محمود عثمان - الخليج أونلاين

جاءت الانتخابات البرلمانية التركية والعالم يعيش حالة استقطاب سياسي عالي الوتيرة , فالحروب والثورات وآثارها وانعكاساتها تلقي بظلالها الثقيلة على منطقة الشرق الأوسط , ما جعل أنظار العالم شاخصة باتجاه هذه الانتخابات , ولعلها حازت اهتماما عالميا لايقل كثيراً عن الانتخابات الأمريكية , وربما تكون هذه المرة هي الأولى التي تتابع فيها دول الخليج الأحداث في تركيا على المستوى الداخلي , حيث كانت تكتفي بالتعامل مع الحزب الفائز أيا كان مشربه السياسي.

وإذ رحبت الجماهير الخليجية بفوز حزب العدالة والتنمية الكاسح , فإن بعض الدول الخليجية تلقته بحذر على المستوى الرسمي . وبعيدا عن التأييد والعواطف فإن الضرورات الأمنية والمصالح الاقتصادية , وحاجة الطرفين الماسة لبعضهما البعض جعل الجانب الايدلوجي أقل أهمية .

فقد بات يحكم العلاقات بين تركيا وكل من قطر والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص التنسيق والتعاون والسير بخطى متسارعة نحو الشراكة الاستراتيجية . حيث تجلى ذلك في تطابق الرؤى والسياسات بخصوص أشد الملفات تعقيدا في المنطقة , وهو ملف القضية السورية , التي تحولت إلى بوابة سياسية , ونقطة انطلاق تسعى القوى العالمية والاقليمية إلى إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط وتقاسم النفوذ من خلالها .

إضافة للتاريخ والجغرافيا وتقاطعات الثقافة والتراث هناك محاور رئيسية تشكل أساسا متينا للشراكة الاستراتيجية بين تركيا ودول الخليج العربي نذكر منها محوران فقط :

المحور الأول : النفط والطاقة :-

لا يزال النفط والغاز والطاقة يحتل المركز الأول في رسم الاستراتيجيات وتحديد السياسات الدولية , في هذه الأيام تحديدا حيث تسعى القوى الكبرى لإعادة تشكيل الكيانات السياسية والحدود الجغرافية بشكل يتناسب مع تصورها وخططها للقرن الجديد , فإن الصراع على مناطق النفوذ يزداد حدة , والتحكم والسيطرة على منابع الطاقة يحتل أهمية قصوى أكثر من أي وقت مضى .

وفي هذا المجال , فبالقدر الذي تتلاقى وتتقاطع فيه المصالح التركية الخليجية , تتعارض وتتضارب المصالح الروسية الخليجية , وهذا وإن بدا عامل إعاقة في الظاهر إلا أنه يشكل عامل دفع وتحفيز نحو الشراكة التركية الخليجية .

يشكل سوق دول أوروبا نقطة تنافس بين الدول المصدرة للنفط وعلى رأسها السعودية وروسيا، ففي سبعينيات القرن العشرين، كانت السعودية تبيع نصف نفطها إلى أوروبا، لكن الاتحاد السوفييتي آنذاك بنى خطوط أنابيب امتدت من حقول النفط في سيبيريا إلى أسواق التصدير في أوروبا؛ فانتقلت السعودية ومعها دول الخليج إلى الأسواق الآسيوية حيث كان الطلب يتنامى والأسعار أعلى.

واستمرت حصة دول الخليج من الأسواق الأوروبية تتراجع حتى بلغت 5.9%. وبلغت حصة روسيا ذروتها عند 34.8% في 2011.

ووفق ما نقلت وكالة "بلومبرغ"، فقد عززت السعودية ببطء حصتها في أوروبا، حيث بلغت 8.6 % عام 2013 .. فيما بدأت محطتا تكرير النفط بوالنديتان هما "بي.كيه.إن أورلين"، و"لوتوس"، اشترتهما السعودية بتكرير البترول الخام السعودي على حساب خام الأورال.

وبهذه الخطوة تُعتبَر تعتبر السعودية قد غزت روسيا في عقر دارها , لأن بولندا كسائر أوروبا الشرقية، كانت سوقاً تقليدية للنفط الروسي، حيث استوردت السنة الماضية ثلاثة أرباع وارداتها النفطية من روسيا، والربع الباقي من كازاخستان ودول أوروبية.

كما خفضت شركة أرامكو السعودية الحكومية للنفط سعرها الرسمي للخام الموجه إلى شمال غرب أوروبا. في خطوة فسرت على أنها سياسية بهدف الضغط على الروس في الملف السوري .

