د. أندرياس إوملاند - دورية السياسة التركية - ترجمة وتحرير ترك برس

ثمة حل مؤقت للأزمة الأمنية الحالية في أوكرانيا وجورجيا حتى يحين انضمامهما إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، يمكن أن يكون في إحياء الفكرة البولندية القديمة فيما بين الحربين العالميتين، والمتمثلة في تحالف من دول وسط وجنوب شرق أوروبا الواقعة بين الدول الإسكندنافية في الشمال والأناضول في الجنوب وبين ألمانيا غربا وروسيا شرقا. وحيث إن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو ليسا مستعدين للتوسع شرقا، فإن بإمكان هذه الدول أن تتحالف فيما يطلق عليه كتلة دول ما بين البحار أي اتحاد دول ما بين البحار.

هذه الخطة التي اقترحت في بواكير القرن العشرين يمكن أن تعني اليوم التفاهم الودي أو اتفاق مساعدات متبادل بين الدول الواقعة ما بين بحر البلطيق والبحر الأسود، أي بين الدول التي تنظر إلى موسكو على أنها تهديد لسيادتها السياسية، وسلامتها الإقليمية، ومصالحها الجوهرية. وسيكون الهدف من ضمان المساعدات المتبادلة بين تحالف دول مابين البحار:

* تحسين الأمن القومي للدول الأعضاء، والقبول الدولي، وتماسكها المؤسساتي، وتعزيز ثقتها السياسية.

* ردع روسيا عن الهجوم على أي دولة من الدول الأعضاء سواء عبر الغزو التقليدي أو الحرب الهجينة أو الحرب المعلوماتية أو الحرب التجارية أو غير ذلك من أعمال الحروب.

* زيادة حرية الدول الأعضاء، ورفع قوة تأثيرها ووزنها على الساحة الدولية.

وعلى خلاف فترة ما بين الحربين العالميتين، فإن تحالف دول ما بين البحرين لا يعني اليوم رابطة أعمق أو اتحادا فيديراليا أو تحالفا كاملا. وبدلا من ذلك يمكن أن يكون عبارة عن معاهدة دفاع محدودة ذات غرض واحد من مجموعة من الدول المستعدة لمساعدة بعضها بعضا لمواجهة حرب هجينة تشنها قوى أجنبية ضدها. هذه الاتفاقية المناوئة للامبريالية يمكن أن تضم بعض الدول الأوروبية التي تبدي استعدادها للمساهمة في التعاون العسكري وغير ذلك من أشكال التعاون في مواجهة موسكو. هناك كثير من الدول عبر حدود روسيا الجنوبية والغربية تأثرت بالفعل، وبدرجة أو بأخرى، بالحرب المعلوماتية أو التجارية أو حرب السايبر أو الحرب الباردة أو الساخنة التي يشنها الكرملين.

وبمقدور الموقعين على الاتفاق الأمني لدول مابين البحرين أن يبلغوا الكرملين بشكل لا لبس فيه استعدادهم لتفعيل التعاون التام فيما بينهم في صراعاتهم الثنائية مع روسيا. ومن الممكن أن تشمل مجالات التعاون بين الدول الأعضاء في اتحاد ما بين البحار:

التنسيق الجماعي فيما بينها بشأن العقوبات الاقتصادية أو أي عقوبات أخرى.

التعاون في تبادل الأسلحة الدفاعية الفتاكة .

السماح بحرية الحركة عبر الحدود لقوات المتطوعين.

التعاون في مجال أمن الطاقة والنقل.

تبادل المساعدة في التدريب على القتال وتحديث الأسلحة.

تبادل المعلومات الاستخباراتية الاستراتيجية المضادة وغيرها.

ربط الصناعات العسكرية، والمشروعات التكنولوجية المزدوجة.

المساعدة اللوجيستية لمقاومة نظم الحرب الهجينة.

ربط  مبادرات الدعاية الدولية المضادة.

تبادل المستشارين العسكريين وغيرهم من الخبراء.

دعم إنشاءالمنظمات غير الحكومية العالمية في اتحاد دول ما بين البحار .

كما يمكن أن تشمل مجالات التعاون تنفيذ المشروعات الموجهة في مجموعة متنوعة من المجالات الثانوية، ولكنها ذات صلة بهذا الهدف، وتتراوح بين التعاون بين مراكز الأبحاث والجامعات للسياحة الدولية والتبادل الثقافي.

وحيث إن علاقة أنقرة بموسكو تتأثر الآن بالتوترات التي تذكر بتلك الأحداث التي شهدتها كثير من عواصم شرق أوروبا، فإن بمقدور تحالف دول ما بين البحار أن يتجاوز الكتلة السوفيتية السابقة، بحيث يمكن أن يشمل إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا ورومانيا وبلغاريا ومولدوفا وأوكرانيا وتركيا وجورجيا وأذربيجان. وقد يشمل التحالف أيضا جمهورية التشيك وسلوفاكيا والمجر، بحيث يتطلب ذلك تغيير البنى السياسية، أو أن يشمل التحالف دولا أخرى من الدول الاسكندنافية إلى البلقان. وفي هذه الدول أيضا ينظر كثير من الساسة والمفكرين إلى روسيا بوصفها تهديدا، ولديهم ذكريات مناهضة للإمبريالية ضد التوسع الروسي، وربما يكون دافعهم في دعم كييف وكيشيناو وتيبليسي هو صراعهم مع الكرملين على السيادة على أراضيهم.

بدأ تحالف دول ما بين البحار يتشكل بصورة غير رسمية، وسواء تم الاعتراف به أو لا، فقد صار بالفعل مشكلة لروسيا. التعاون على أساس ثنائي  يجري، على سبيل المثال، بين أوكرانيا من جانب وتركيا وبولندا من جانب آخر. وهناك أيضا التعاون الوليد متعدد الأطراف بين عدد من دول التحالف، من ذلك مثلا اللواء المشترك بين بولندا وليتوانيا وأوكرانيا، كما أن جورجيا وأوكرانيا وأذربيجان ومولدوفيا أعضاء في منظمة جوام للتطوير الديمقراطي والاقتصادي إلى جانب تركيا ولاتفيا اللتين تتمتعان بصفة مراقب.  بعد الثورة البرتقالية في عام 2005 أسست تسع دول من شرق أوروبا جمعية الخيار الديمقراطي (إستونيا، وجورجيا، وليتوانيا، ولاتفيا، ومقدونيا، ومولدافيا، ورومانيا،وسلوفينيا، وأوكرانيا) وثمانية وفود بصفة مراقب (أذربيجان، وبلغاريا، وجمهورية التشيك، والمجر، وبولندا، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي) لتعزيز الديمقراطية وسيادة القانون. وأبرمت تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي وشريكتها في شرق أوربا أذربيجان اتفاقا للشراكة الاستراتيجية والدعم المتبادل ينص في بعض بنوده على التعاون العسكري والتعاون في مجال الصناعات العسكرية . ومنذ عام 2012 تعقد تركيا ورومانيا وبولندا اجتماعات ثلاثية سنويا تناقش فيها القضايا الاستراتيجية والأمنية.

لم يؤد هجوم موسكو على أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم إلى تقوية مشاعر الترابط في شرق أوروبا فحسب، بل أدخل تركيا في لعبة شرق أوروبا، نظرا لارتباط التتار في شبه جزيرة القرم ارتباطا قويا بالأتراك، ومقاومتهم الشديدة للانضمام إلى روسيا. وعلى مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية صار تتار شبه جزيرة القرم من المؤيدين المتحمسين لأوكرانيا بوصفها دولة ذات سيادة ووطنهم المفضل. وفي الوقت نفسه، ووفقا لتقديرات مختلفة يتراوح عدد تتار القرم الذين يعيشون في تركيا بين 150.000 وستة ملايين. أضف إلى ذلك ما كتبه المؤرخ الألماني الآذري زاور جاسيموف من أن "عددا لا يستهان به من المؤرخين الأتراك البارزين يرجعون إلى أصول تتارية من شبه جزيرة القرم... وبوصفهم مؤلفي أكثر الكتب مبيعا ومن المثقفين البارزين، فإنهم كثيرا ما يعلقون على قضايا السياسة التركية، والتفسير التاريخي، والدين."

هذه العوامل وغيرها، حتى قبل التصعيد الأخير، أدت إلى تصدع العلاقات التركية الروسية. وكانت المصالح الاقتصادية التركية في روسيا هي ما خففت لبعض الوقت الآثار السلبية لمغامرة موسكو الخارجية. ومنذ خريف العام الماضي اتسعت الهوة وخصوصا بعد إسقاط تركيا لمقاتلة روسية في الرابع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2015 . ونتيجة لتدخل الكرملين في سوريا، وفرض عقوبات اقتصادية على تركيا، فإن العلاقات بين موسكو وأنقرة تضررت بشدة. وساهم تراجع الاقتصاد الروسي، وتصعيد النزاع في ناجورنو قره باغ أيضا في تغيير نظرة تركيا لروسيا كشريك موثوق فيه.

وعلى ذلك فليس من المستغرب أن زادت أنقرة تعاطفها مع كييف في الآونة الأخيرة، فحجم الاهتمام التركي الجديد بأوكرانيا يستحق الملاحظة . ولم تكتف القيادة التركية، منذ كانون الأول/ ديسمبر عام 2015 باتخاذ بعض الإجراءات لدعم كييف، مثل نقل مستشفيات عسكرية إلى أوكرانيا، فخلال زيارة الرئيس بيترو بورشينكو لأنقرة في مطلع شهر آذار/ مارس 2016 وقعت أوكرانيا وتركيا إعلانا مشتركا من 21 بندا يتضمن التعاون في القضايا الاقتصادية والثقافية والقنصلية، كما يتضمن التعاون في مجال الشؤون الأمنية من انتاج الأسلحة إلى التدريبات العسكرية . وتأمل تركيا وأوكرانيا أن تنتهي في عام 2016 المفاوضات الجارية بينهما من أجل إقامة منطقة للتجارة الحرة.

على أن اتفاق الدفاع الجديد بين الدول غير النووية الوقاعة بين الدول المؤسسة لحلف شمال الأطلسي وروسيا استنادا إلى مجتمع الخيار الديمقراطي، على غرار اتفاق الدعم المتبادل بين تركيا وأذربيجان لن تغير الجغرافيا السياسية الأوروبية. ومع ذلك فإنها يمكن أن تسهم في ردع مغامرة الكرملين، ومن ثم جعل هذه الدول أكثر أمنا. كما أنها ستساعد في خفض حدة التوتر في العلاقات بين الغرب وموسكو من خلال توجيه اهتمام موسكو من جديد بعيدا عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ظهرت البنى الأمنية الأوروبية الحالية غير كافية، في حين أنه لا تطرح أطر فعالة فيما عدا اتحاد دول ما بين البحار. لقد فات وقت إعادة تشكيل العلاقات بين دول شرق أوروبا. إن تشكيل تحالف دول ما بين البحار سيبرهن ليس للكرملين فحسب، ولكن للشعب الروسي أيضا أن تنامي مغامرة موسكو في الخارج تضر بالمصالح الوطنية الروسية.

عن الكاتب

د. أندرياس إوملاند

الباحث في معهد يورو أتلاتنتيك في كييف


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس