عبد النور بوخمخم – خاص ترك برس

"روسيا ستخسر الكثير إذا خسرت صداقة تركيا" جملة كررها أكثر من مرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان معلقا على التدخل العسكري الروسي في سوريا، وزاد وزير الطاقة التركي فقال إن تركيا بإمكانها البحث عن أطراف أخرى غير الروس لشراء حاجتها من الغاز، على الفور دخل الإيرانيون على الخط وقالوا أنهم مستعدون لتلبية أي طلب تركي على غازهم، كأني بالأتراك نظروا للعرض ولسان حالهم يقول هل نهرب من السجن لنجد أنفسنا أمام بابه، فقبل ذلك بنحو عام رمت الحكومة التركية بكل ثقلها لإتمام إنجاز أنبوب الغاز الجديد الذي يربطها بأذربيجان، وطلبت من الجزائر رفع ما تصدره لها من الغاز المسال بقدر ما يمكنها ذلك، ومددت لعشر سنوات أخرى اتفاقية معها بهذا الشأن، في الوقت الذي يوجد البلدان ضمن خطة تحرك غير مسبوقة تعتزم أوروبا إطلاقها مطلع العام القادم لاعتماد استراتيجية جديدة للأمن الطاقوي الأوروبي، تأمل القارة العجوز أن تعتقها من البقاء تحت رحمة الغاز الروسي المخلوط بتقلبات السياسة والأمن ..

تركيا والغاز .. بين زمنين

صدر قانون تحرير أسعار الغاز الطبيعي في السوق التركية سنة 2001، قبيل مجيئ حزب العدالة والتنمية للسلطة، خطوة ليبرالية حملت طيها إقرارا بعجز الحكومات المتعاقبة عن إيجاد التوازن المطلوب، بين طلب متزايد من الأتراك للتدفئة  ولتغذية محطات الكهرباء التي تستهلك لوحدها نصف واردات البلاد من الغاز، من جهة، ومن جهة أخرى تقلب مصادر التموين الخارجية والتهاب الأسعار التي كانت في الغالب مرتبطة بسعر النفط نفسه، وإلى اليوم لا زالت فاتورة الغاز تشكل هاجسا للمواطن التركي في نفقاته الطاقوية، في بلد يستورد بالكامل حاجياته الضخمة من الغاز.

وزاد التحدي مع التزام الحكومة برفع ربط المنازل بغاز المدن إلى أقاصي الدولة، خلال موجات البرد التي تجتاح معظم البلاد لعدة أشهر من السنة، وضمان تدفق الكهرباء بدون انقطاع ليواكب النمو السريع للاقتصاد والعمران.

ما من شك اليوم أن تحسن الدخل الفردي للمواطن التركي والاستثمارات الكبيرة في مد وربط شبكات استهلاك الطاقة، ساهم إلى حد كبير في تحقيق جزء من التوازن المفقود، إلا أن التحولات الاستراتيجية التي تخيم على المنطقة كلها، بسبب الحروب الساخنة والباردة الجديدة، والتي توجد تركيا في قلبها، تعيد من جديد وضع البلد كله على محك إيجاد مصادر خارجية آمنة وكافية وبأسعار مقبولة  للتزود بالغاز، وتلك لا شك إحدى المعارك الوجودية الكبرى لتركيا الحديثة، ويكفي القول أن تركيا التي تستورد سنويا أكثر من 52 مليار متر مكعب من الغاز، تأتي من روسيا لوحدها بنحو 60 بالمائة، وإذا أضفنا الغاز الايراني، يرتفع ذلك إلى 80 بالمائة، حالة عالية جدا من الارتهان الطاقوي في الوقت الذي تمر علاقة تركيا بالبلدين بحالة فتور تميل للتوتر على خلفية الموقف من الأزمة السورية، و تزيد حساسية الموقف مع اقتراب نهاية اتفاقيات توريد غاز البلدين لتركيا بعد سبع سنوات، ما يتطلب مفاوضات جديدة وعسيرة على مستوى الحجم والمدة والسعر.

وعندما قطعت روسيا قبل سنوات امدادات الغاز لأوروبا خلال أزمتها مع أوكرانيا كانت تركيا من بين المتضررين، لكن بقدر ما تحتاج تركيا حاليا للغاز الروسي والإيراني، بقدر حاجتهما الحيوية لأراضيها لمد أنابيب صادراتهما الغازية للسوق الأوروبية مستقبلا.

الاتفاق الجزائري التركي

أفضت الاتصالات التركية الجزائرية العام الماضي إلى رفع وارداتها من الغاز الجزائري المسال لتصبح 6 مليار متر مكعب كل سنة، و اشترت منها على فترات شحنات خاصة خارج الاتفاق على طريقة الدفعة الواحدة، بلغت في سنة 2.5 مليار متر مكعب، لكن ذلك يبدو كقطعة صغيرة مما تحتاجه تركيا من الغاز، فمن المتوقع أن تقفز احتياجات تركيا صاروخيا إلى 81 مليار متر مكعب في أفق 2030.