وفي ردة فعل من موسكو على تمدد قنوات النفط الخليجي إلى دول أوروبا، قال وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك، الشهر الماضي: إن "دخول السعودية إلى أسواق النفط في شرق أوروبا التي طالما كانت روسيا تهيمن عليها، يمثل أصعب منافسة".

وأكد أن إنتاج بلاده من النفط قد يهبط إلى 5 أو 6 ملايين طن في عام 2017 عن مستوياته الحالية بسبب زيادة الضرائب، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن السعودية تستخدم "استراتيجية التنافس" على سوق النفط،

تصريحات الوزير الروسي سبقتها تصريحات الرئيس التنفيذي لشركة "روسنفت"، أكبر شركة نفط في روسيا، خلال مؤتمر للمستثمرين في موسكو، إيغور سيتشين، قال فيها: إن "السعودية بدأت إمداد بولندا بالنفط الخام لتصبح ثاني منتج من الشرق الأوسط يدخل سوقاً تهيمن عليها روسيا تقليدياً".

سيتشين أشار إلى أن السعوديين "منخرطون بنشاط في عملية إغراق تمثل عنصراً من عناصر تغير الأسعار العالمية، لا شك في أن المعركة على الأسواق في هذه المرحلة تمثل واحداً من العوامل الأساسية، وعلينا بذل كل جهد ممكن للحيلولة دون انخفاض حصتنا من الإمدادات".

وفي إشارة أخرى إلى تغير التوازن في السوق العالمية، نقلت "رويترز" عن مصادر في قطاع الطاقة مؤخراً، أن "المجر زادت وارداتها النفطية من إقليم كردستان العراق بدلاً من الخام الروسي".

من جهة أخرى تسعى تركيا لأن تكون محطة تخزين وتوزيع للنفط والغاز بحكم موقعها الجغرافي الذي يؤهلها لذلك , حيث تتقاطع عند تركيا مناطق القوقاز وايران والشرق الأوسط والبلقان باتجاه أوربا , وقد شرع الأتراك في تأسيس البنية التحتية اللازمة لذلك , من خطوط أنابيب النفط والغاز إلى محطات التكرير إلى مستودعات التخزين .

ويفسر بعض المراقبين بأن السبب الرئيسي للتدخل العسكري الروسي في سورية هو قطع الطريق على خطة تمديد خطوط النفط والغاز الخليجي إلى كل من سورية وتركيا , وفي هذه النقطة أيضا تتضارب المصالح الروسية مع المصالح الإيرانية , حيث تسعى ايران إلى مد خطوط لنقل نفطها وغازها عبر العراق وسورية إلى البحر المتوسط فالسوق الأوربية , بينما يسعى الروس لإفشالها .

المحور الثاني : أمن الخليج الاستراتيجي :-

شهدت السياسة الأمريكية تحولا استراتيجيا عبر عنه الرئيس باراك أوباما في خطابه الأول لتوليه الرئاسة بأن أولويات السياسة الأمريكية ستتركز في المرحلة القادمة على الشرق الأقصى الباسفيك تحديداً , مما جعل بقية المناطق ومنها منطقة الشرق الأوسط أقل أهمية من الناحية الاستراتيجية بالنسبة للأمريكان , لكنهم لن يتخلو عنها , بل سيديرونها من خلال قوى اقليمية منها تركيا وايران واسرائيل طبعاً .

ايران التي استثمرت استراتيجيا على مدار ثلاثة عقود كانت أول المستفيدين , لذلك هرعت إلى تقديم الخدمات للأمريكان في احتلالهم لأفغانستان الذي يأتي في السياق نفسه لتحصل على حصة أكبر من الشراكة الاستراتيجية معهم .

مقابل ذلك فإن الأمريكان الذين حصلوا على ما أرادوا في الملف النووي الإيراني باتوا أكثر حماسة من أجل إدخال ايران في منظومة أمن الخليج , الأمر الذي تعتبره المملكة العربية السعودية ومعها بعض دول الخليج العربي خطاً أحمرا , لأنه في النتيجة سوف يفتت المنطقة ويدخلها في صراعات عرقية وإثنية قد تمتد لعقود طويلة .

تركيا التي رتبت بيتها الداخلي , فأعطت حزب العدالة والتنمية تفويضاً قوياً - بعد أن قامت بفرك أذنه في الانتخابات السابقة – لاستكمال خطواته في البناء والاصلاح ولعب دور إقليمي ودولي أكثر نشاطاً , تبدو أكثر استعدادا وأهلية لتكون الشريك الاستراتيجي الأقوى لدول الخليج . وفي هذا السياق فقد شهدت الأيام القليلة الماضية اتصالات سياسية مكثفة , أعقبتها خطوات يمكن وصفها بالاستراتيجية في مجالي الأمن والطاقة .

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس