياسي جديد يلعب دورًا هامًا في تحديد العلاقة بين هذه الدول التي صارت على النقيض من الإمبراطوريات مُجتمعة داخل حدود جغرافية معينة وتقطنها فئة قومية بعينها هذا المصطلح هو مصطلح "المصالح القومية".

أصبح هذا المصطلح هو أساس البرامج التي على أساسها تُبنى العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية بين الدول في وقتنا الحالي، ونتج عن هذا المصطلح الكثير من النزاعات السياسية والاقتصادية بين الدول القومية التي لطالما سعت لحماية مايحتوي هذا المصطلح من "مصالح قومية" تخصها وتجعلها دولة قوية بين الدول القومية الأخرى المجاورة لها والتي تعمل هي أيضًا على توازن القوة معها بنفس المنطلق.

وهناك الكثير من الأمثلة على النزاعات التي نتجت عن اختلاف في "المصالح القومية" وأشعلت فتيل الحروب القاتلة والمدمرة بين العديد من الدول ومن أشهر الأمثلة على هذه الحروب الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية التي نتجت عن اختلافات سياسية واقتصادية وجيوسياسية  خاصة بالمصالح القومية للدول الأوروبية.

وكما عمد المستعمر الأوروبي الذي ذاق المر من حروب "المصالح القومية" إلى جعل هذه الحروب دائما ً مشتعلة في منطقة الشرق الأوسط فقام باتباع سياسة "فرق تسُد" وقسم الدول المتلاحمة داخل الشرق الأوسط إلى دويلات وجعل بين حدود كل دولة من الدول مناطق اختلاف جيوسياسية اقتصادية مثل منطقة لواء الإسكندرون ما بين تركيا وسوريا ومنطقة حلايب ما بين السودان ومصر والكثير من المناطق التي تسببت وما زالت تسبب إلى يومنا هذا بإشعال الفتن والاحتراب في السياسة الخارجية بين الدول المُستعمرة سابقًا في منطقة الشرق الأوسط.

وأما فيما يخص "المصالح القومية" لتركيا فقد تسببت لها في عدة مشاكل وصعوبات في سياستها الخارجية لكونها وريثة لإمبراطورية عظيمة غير معلومة الحدود"القومية" بدقة ولكونها تجاور العديد من الدول على أكثر من محور، ويمكن سرد بعض المشاكل التي واجهت السياسة الخارجية التركية على أساس "المصالح القومية" حسب رأي الباحثين السياسيين والتاريخيين المُطلعين على الشؤون التركية بالشكل التالي:

ـ مشكلة هاتاي: هاتاي هي لواء الإسكندرون الذي يقع مابين تركيا وسوريا، كان لواء الإسكندرون وبلاد الشام أجمع تحت قيادة الدولة العثمانية، ولكن بعد اتفاقية موندروس التي وُقعت بتاريخ 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1918 بين الدولة العثمانية ودول التحالف أصبحت الدولة العثمانية منحصرة فقط ضمن حدود أضيق من حدود تركيا الحالية وقبلت الدولة العثمانية التخلي عن إدارة البلاد العربية وبعض بلاد البلقان التي كانت خاضعة لها بشكل رسمي ونهائي، وبعد هذه الاتفاقية وقع لواء الإسكندرون تحت السيطرة الفرنسية.

ظل لواء الاسكندرون خاضعًا للإدارة الفرنسية إلى عام 1921 إذ تم توقيع اتفاقية سلام بين مجلس الشعب التركي الأعلى الذي تم تأسيسه على أسس حرب التحرير التركية التي انطلقت عام 1919 وفرنسا التي اضطرت للاعتراف بالمجلس بعد المقاومة الشرسة التي أبداها الشعب التركي ضد المحتل الفرنسي في جنوب شرقي وشرقي الأناضول والتي كلفت فرنسا المُنهكة من الحرب العالمية الأولى الكثير من المخاسر.

وبناءًا على الاتفاقية الدبلوماسية بين تركيا وفرنسا هذه؛ قبلت فرنسا بإعطاء لواء الإسكندرون "إدارة ذاتية" داخل سوريا. وفي عام 1936 أعلنت فرنسا بأنها سترحل عن سوريا وستُعطي سوريا الاستقلال وهذا ما ولّد حالة غموض واضحة لدى الساسة الأتراك حول وضع الإسكندرون المستقلبي.

بعد حالة الغموض هذه؛ اقترحت فرنسا تحويل قضية الإسكندرون إلى عصبة الأمم للنظر فيها بشكل أممي، ولكن طلبت تركيا استقلال الإسكندرون. بعد اشتداد الحرب والاقتتال بين المجتمعات العربية والتركية والأرمنية الموجودة داخل لواء الإسكندرون قررت عصبة الأمم إعطاء الإسكندرون استقلالًا تامًا، استقلت الإسكندرون بتاريخ 7 أيلول/ سبتمبر 1938، وبعد إجراء الانتخابات البرلمانية قرر البرلمان الإسكندروني بتاريخ 29 حزيران/ يونيو 1939 الانضمام لتركيا بشكل كامل.

هذه القضية الناتجة عن الاختلاف الجيوسياسي في "المصالح القومية" لتركيا وفرنسا ومن ثم سوريا شغلت تركيا بشكل كبير وجعلتها تعيش سنوات صعبة مع فرنسا ومن ثم مع سوريا واستمرت سنواتها الصعبة مع سوريا إلى عام 1998 إذ بعد هذا العام أصبح هناك مرحلة انفراج جزئي بين الطرفين.

ـ قضية الموصل والسليمانية وكركوك: في آخر اجتماع لمجلس المبعوثين في إسطنبول بتاريخ 28 كانون الثاني/ يناير 1920 صوت النواب العثمانيين الأتراك، لم يشترك النواب العرب وغيرهم في هذا الاجتماع، على الميثاق القومي الذي يشمل خريطة توضح الحدود التي على أساسها تستطيع الدولة العثمانية قبول اتفاقيات السلام المتوقع مناقشتها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.

حسب هذا الميثاق؛ التي تم اعتماده فيما بعد من قبل ثوار حرب التحرير التركية وعلى رأسهم مصطفى كمال أتاتورك، فإن الموصل والسليمانية وكركوك أيضًا سيتم إشمالها في الحدود القومية للدولة العثمانية أو الدولة التركية المتوقعة تأسيسها بعد الحرب العالمية الأولى.

وقعت هذا المناطق تحت السيطرة الفرنسية بعد الحرب العالمية الأولى وفقًا لاتفاقية سايكس بيكو التي تم توقيعها عام 1916 ولكن بعد توقيع اتفاقية سان ريمو عام 1920 تركتها فرنسا لبريطانية كتقدير لها لمساعدتها إياها في إدارة سوريا ولبنان.

على الرغم من اتفاق فرنسا وبريطانية على تقسيم الموصل وما حولها فيما بينهما إلا أنها كانت ما تزال تحت الإدارة العثمانية وحسب المادة السابع من اتفاقية موندروس أرادت بريطانيا من الدولة العثمانية تفريغ الموصل والمناطق المجاورة لها من الجنود العثمانيين، لكن القائد العثماني علي إحسان باشا لم يقبل تنفيذ ذلك الأمر واستقال بعد ضغط الإدارة العثمانية عليه، بعد علي إحسان باشا تولى خالد أق مانسو باشا القيادة وأفرغ الموصل من جميع الجنود العثمانيين وبتاريخ 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1918 دخل الجنود البريطانيون الموصل والمناطق المجاورة لها.

بعد سيطرة البريطانيين على الموصل بدأت الحرب اليونانية العثمانية الوطيسة والتي انتهت عام 1922، وخلال هذه الفترة لم يستطع الأتراك الانتباه لمسألة الموصل وبقيت تحت السيطرة الإنجليزية. بعد الحرب التركية اليونانية تأسست الجمهورية التركية بتاريخ 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1923 وحاول مصطفى كمال أتاتورك بتشجيع من القائد العسكري جعفر طيار باشا، ولكن الإنجليز كانوا سباقين لصد أي هجوم محتمل من قبل تركيا فقاموا عام 1924 بتحريض "النصتريين المسيحيون" الموجودون داخل الموصل للهجوم على تركيا بدعوى حقهم في مدينة أنطاكيا وضرورة استردادها، وأيضًا حسب الوثائق والمصادر التاريخية دعم بريطانيا عصيان الشيخ سعيد عام 1925 ضد السلطات التركية وانشغلت السلطات التركية بهذين العصيانين وبذلت الكثير من جهدها وطاقتها للسيطرة عليهم وصدهم.

أيقنت السلطات التركية بأن حل قضية الموصل والمناطق المجاورة لها بالسلاح لن يجدي نفعًا بسبب قوة الإنجليز المتغلغلة في المنطقة فقررت إجراء مفاوضات ومشاورات مع بريطانيا فدعتها بتاريخ 19 أيار/ مايو 1924 لإجراء مؤتمر تشاوري وعُقد المؤتمر في نفس التاريخ تحت عنوان "اجتماع الخليج" في إسطنبول، ادعى الطرف التركي خلال المؤتمر بأن الموصل والسليمانية وكركوك هى أراضي عثمانية بقيت ومازالت كذلك ويحق لتركيا، وريثة الدولة العثمانية، السيطرة على هذه المناطق التي تُعد من حقها الطبيعي، وكما ادعى الطرف التركي بأن هناك روابط تاريخية وعرقية بين تركيا والمواطنين الذين يقطنون الموصل، ولكن الطرف الإنجليزي رفض وبشكل قاطع الطلب التركي وعلى هذا الأساس انتهى اجتماع الخليج.

انتقلت القضية إلى عصبة الأمم وقامت الأخيرة بدورها بطرح فكرة إجراء استفتاء شعبي ولكن إنجلترا ادعت بأن السكان المحليين لا يعلمون القراءة والكتابة وهذا يجعل صحة الاستفتاء غير مقبولة وبقيت تلك المناطق تحت السيطرة الإنجليزية ومن ثم العراقية ولم تستطع الجمهورية التركية الحصول تلك المناطق.

هذه القضية أيضًا جعلت السياسة الخارجية التركية تعيش أصعب مراحلها التاريخية.

ـ قضية قبرص: هي قضية تخص مصالح تركيا القومية من ناحية جيوسياسية وتاريخية وعرقية.

في السادس عشر من آب/ أغسطس من عام ألف وتسعمئة وستين تم إعلان استقلال قبرص عن الإدارة البريطانية بحكم ثنائي مشترك ما بين المواطنين اليونان والأتراك الذين يعيشون عليها بشكل مشترك منذ زمن بعيد.

لكن سرعان مانقض اليونان ذلك الاتفاق وفي 1 كانون الثاني/ يناير 1963 ارتكبوا العديد من المجازر الشنيعة والشرسة ضد المواطنين الأتراك، وبقيت هذه الجرائم تُرتكب وبشكل شبه يومي ضدهم وحاولت تركيا أكثر من مرة حل القضية عن طريق الأمم المتحدة والدعوى إلى التشاور بين اليونان والأتراك في قبرص ودعم الاجتماع الذي جمع الطرفين اليوناني والتركي عام 1965 وعام 1969 ولكن على الرغم من هذين الاجتماعين إلا أن الطرف اليوناني لم يوقف جرائمه فقامت تركيا مضطرة بتاريخ 15 تموز/ يوليو 1974 بالهجوم على قبرص واحتلت 3 مدن رئيسة يقطنها الأتراك في قبرص وهي لافكوشة وجيرنا وماغوسا.

هذه الحرب جعلت تركيا تتعرض لحصار دولي بقرار من الأمم المتحدة رقم 353 والصادر بتاريخ 20 يوليو 1974، هذا الحصار الدولي الشامل والذي استمر إلى عام 1980 جعل تركيا تواجه أكثر السنوات صعوبة منذ تأسيسها على الصعيدين الداخلي والخارجي، وما زالت تركيا إلى يومنا هذا تتعرض للضغوط من قبل الاتحاد الأوروبي واليونان والولايات المتحدة لسحب جنودها من قبرص ودعم قضية اتحاد قبرص تحت اسم "جمهورية قبرص".

هذه هي السنوات التي يمكن ذكرها والتي يمكن وصفها، حسب أراء الكثير من المؤرخين والباحثين السياسيين، بأنها من أصعب السنوات التي واجهتها منذ تأسيسها إلى يومنا هذا.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!