ترك برس

"النظر إلى تدوين العلم بخط اليد بشكل جميل على أنه أشرف من طبع الحروف، وانتشار الناسخين والخطاطين بأعداد ضخمة في أنحاء الدولة (العثمانية) وحيازتهم على مكانة خاصة في المجتمع، والنظر من بعض مشايخ وعلماء الدولة إلى أن أمر الطباعة قد يعمل على إدخال التحريف إلى كتب العلوم الشرعية والعمل على نشر الكتب الضارة، كل هذه العوامل اجتمعت لتشكِّل رفضًا مجتمعيًا قويًا لهذا الاختراع (المطبعة)، وتفضيل الكتاب المخطوط على الكتاب المطبوع وإن كان أسهل في الحصول عليه وأرخص ثمنًا".

جاء ذلك في مقال للباحث كريم عبد المجيد، المتخصص في التاريخ العثماني، نشر على موقع "إضاءات"، تحت عنوان "هل رفضت الإدارة العثمانية استخدام المطبعة؟" لفت فيه إلى استفهام يتبادر إلى الأذهان عن السبب في عدم تبني الدولة العثمانية المطبعة رسميًا إلا في أواخر العشرينيات من القرن الثامن عشر، عندما أتى رجل الدولة العثماني "إبراهيم متفرقة"، وبذل جهده في إقناع السلطة العثمانية بفائدة المطبعة وضرورة تأسيسها، فتأسست بناء على دعواته المطبعة بشكل رسمي عام 1727، فلِمَ غضّت الدولة الطرف لأزيد من قرنين ولم تشرع بشكل جاد في تبني هذا الاختراع الهام؟".

وقال عبد المجيد إنه "من الممكن التدليل على ما سبق عبر مجموعة من المشاهدات التي سجلها رحّالة ودبلوماسيون أجانب زاروا الدولة في القرن السابع عشر والثامن عشر، فالكونت الإيطالي "لويجو فرديناندو مارسيلي" في زيارة إلى "إسطنبول" في أواخر القرن السابع عشر قد ذكر أن المدينة بها 80 ألف شخص يعملون في مهنة النسخ، وهو رقم لا شك في مبالغته إذا قارناه بعدد سكان المدينة حينئذ الذي يُقدر بحوالي 500 أو 600 ألف نسمة، فلا يُتخيل أن يعمل ما يقرب من 16% من حجم السكان بالنسخ ورسم الخط وما يرتبط بهما فقط، إلا أن دلالاته تشير إلى وجود آلاف من الناسخين في المدينة، مما يعني حرمان هذه الآلاف وأسرهم من مصدر رزقهم في حالة انتشار المطبعة في المدينة".

وأوضح عبد المجيد قائلًا: "إذا اعتبرنا رفض آلاف من الناسخين والخطاطين لاعتماد المطبعة كوسيلة لنشر المعرفة أمر طبيعيًا؛ بسبب الضرر الواقع عليهم في حالة توجه المسلمين إليها وطبع كتبهم بواسطتها، إلا أنه لابد من النظر إلى كيفية تقبل الناس لفكرة الكتاب المطبوع بدلًا عن المخطوط، فشهادة المستشرق الفرنسي "أنطوان گالاند" الذي سافر إلى "إسطنبول" بين العامين 1672 و 1673 تعطينا فكرة عن الطريقة التي نظر بها المجتمع إلى الكتب المطبوعة، فيقول أنه كان يمر في الأسواق فيجد مثلا كتاب "القانون في الطب" لابن سينا بنسخة مطبوعة هو وكتب أخرى يعلوها التراب على الأرفُف ولا يشتريها أحد، ويجد نفس الكتاب بنسخة مخطوطة فيُباع بكل سهولة وتنفد نُسخه سريعًا على الرغم من كون المخطوط أغلى ثمنًا من المطبوع، فكان الناس ينظرون إلى الكتب المطبوعة على أنها مُنتج ضعيف القيمة".

وأشار إلى أن "هناك ظاهرة تلفت النظر بخصوص المقاومة المجتمعية لفكرة المطبعة، فبوصول القرنين السابع عشر والثامن عشر لاحت ظاهرة جديدة في أراضي الدولة تمثلت في إنتاج مخطوطات بجودة أقل وبسعر أقل من المعتاد في محاولة لمنافسة رخص الكتاب المطبوع، وكانت هذه المخطوطات تُكتب بشكل أسرع وتوزع بشكل تجاري أكبر في مدن رئيسية مثل "القاهرة" و"دمشق" و"إسطنبول" لرخص ثمنها، ويشهد القرن الثامن عشر على إنتاج أعداد ضخمة جدًا من هذه المخطوطات الرخيصة في ظاهرة تحمل دلالات هامة منها الرغبة في منافسة المطبوع رخيص الثمن".

السلطان أحمد الثالث الذي أصدر فرمانا بالسماح بتأسيس أول مطبعة رسمية للدولة العثمانية عام 1727

وأضاف، "إذن فالرفض أتى في الأساس من قاعدة المجتمع وليس من السلطة، وتَطلب نشر ثقافة الكتب المطبوعة تطورَ المجتمعِ المسلمِ ليقبل بفكرة الكتاب المطبوع قبل أن تقبله السلطة، إلا أن فترة حُكم السلطان "أحمد الثالث" [1703-1730] التي تتسم بالاهتمام بالعلم والمعرفة تماشت في مناخها العلمي على تبني أمر المطبعة بشكل رسمي، وتم إصدار فرمان يسمح لإبراهيم متفرقة بتأسيس أول مطبعة رسمية للدولة العثمانية".

تجدر الإشارة إلى أن فكرة الطباعة تضرب بجذور تعود إلى آلاف السنين مع الترجيح أن "الصينيين" كانوا أول من عرف الطباعة، باستخدام قوالب من الخشب ينقشون على سطوحها الكلمات والرسوم مقلوبة ثم يختمون بها.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!