خاص ترك برس

ترى العديد من القوى الاجتماعية والثقافية الشابة العاملة اليوم في تركيا، أن قوى الاسلام السياسي التقليدية السورية قد استنزفت نفسها معرفيا، إذ أن براعتها الايديولوجية قد تخطتها أحداث التاريخ وجعلتها متقادمة، وأن هذه النتيجة لم تعد  تعني نهاية الإسلاموية أو بداية ما بعد الإسلاموية كما يرى بعض الباحثين أمثال السوسيولوجي آصف بيات، بل هي نهاية لكامل الايديولوجيات التي تشكلت على مدى المائتي سنة الأخيرة في معظم المنطقة، والتي كانت ردا على الهيمنة الاستعمارية والنخب السياسية لدول ما بعد الاستعمار.

ولذلك أخذت تتشكل في الآونة الأخيرة لدى عدد من الباحثين والشخصيات السياسية أو العاملة في المجتمع المدني وبالتعاون مع شريحة واسعة من أبناء الطوائف الأخرى ممن يعتقدون بأنه لا يمكن القطيعة مع الحاضنة الحضارية الإسلامية بمعناها الثقافي، مساعي جديدة لإنتاج مقاربة مفادها: أن نهاية الإسلاموية السياسية كما عرفناها لا تعني أن الاسلام لن يؤدي دورا في السياسات المحلية، بل سيكون له دور في السياسات لأن المسلمين سيكونون جزءا لا يتجزأ من تلك السياسات، بيد أن هذه المشاركة تتطلب لغة جديدة تتجاوز ما توارثناه من قلق ومخاوف، وترتقي إلى مُخاطبة المجال العام الجديد، لغة لا تختزل إلى أي كليشيه مألوفة، بل هي لغة غير قابلة للحسم وتشير دائما إلى فضاء من الحريات المدنية التي لا يمكنها بدونها بناء واستعادة المجال العام السوري، وإعادة  بناء روابط طوعية لحماية الفرد الضعيف من الدولة العميقة، وخاصة في ظل أي فترة تعقب وقف القتال في سوريا.

ومن بين هذه المساعي اليوم يمكن أن نشير إلى المُقاربات التي تسعى إلى تقديمها  مؤسسة "المنتدى الدولي من أجل اسلام ديمقراطي" والتي تأسست منذ ما يقارب الأربعة أشهر من الآن. حيث يسعى القائمون على هذه المؤسسة إلى بناء رؤية تتجاوز الطرح التراثي التقليدي الذي يعكف عليه البعض في سبيل تأصيل الرؤية الديمقراطية داخل التراث الإسلامي، وخاصة أن هذه المجموعة تعتقد أن أي رؤية اسلامية ديمقراطية بديلة لا بد وأن تقوم على الحامل السوسيولوجي اليومي لبناء "مواطنة نشطة إسلامية". مستندة في هذا الطرح على رؤية جديدة للإسلام السياسي التركي لا تقتصر على الإحاطة بالتجارب الناجحة لبعض القادة الإسلاميين في تركيا، بل على فهم سوسيولوجي للسياسات والتحالفات التي قادها الاسلاميون الاتراك داخل الفضاء والشبكات الاجتماعية التركية بكافة أطيافها.

وللاطلاع على مشروع المنتدى بشكل أوسع، آثرنا أن نلتقي في مدينة غازي عنتاب التركية بالأستاذ نبيل قسيس الذي يشغل منصب المدير العام للمنتدى الدولي من أجل إسلام ديمقراطي.

- الأستاذ نبيل، كثر الحديث في الآونة الاخيرة حول مفاهيم الإسلام الديمقراطي أو الليبرالي، فما الذين تعنونه في مؤسستكم بمصطلح "الإسلام الديمقراطي"؟

ربما يجب علي أن أشير أولا إلى أننا نتحدث عن تصور جديد لإسلام سياسي في مضامين اجتماعية، يختلف تماما عن الإسلام السياسي النمطي الذي تم إنتاجه من عقود طويلة وما زال يتصدر المشهد ليومنا هذا، تلك النمطية التي اتسمت بالتعطش إلى السلطة كأداة تغيير في بنى المجتمع، حيث تسود قناعة أن الفضيلة هي ناتج سلطة. بينما نراها على النقيض، بأنها ناتج عن حرية الفرد والجماعات.

إن الحرية اللامشروطة من جهة والمنضبطة في الآن ذاته بكوابح قوى المجتمع المنظمة، ضمن آلية تناغم عرفتها عديد من التجارب التاريخية، هي الكفيلة بإحداث نقلة حضارية على المستوى الاجتماعي والثقافي والأخلاقي، والذي لا بد له في نهاية الأمر من أن ينتج سلطة متماهية مع منظومته القيمية.

- ما رأيك في القول إنه في هذه المرحلة الجديدة قد وصل الإسلام السياسي كما كل الأشكال الايديولوجية ما بعد الاستعمارية إلى نقطة استنفاذ أيديولوجي؟

إذا عدنا إلى نقطة انطلاق أوائل حركات الإسلام السياسي في القرن الماضي، فسنجد أنها أتت في مرحلة الاستعمار الاستيطاني، وظهور أشكال المقاومة المختلفة للاحتلال، وكبديل منافس للفكر اليساري أو نقيضه الليبرالي الحامل لقيم الغرب، وكان لا بد لها (أي قوى الإسلام السياسي) من أن تنهض على روافع أيدلوجية لتشكل منافسا مقبولا، في وقت كانت ثورة تشرين الأول/ أكتوبر في روسيا قد بدأت ارتداداتها تصل منطقتنا فارضة تحديا صارخا يقتحم دائرة اللا مفكر به.

لكن الفشل الذريع للأيدولوجيات الكونية الكبرى في إيجاد حلول عملية لقضايا الإنسان، ودخولنا عصر الناشطين الصغار عبر عولمة التواصل الاجتماعي بين الناس، وما توفره من حركة تغيير سريعة الوتيرة، ناقلة مركز ثقل الفعل من السياسي إلى الاجتماعي، كان لها ارتداداتها أيضا على حركات الإسلام السياسي، فلم يعد شعار (الإسلام هو الحل) بأوفر حظا من قرائنه من شعارات رفعت في المئة السنة الأخيرة.

- في مؤسستكم، كثيرا ما تتحدثون عن التجربة الإسلامية التركية كأحد الروافد الأساسية لبناء مشروعكم، هل يمكن أن تحدثنا عن هذه المقاربة بشكل أوسع؟ وهل تعتقدون أن في قراءتكم للتجربة ما يتجاوز القراءة الإسلاموية التي سادت خلال السنوات الماضية والتي غلب عليها الكثير من التسطيح والرومانسية؟

نلمس اليوم وبوضوح وجود مشروعين عملاقين في طريقهما للعولمة على مستوى المنطقة، الأول قرن أوسطي بامتياز رغم تلبسه بقشور الحداثة التكنولوجية، وهو المشروع الإيراني بكل تداعياته.

المشروع الثاني وهو المشروع التركي، وهو مشروع حضاري حداثي يتكئ على إرث ثقافي وحضاري إسلامي في سياقاته الرمزية، ويستعير أدواته بذكاء تارة من ذاك التراث، وتارة مستحضرا التجارب الإنسانية المعاصرة وأدواتها.

وعلى الرغم من أن إشكاليات بناء المشروع الحضاري الإسلامي الحداثي قد تم تناوله نظريا من قبل عديد من المفكرين الإسلاميين وغير إسلاميين. إلا أن التجربة التركية كانت قد أغنت مرادفات العمل في هذا المشروع ميدانيا، فتأسست مدرسة تنفيذية للمشروع تستمد نظرياتها من واقع العمل على الأرض أكثر منه من المخيال الفلسفي النظري المجرد الذي أثبت فشله لحظة محاولة تنفيذه.

- مما لا شك فيه أن مسألة الأصولية الدينية تشكل أحد العوائق الاساسية في طريق بناء رؤية إسلامية جديدة كما تأملون؟ يبقى السؤال: ما هي مقاربتكم في المؤسسة لهذا الملف بالتحديد، وأعني بذلك مواجهة الأصوليات في سوريا والمنطقة بشكل عام؟ وما هي رؤيتكم لمستقبل الجماعات الإسلاموية الوطنية المحاربة في سوريا؟

إن أقرّينا أن الإسلامية الجديدة هي رؤية حداثية للدولة وللمجتمع، فإن الأصوليات الدينية التقليدية تقع على الشاطئ الآخر، حيث لم يتح الظرف التاريخي المقترن بالانهيار الحضاري الذي حدث للأمة الإسلامية ونهوض بدائل حضارية أخرى، إضافة الى فترة الاستعمار وظهور دولة إسرائيل، إلى إحداث نقلة حضارية ترتكز الى ثقافة الأمة وميراثها، فكانت هناك إرهاصات أنتجت أدوات بناء حضاري ماضوية، لا توائم متطلبات العصر.

إن العمل على إيجاد نموذج بديل مصغر لما نسميه إسلام سياسي ديمقراطي، يتم إنضاجه في ساحة العمل السوري، كونها اليوم الساحة التي تختزل المشهد العالمي لصراع الرؤى والايدولوجيات، وتعبر هواجسها بشدة عن هواجس المجتمع الدولي، يمكن أن يبزغ منه اشراقات جديدة صالحة للعولمة، وتشكل نماذج لحلول وبدائل.

إن نموذجًا كهذا يمكن أن يجذب مريديه من عديد من الجماعات الإسلامية الوطنية السورية حيث بدأت تتشكل رغبات يعبر عنها خفية في تبني بدائل قادرة على مواجهة مارد التطرف المرعب والمتوحش.

- بعد الربيع العربي شهد الحقل الإسلامي انتصارات وانكسارات عديدة، لعل أكثرها مأساوية كان المشهد الإسلامي في مصر، ضمن هذا السياق، كيف ترون مستقبل الإسلام السياسي اليوم في سوريا والمنطقة؟ وهل من توصيات معينة بخصوص السياسات الواجب أتباعها داخل هذه التيارات في الفترة القادمة لتجاوز أخطاء الفترة السابقة؟

قبل الربيع المصري حققت الحركة الإسلامية في مصر نجاحات باهرة بفضل حضورها المتواصل في ساحات العمل الاجتماعي، ولكن ذلك الحضور لم تغفر لها لهفتها للقفز إلى السلطة حالما واتتها فرصتها التاريخية.

لقد كان درسا قاسيا ولكنه مفيدا جدا للجميع، على الحركات الإسلامية وتحديدا في سوريا حيث تزداد الخصوصية وحساسية المرحلة أن يقتنعوا بأن يكتفوا بالعمل في الحقل الاجتماعي عبر شقيه الإصلاحي والدعوي لأمد طويل، ولهم في تجربة الإسلاميين الأتراك دروس وعبر، فلقد أسس هؤلاء مدرسة ناجعة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!