يستمر الاتفاق التركي الجزائري إلى عشر سنوات أخرى، بسعر غير معلن وصفه الطرفان حينها بـ "رابح رابح"،  وقال وزير الطاقة التركي حينها إنه ناقش مع نظيره الجزائري توسيع التعاون الثنائي في ميادين الاستكشاف والبتروكيمياء والسماد والطاقات المتجددة، وقالت الحكومة التركية أكثر من مرة أن طلبياتها من الغاز الجزائري المسال مفتوحة وتتعلق فقط بقدرة الجزائريين أنفسهم الإنتاجية.

واضح أن الأتراك كما الأوروبيين تماما، يغيرون وجهتهم إلى الغاز المسال القادم في ناقلات من بعيد، حتى لو كان سعره أعلى من غاز الأنابيب الطبيعي الموصول بآبار الدول المصدرة مباشرة، في هدف واضح لتنويع مصادر الطاقة وعدم الارتهان لأحد، وبالأساس للروس، فالغاز، هذه المادة صعبة ومكلفة النقل، تتطلب وجود زبون مضمون ووسائل نقل وتخزين خاصة، لكن تبريده في درجات دنيا يحوله إلى مادة سائلة مضغوطة بحجم أقل 600 مرة من حجمها الغازي، ويسهل نقله في  ناقلات عملاقة عبر البحر، بعضها الآن يصل طوله الى 345 متر وعلوها إلى عشر طوابق، بإمكانها أن  تنقل مرة واحدة ربع مليار متر مكعب، ما يمثل عمليا حوالي نصف الصادرات الجزائرية إلى أوروبا شهريا عبر أنبوب الغاز الشرقي الموصول بإيطاليا، وفي مرحلة أولى تريد تركيا أن تخزن من الغاز المميع السائل 15 بالمائة من حاجاتها  السنوية.

لكن كلمة "بحسب قدرة الجزائريين انفسهم على تلبية الطلب" التي قالها وزير الطاقة التركي تشير أيضا إلى حالة الضعف الذي وصلت إليه منظومة انتاج الغاز الجزائري، الموروثة في معظمها من السبعينات.

مشاكل السوق الجزائرية

لكن لماذا يعجز الجزائريون عن اقتناص الفرصة؟ الواقع أن صادرات الغاز الجزائرية التي تشكل نحو نصف مداخيل البلاد من المحروقات، هوت من حيث الحجم والإيرادات المالية في نفس الوقت، بسبب ترهل و تراجع منظومة الإنتاج وتراجع سعر الغاز إلى مستويات دنيا في السوق الدولية، نظرا لربطه بسعر النفط الذي يترنح منذ عام.
المشكلة الأخرى التي تواجهها البلاد هي زيادة استهلاك الغاز محليا على حساب الموجه للتصدير، خاصة بالنسبة للحصة الموجهة لمحطات توليد الكهرباء، التي تشكل 90 بالمائة من الغاز المستهلك محليا، وزاد استهلاك الكهرباء ثلاث مرات خلال عشر سنوات، في حين بقي سعره نفسه لم يتغير في وقت شراء السلم الاجتماعي بفاتورة غالية للحفاظ على ما تسميه الحكومة "الاستقرار".

وأصبحت الجزائر لا تستعمل سوى 50 بالمائة من قدرات التصدير عبر أنابيب الغاز لأوروبا، بعد عشرين سنة فقط على دخولها الخدمة.

المبادرة الأوروبية تنتظر الجواب  

ردا على تهديدات روسيا التي تمون 30 بالمائة من حاجات أوروبا من الغاز، بقطع الغاز المار عبر أوكرانيا، بعد أن اختلفت معها في تقدير سعر الغاز الروسي المورد لها، جاء مشروع  وحدة الطاقة للاتحاد الأوروبي الذي جرى تقديمه في شباط/ فبراير 2015،  فمجيئ  يميني إسباني على رأس المفوضية الأوروبية للطاقة والمناخ أحيا الطموح الإسباني لزيادة حجم الصادرات الجزائرية من الغاز لأوروبا ضمن حلول أخرى تخفف من التبعية الأوروبية للغاز الروسي، عبر مد مزيد من الأنابيب الرابطة بين إسبانيا وفرنسا لنقل الغاز الجزائري لباقي أوروبا، فكرة مدعومة من أكبر الحكومات الأوروبية، فالأوروبيون أصبحوا يبحثون عن ممول مضمون وجدي بالتوافق على سعر مقبول من الطرفين، بعد أزمة الغاز الروسي.

في تموز/ يوليو 2013 جرى التوقيع على مذكرة تفاهم لخلق شراكة استراتيجية في ميدان الطاقة بين الاتحاد الأوروبي والجزائر، التي تبقى برغم تراجع حصتها، الممون الثالث لأوروبا بالغاز بعد روسيا والنرويج، وتنوي المفوضية الأوروبية تنظيم منتدى كبير لدراسة أزمة الاستثمار المزمنة الجزائرية فيما تعلق باستخراج الغاز.

وبادر الطرف الأوروبي مطلع سنة 2015 باقتراح التدخل لرفع الانتاج الجزائري مقابل ثلاثة شروط: مراجعة منظومة الإنتاج المترهلة، استبدال العقود طويلة الأجل المرتبطة بسعر النفط بأخرى قصيرة الأجل تخضع للتقويم اليومي في بورصة الغاز في شمال أوروبا، وأخيرا الغاء سقف 49 بالمائة الذي لا يسمح القانون الجزائري للشركات الأجنبية امتلاك حصة تزيد عن ذلك السقف في مشاريع الطاقة.
وشملت المقترحات الأوروبية خفض الاستهلاك المحلي الجزائري لصالح التصدير، من خلال تعويض جزء من الغاز الموجه لمحطات الكهرباء بطاقة متجددة، يعني نووية، لكنه خيار يحتاج الى وقت أكبر ومخيف بالنسبة لشروط السلامة.
المشكلة الأخرى التي تواجهها الجزائر في قبول المقترحات الأوروبية هي الرغبة في عدم توتير العلاقات مع روسيا، الحليف الكبير في صادرات السلاح، والذي لطالما توافق مع الجزائر في موضوع الإبقاء على بيع الغاز لأوروبا عبر عقود طويلة الأجل مربوطة بسعر النفط ، خاصة أن الخطوة الأوروبية جاءت في عز الخلاف مع الروس بشأن أوكرانيا وضمان تدفق واردات الغاز، وحتى الآن قابلت الجزائر بكثير من التردد المقترحات الأوروبية، في انتظار موعد آخر مرتقب مطلع العام القادم بين الأوروبيين والجزائريين، لكن هذه المرة وفي ظل انهيار أسعار الغاز في السوق الدولية ومعها موزانة الدولة كلها، يراهن الأوروبيون على الوقت والصدمة في تليين الموقف الجزائري.

الغاز المسال .. الحل الأوروبي والوجهة التركية

الحقيقة أن أكبر ورقة تعتزم أوروبا توظيفها لتفكيك حالة الارتهان للروس، هي الغاز المسال، المنقول من بعيد، من دول مصدرة جديدة تكتسح السوق مثل قطر وأستراليا، فالمفوض الأوروبي للطاقة  قالها صراحة "نقدر أن الغاز المسال له قدرات كبيرة الآن لسد الحاجة، سوق الغاز سيتغير كليا"، وهو يتحدث عن إعداد استراتيجية كاملة للغاز المسال وتخزين الغاز في حدود منتصف سنة 2016، جازما بأن سعر الغاز المسال سيصبح أكثر تنافسية مقارنة بغاز الأنابيب، وقبل سنة 2030 تريد أوروبا أن يصبح الثلثان من وارداتها خليط من الغاز المسال وغاز الأنابيب.

وكما فعلت أمريكا قبل 7 سنوات بعد أن كفاها الغاز الصخري الحاجة لناقلات الغاز الجزائرية،  فإن أوروبا نفسها اذا نجح مشروعها للغاز المسال، واستمر الجزائريون في رفض شروطها بشأن عدم تحديد الأسعار وإلغاء العقود طويلة الأجل، ستقول ذات يوم لهم، غازكم بخروه في الجو وأنابيبكم قطعوها وارموها للمهاجرين للتجديف في طريق العودة بعد أن تنقلب قواربهم، إلى حين ذلك هناك تركيا تمد يدها للحاجة الاقتصادية المشتركة والمنفعة المتبادلة، لنفس الغاز المسال الذي تراهن أوروبا كلها عليه، وبطلبيات ضخمة، لا نقول طبعا بديلا لغاز الأنابيب وللسوق الأوروبية، لكن على الأقل في مرحلة أولى ورقة تفاوض تقوي الجانب الجزائري ولا تقذفه للمعركة أعزل، وبلغة المصلحة الصرفة، قد يجد الأتراك بدائل عدة ليست قطر وأذربيجان آخرها، لكن قد تكون خيارات الجزائريين صعبة ومحدودة خارج أوروبا جنوب المتوسط.

عن الكاتب

عبد النور بوخمخم

كاتب وإعلامي جزائري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس