جلال سلمي - خاص ترك برس

يؤكد مهندس السياسة التركية الحالية أحمد داود أوغلو، في فصل نوعية العلاقات بين تركيا والدول الأخرى في كتابه العمق الاستراتيجي، بأنه "يمكن خلط السياسة ببعضها من المثالية أي المبادئ والأخلاق وببعضها من الواقعية وهذا ما يُحدد حسب الموقف والدولة التي ستُبنى علاقتنا معها، ولكن في جميع الأحوال والمواقف يجب على الساسة الأتراك تقديم الواقعية على المثالية".

حسب علم السياسية؛ المثالية هي التعامل مع جميع الأمور بالاعتماد على المبادئ والأخلاق والأفكار والقوانين والنظريات الحميدة والحسنة والابتعاد عن الفلسفة المادية والواقعية، بمعنى تحوير الواقع حسب هذه الأخلاق التي يجب أن تكون ثابتة ومُطبقة من قبل جميع دول العالم لإرساء نظام سياسي دولي عادل ومثالي بعيد عن الحقد والكراهية والأنانية.

وعلى النقيض من النظرية المثالية وكمنافس لها يرى فلاسفة النظرية الواقعية بأن النظرية المثالية ركيكة بكل مناحيها وذلك لأن دول العالم تُحكم من قبل نفوس بشرية وهي أنانية وسيئة وتسعى دومًا إلى تحقيق مصالحها باستخدام كافة الوسائل والأساليب دون الأخذ بالاعتبار إن كانت هذه الوسائل مثالية أو جيدة فيمكن استخدام أقذر الأساليب من أجل تحقيق المصالح القومية بغض النظر عن النتائج العكسية المضادة لمصالح الدول الأخرى فلا يهم ذلك المهم هو المصالح القومية الخاصة بنا.

ويرى العلماء الواقعيون وعلى رأسهم هوبس لفيذيان ونيكولا ميكيافيلي وغيرهم بأنه يجب استخدام الحقوق والمبادئ حسب المصالح القومية ولا يجب تحوير المصالح القومية حسب الحقوق والمبادئ الدولية لأن جميع الدول تسعى لتحقيق مصالحها بشكل تنافسي دون الاكتراث لمصالح الدول الأخرى وفي هذه الغابة التنافسية لا بد من التحرك بالواقعية والابتعاد عن المثالية.

ويحاول أحمد داود أوغلو بنظرياته "الاتزان ما بين المثالية والواقعية"؛ فيدعو إلى التعامل بمثالية مُعتمدة على تصفير المشاكل مع دول الجوار ومُعتمدة على العلاقات التاريخية الوطيدة والأسس والمبادئ الإسلامية الحميدة في التعامل مع دول الجوار والدول الإسلامية وهذا ما تم ترجمته في التعامل مع قضية الربيع العربي ولكن يدعو إلى التعامل بواقعية وميكافيلية وبراغماتية مع الدول الغربية التي لا ترى صديق لها سوى المصالح القومية وهذا ماترجمته تركيا في تعاملها الدقيق مع قضية التحالف مع الولايات المُتحدة الأمريكية ضد داعش.

ويتطرق الكاتب السياسي خيرالدين كارامان إلى الموضوع في مقاله السياسي الذي نُشر في جريدة يني الشفق بتاريخ 14 تشرين الأول/ أكتوبر تحت عنوان "المثالية والواقعية"، ويرى كارامان بأن "ديننا الحنيف يدعونا إلى أن نكون واقعيين جدًا بقدر ما نحن مثاليين في التعامل مع الأمور ومُجريات الأحداث، ويرى ديننا الحنيف بأن الاتزان بين المثالية والواقعية يؤهل الإنسان والقيادة والإدارة السياسية إلى النجاح الباهر وهذا ما تم برهنته في العديد من الخطط الواقعية التي قام بها نبينا محمد صلى الله وعليه وسلم في غزاوته وحروبه فلم يقل الله ناصرنا بل قال اجعلوا بئر بدر خلفنا ليكون تحت سيطرتنا وينصرنا الله".

ويردف كارامان في مقاله أيضًا "بأن هناك العديد من الأمثلة الواقعية النيرة التي قام بها النبي صلى الله وعليه وسلم على مدى حياته الحافلة بالتجارب والعديد من الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يمكن أن يُقتدى بها، والأخذ بالأسباب والمكيدة للأعداء والمتربصين أمر أباحه الإسلام بل وشجعه وحفزه".

ويشير كارامان بأن "تركيا بحكومتها الحالية قررت الوقوف بكل عزم وإصرار ومثالية إلى جانب ثورات الحرية والعدالة الاقتصادية والاجتماعية التي انطلقت في عدد كبير من دول الشرق الأوسط ونجحت في بعضها، تونس مثلًا، ولم يحالفها الحظ في بعضها بسبب المكائد والدسائس التي بثتها ثعابين محلية ودولية ولكن على الرغم من هذه الدسائس ما زالت تركيا تقف كالجبل الأشم على مبادئها وأسسها الإنسانية المثالية داعمة لهذه الثورات العادلة كما ينص داود أوغلو في نظرياته ومُسلامته وهذا هو السر الذي يجعل تركيا إلى اليوم تدعم هذه الثورات على الرغم من حجم الضرر الضخم الذي أصابها في الفترة الأخيرة".

ولكن على الصعيد الأخر يفيد كارامان بأن "تركيا تتعامل وستبقى تتعامل مع الدول الغربية على أساس واقعي بحت لأنها تعرضت أكثر من مرة لغدرهم في حين أن مصالحهم تعارضت مع مصالحها، واليوم على الرغم من معارضة تركيا لتقسيم سوريا وإقامة دولة كردية في شمالها إلا أن الولايات المُتحدة الأمريكية لم تأبه إطلاقًا بمصالح تركيا الاستراتيجية وما زالت عازمة على دعم الأكراد في شمال سوريا، وهذا يُثبت مدى حاجة تركيا إلى سياسة واقعية براغماتية مع هذه الدول، ونرى من تركيا دولة قوية قادرة على تدبير مكائد لحماية مصالحها ومصالح المنطقة من الدول الإمبريالية وهذا ما سنشهده في المرحلة المُقبلة حيث لا يمكن لتركيا ترك الحبل على جراره أمام هؤلاء الطامعين".

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!