سعد وفائي - خاص ترك برس

مع دخول المنطقة الآمنة حيز التنفيذ دخلت الحالة السورية في منعطف جديد، قد يكون له أثر طويل الأمد على الجغرافية والديموغرافيا السورية، وإذا كانت تركيا تنادي بهذه المنطقة منذ فترة طويلة وتؤخر تنفيذها بضغط أمريكي فإن العامل الكردي لعب دورًا تحفيزيًا للأتراك لجعل تنفيذ المنطقة الآمنة في مقدمة أولويات السياسة الخارجية التركية في إدارتها للملف السوري حيث أن حزب الاتحاد الديمقراطي "PYD" تُدير المناطق ذات الأغلبية الكردية على الحدود السورية-التركية وهي منظمة لها ارتباط تاريخي معروف بحزب العمال الكردستاني المصَنف تركيًّا كمنظمة إرهابية.

يرحب غالبية السوريين بهذه بالمنطقة الآمنة، وبالسياسات التركية مع "PYD"، لما لهم من تجارب غير سارة مع هذه المنظمة، حيث أن تصريحاتها العلنية تختلف اختلافًا كبيرًا عما تنفذه من سياسات عنصرية على الأرض السورية، ففي حين تعلن "PYD" في كل لقاء على أنه ليس لديها أي مخطط انفصالي عن سوريا، يتصدر برنامجها السياسي رغبة المنظمة في تحقيق كونفدرالية في نص واضح وصريح هو التالي:

"مع بدايات القرن الحادي والعشرين يمتلك مجتمعنا الكردي في غرب كردستان إمكانيات مادية ومعنوية لا يستهان بها، استمدها من النضال الكبير الذي خاضه بجميع فئاته منذ أكثر من ثلاثين عامًا، في إطار عملية التحرر الوطني في عموم كردستان، قطع فيها أشواطا كبيرة على صعيد التغيير الذهني والثورة الوطنية الديموقراطية، وحقق من خلالها أرضية صلبة وأساسًا راسخًا لبناء مؤسساته الوطنية والديموقراطية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية... إلخ، والتي تشكل جوانب بناء الكونفدرالية الديموقراطية المستندة إلى المجتمع، إن اكتمال بناء هذه المؤسسات تم بالاعتماد على القوى الذاتية لشعبنا، والتضحيات التي بذلها حتى الآن، والقوة المعنوية التي يستمدها من دماء آلاف الثوريين الذين قدموا أرواحهم على هذا الدرب، وبدعم متبادل مع حركة التحرر الديموقراطي في عموم كردستان والقوى الديموقراطية في سوريا، سيكون اكتمالًا لبناء الكونفدرالية الديموقراطية، وحلًا للقضية الكردية في غرب كردستان في نفس الوقت".

وفي الوقت الذي تستند فيه المنظمة إلى حاضنتها الشعبية في الوسط الكردي بقوة السلاح فإنها تفتقد لحاضنة شعبية واضحة في باقي الشرائح السورية، وتعمل "PYD" على ترسيخ وجود الكونفدرالية على الأرض السورية تحت مسمى الإدارة الذاتية، محاولة استخدام بعض الأفراد من شرائح الشعب السوري "عربي كان أو آشوري" للحصول على شرعية وجودها، عاملة على وضع قوانين وإدارات مستقلة عن أي حالة سورية، وتعمل بكل طرق فرض الأمر الواقع على شرعنة القوى المسلحة النقية عرقيًا تحت مسمى "وحدات حماية الشعب" وهي قوة مسلحة كردية ليس لها أي هدف أو عمل في الثورة السورية، وتقتصر فقط على سياسة فرض الأمر الواقع غير ممتنعة عن التعامل مع جميع الأطراف بما فيها النظام الأسدي المجرم بحق السوريين. وتخدم وحدات حماية الشعب أجندة المنظمة الأم "PYD" في تحقيق الكونفدرالية. حيث تنشط "PYD" في جميع المحافل الدولية على شرعنة الإدارة الكردية المدنية (الإدارة الذاتية) والتأكيد على حق الكرد في قوة عسكرية خاصة هي وحدات حماية الشعب.

وتعمل المنظمة على التواجد في جميع المحافل السورية والإقليمية إن استطاعت كما الدولية، فكثيرًا ما تدعى المنظمة إلى تلك المحافل لتتكلم بلهجة عرقية (إثنية) واضحة، حيث يَفتقد خطاب المنظمة لأي لهجة سورية، فلم يحصل أن تكلمت المنظمة عن عذابات السوريين أو جرائم الأسد أو الكلام عن الثورة السورية وطموحاتها، بل كانت المنظمة ومنذ الشهور الأولى للثورة تفصل الحالة الكردية عن الحالة السورية ليس فقط في المدن ذات السّمة الكردية بل حتى في أحياء تقطنها غالبية كردية، حيث سمح نظام الأسد لـ"PYD" وبخطوة مفاجئة أن تنزل إلى شوارع حيي الأشرفية والشيخ مقصود في وسط حلب وحمايتها بالسلاح، وأعني هنا حمايتها من أن تغزوها المظاهرات المناهضة للنظام السوري وعمدت المنظمة إلى منع إدخال المساعدات الغذائية إلى النازحين لهذه الحياء إذا كان الناشطون من غير الجمعيات التي تتسم بالسّمة الكردية.

وتوضحت سياسة المنظمة في الأشهر التالية في جميع المناطق الكردية التي تتواجد بها من حيث ممارسة كل الضغوط من سجن وتعذيب ونفي للناشطين حتى الأكراد المؤمنين بوحدة سورية، وبمعنى آخر أنهم غير انفصاليين. وقد منعت هذه المنظمة ذات السياسات المرفوضة منظمات المجتمع المدني الكردية من النشاط في مناطق نفوذها وفرضت على تلك المنظمات أن يكون نشاطها حصرًا عبر "PYD" حتى على مستوى توزيع الطحين والتي كانت تلك المناطق في أشد الحاجة اليه.

لقد مارس "PYD" سياسات استفزازية للمجتمع السوري بجميع شرائحه، كما استفز الدولة التركية بمحاولاته لتنفيذ نواة مشروعه الانفصالي، مما دفع الأتراك إلى انتهاز فرصة الاتفاق النووي الأمريكي الإيراني لتحقيق مشروع المنطقة الآمنة بحيث يستطيع الأتراك منع شرعنة المشروع الانفصالي دوليًا كفرض أمر واقع، وإذا كان مشروع المنطقة الآمنة يتقاطع وبشكل كبير مع المصالح الوطنية السورية، إلا أن أي تدخل برّي تركي سيكون سببه هو سياسات "PYD".

يؤمن الكثير من السوريين بأهمية إدخال مفهوم الإدارة اللامركزية، وتصرح بعض النخب السياسية بعدم ممانعتها لما يسمى بالفيدرالية ما دام أنها تبقي على السلاح بجميع قطاعاته تحت إدارة مركزية حيث تبقى قوات الأمن والجيش بجميع أنواعها سورية موحدة وبعيدة عن الشرذمة عرقيًا أو مناطقيًا أو حتى دينيًا، وهذا مغاير للسياسات التي تعمل على ترسيخها منظمة "PYD" ومن هنا نرى تصادمًا واضحًا بين سياسات هذه المنظمة وبين مصالح الشعب السوري، وتستمد هذه المنظمة جزء كبير من قوتها من دعم الدول التي لها أجندات مسيئة لسورية والسوريين.

وفي الزمن الذي أصبحت الفيدرالية أو الإدارة المركزية هي الأسلوب الأنجع والأكثر توافقًا مع متطلبات الدولة الحديثة فإننا نرى تناقضًا واضحًا بين الدولة الحديثة وبين الدولة القومية ذات العرق النقي الذي تنادي به هذه المنظمة، والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمنظمة الأكبر "PKK" التركية والتي تعتمد أسلوبًا منافيًا لكل القيم الأخلاقية والإنسانية والأساليب الحديثة من تفجيرات وخطف وقتل واغتيال على الهوية، باتت كل الأعراف الدولية والثورية تنكر وتحتقر من يتبع هذه الطرق في تحقيق مطالب مزعومة خاصة في بلدان تتمتع بقدر كبير من الديموقراطية سمحت لحزب الشعوب (حزب تركي كردي) والذي يمثل شريحة لا تتجاوز الـ6% للوصول إلى البرلمان وبنسبة تقارب الضعف، وفي الوقت الذي تطالب فيه أقاليم ومناطق بالانفصال عن دولها الأم بطرق سلمية حضارية من أمثال ايرلندا البريطانية وكيبيك الكندية يقوم حزب العمال الكردستاني "PKK" التركي وصغيره السوري "PYD" باتباع أساليب تسيء للكرد وللوطن الذي يعيشون فيه كما تسيء لكل الشرائح الوطنية عدا عن الإساءة أساسًا للإنسانية وذلك لتحقيق انفصالات غير واقعية عن الأوطان الأم.

وفي استطراد... أقول بالرغم من اعتماد إنكلترا للإدارة اللامركزية وكندا للفيدرالية فقد وعت شعوب كلا البلدين إلى أهمية البقاء بصورة سياسية تحافظ على وحدة البلدين، لأن مصالح مناطق مشاريع الانفصال هي بالحفاظ على الوحدة وليس بالانفصال، ما أريده من هذا الاستطراد أن مشاريع "PKK" و"PYD" هي مشاريع ضد الكرد والمناطق ذات الغالبية الكردية قبل أن تكون ضد المصالح الوطنية لسوريا أو حتى تركيا، كما أن الدولة الحديثة تتنافى بمعناها ومبناها مع شكل الدولة الذي تفترضه كلا المنظمتين، ومن هنا تستدعي كلا المنظمتين وسائل مرفوضة لتنفيذ مشروع غير واقعي غير أن هذا المشروع ولا شك يصب في مشروع إضعاف سوريا وشرذمتها.

وملخص القول أقول: كل طرح هو مقبول إذا جاء عبر الأساليب الديموقراطية، لكنه مرفوض إذا جاء عبر السلاح وسياسة فرض الأمر الواقع، على ما يبدو أن منطق (داعش) هناك من يتبناه تحت رايات وأسماء مختلفة.

عن الكاتب

سعد وفائي

عضو المجلس التنفيذي للحزب الوطني للعدالة والدستور "وعد" سياسي سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مواضيع أخرى للكاتب

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس