محمود عثمان - خاص ترك برس

ثمة تجاذبات ساخنة داخل حزب العدالة والتنمية كانت تتفاعل منذ فترة ليست بالقصيرة , بين طرفين داخل الحزب , طرف يمسك بزمام الأمور , يتلقى التعليمات والأوامر من الرئيس رجب طيب أردوغان بشكل مباشر, وطرف آخر أقل حجما وأضعف تأثيراً يلتف حول رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو , يعتبره زعيماً ناجحا ً لا بد أن يمارس صلاحياته كقائد للحزب ورئيس للوزراء كاملة غير منقوصة.

وقد شكلت الاستحقاقات الانتخابية التي تمت العام الماضي , وخصوصا عملية اختيار مرشحي الحزب للانتخابات البرلمانية التي أجريت في السابع من حزيران العام المنصرم , ثم جرى إعادتها في 1 نوفمبر من العام نفسه , ساحة احتكاك وعامل تجاذب بين الرئيس رجب طيب أردوغان مؤسس الذي أصبح رئيسا للجمهورية, حيث لا يحق له بحسب الدستور الحالي , واليمين الدستورية التي أداها , التدخل في الحياة السياسية بشكل فعال بسبب حياديته التي ينص عليها الدستور , بله التدخل في الشؤون الداخلية لحزب سياسي , وبين أحمد داوود أوغلو رئيس الحزب ورئيس الوزراء الذي فاز برئاسة الحزب في استحقاقين انتخابيين , وقاد الحزب للفوز بأغلبية ساحقة فاجأت الجميع , وبالتالي يرى لنفسه الحق في ممارسة صلاحياته في قيادة الحزب وإدارة الدولة بشكل كامل ومستقل.

من الطبيعي أن تنعكس بعض تلك التجاذبات على قواعد الحزب , لكن في كل مرة يتم احتواؤها على مستوى القيادة دون أن تطفو إلى السطح أو تظهر للعلن , وذلك بسبب النضج السياسي لقيادة الحزب وكوادره أولا , ثم أدبيات الحزب ذي الخلفية الإسلامية المحافظة التي نجحت في الارتقاء بالعمل السياسي إلى درجة احتواء المشاكل داخل المؤسسة , والحيلولة دون خروج الخلافات البينية إلى العلن , لتمنع بذلك عبث العابثين , وتدخل الأطراف الخارجية التي تتربص بالحزب الدوائر , وتسعى لتأجيج الخلاف وصب الزيت على النار.

بهذه الطريقة تم تجاوز الأزمة مع الرئيس السابق الذي كان يعد ثاني شخصية في الحزب عبد الله جول , والأزمة مع رئيس البرلمان الأسبق ونائب رئيس الوزراء والناطق الرسمي باسم الحكومة بولنت أرينج , والأزمة مع علي باباجان نائب رئيس الوزراء السابق مهندس الاقتصاد التركي خلال تسلم حزب العدالة والتنمية مقاليد السلطة , وبالطريقة ذاتها تم إحالة شخصيات كبيرة مؤثرة , واستبدالها بكوادر شابة ودماء جديدة .. جميع هذه التغييرات تم تجاوزها دون ضجيج يذكر.

مصادر مقربة من رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو أعلنت اليوم عن قراره بالاستقالة , جاء ذلك بعد الاجتماع الأسبوعي الذي عقد هذا المساء بين رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو ,واستمر ساعة وأربعين دقيقة , والذي تم تقديمه يوماً هذا الأسبوع إذ جرت العادة أن يتم اللقاء أيام الخميس , مما فتح المجال لتساؤلات كثيرة !.

من المؤكد أن سبب تقديم اللقاء يعود إلى رغبة كل منهما في تطويق الأمر كيلا يتحول إلى أزمة سياسية تؤذي مسيرة الحزب , وتضر باقتصاد تركيا الذي يمر بمرحلة حرجة حساسة , ورغم ذلك فقد أدت أحداث هذا اليوم إلى هبوط حاد في سعر صرف الليرة التركية حيث بلغ نسبة تقارب 6% ستة بالمائة .

ما هي أبرز نقاط الخلاف الرئيسية بين أردوغان و داوود أوغلو ؟ وما هي أسباب الاستقالة ؟

يمكن إجمال نقاط الخلاف في أربعة عناوين رئيسية هي  :

أولا : التحول من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي :

من لدن تحولها إلى التعددية الحزبية عانت الحياة السياسية في تركيا من أمراض مزمنة سببها تدخل أطراف و قوى خارجة عنها , وقد مثلت الانقلابات العسكرية - التي أضحت شبه دورية تتكرر كل عقد من الزمان - نتيجة حتمية لتلك الحالة المرضية التي حالت دون نمو الديمقراطية ونضوجها .

وقد اعتبر الرئيس الراحل تورغوت أوزال – وكثيرون غيره - أن النظام البرلماني يفتح الباب على مصراعيه أمام تدخل القوى الداخلية والخارجية في الحياة السياسية , لذلك نادى بضرورة التحول للنظام الرئاسي أو نصف الرئاسي , وعمل من أجل ذلك , لكن ظروفه لم تمكنه من تحقيقه .

بعد أن حقق الطيب أردوغان نجاحاته المتتالية , وضع نصب عينيه مشروع التحول إلى النظام الرئاسي الذي يؤسس للاستقرار , ويغلق الباب في وجه تدخل القوى من خارج المؤسسة السياسية , ويقطع الطريق على مهندسي السياسة من بقايا الدولة العميقة .

وعند بحثه عمن يخلفه في قيادة الحزب , كان شرط أردوغان الأول هو التحول إلى النظام الرئاسي , والشرط الآخر هو مكافحة الكيان الموازي . هذا الشرطان اللذان رفض عبد الله جول قبولهما , وافق أحمد داوود أوغلو عليهما , ومن ثم قام أردوغان باختياره خلفاً له .

لكن داوود أوغلو فيما بعد لم يبد حماساً كبيراً لمشروع التحول إلى النظام الرئاسي , ولم يقم بما يجب من أجل تسويقه , وإقناع المواطن بمزاياه , كما أنه لم يجعله في سلم الأولويات , بل تركه بانتظار ظروف سياسية أكثر ملائمة .

ثانيا : الصراع مع جماعة فتح الله كولن /الكيان الموازي :

شكل تشبث أردوغان وإصراره على تحويل نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي محور الصدام مع جماعة فتح الله كولن , التي نجحت في النفوذ داخل مؤسسات الحكم , وسعت إلى الاستحواذ على الدولة التركية ليس من خلال العمل السياسي بأساليبه المعروفة , بل عن طريق الهندسة السياسية الخفية , التي تمسك بيدها خيوط اللعبة دون أن تمارس السياسة !.

ولأن النظام البرلماني أشد ملاءمة لنشاطها قياساً بالنظام الرئاسي الذي يحد من قابليتها على الحركة , ويشكل خطرا على مستقبلها , فقد انقلبت جماعة كولن على الشراكة الاستراتيجية مع حزب العدالة والتنمية التي استمرت قرابة تسع سنوات, فشكلت تحالفاً مع قوى المعارضة من بقايا الدولة العميقة , لتصبح رأس الحربة في الحرب على أردوغان , حيث قامت بتاريخ 17 و 25 ديسمبر عام 2013 بمحاولة انقلابية ضده بواسطة أذرعها الممتدة في سلك القضاء والشرطة .

لكن أردوغان بعد أن امتص الصدمة الأولى , شرع في حرب تصفية وتكسير عظام ضد هذه الجماعة , بعد أن أدرجها في وثيقة الأمن الوطني كمنظمة إرهابية .

وأثناء بحثه عمن يخلفه في قيادة الحزب , كانت مكافحة جماعة كولن التي أطلق عليها اسم الكيان الموازي في مقدمة الشروط التي اشترطها أردوغان على خليفته  , والذي وافق عليه أحمد داوود أوغلو , بينما رفضه الآخرون كما أسلفنا سابقاً.

لكن المقربين من أردوغان بدؤوا يشتكون من تراخي داوود أوغلو , وتقاعسه وفتوره في مكافحة الكيان الموازي , الأمر الذي أغضب أردوغان .

ثالثا : قيادة الحزب :

يسعى أردوغان للإمساك بزمام الأمور داخل الحزب الذي أسسه بنفسه , واضعاً في الحسبان عاقبة حزب الوطن الأم , حيث سرعان ما أفلتت خيوطه من يد مؤسسه المرحوم تورغوت أوزال بعد انتخابه رئيساً للجمهورية , ثم ضعف الحزب واضمحل مع مرور الزمان .

لذلك عمد أردوغان للامساك بخيوط الحزب بيده رغم جميع الانتقادات , لذلك شاهدنا نوعا من صراع اللوائح بين أردوغان وداوود أوغلو , حيث كان 70% من مرشحي نواب البرلمان لانتخابات السابع من حزيران 2016 من اختيار أردوغان بينما حصل العكس تقريباً في الانتخابات التي تلتها , مما شكل حالة تنافس واستقطاب بين مؤيدي كل من الزعيمين .

لكن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت عملية سحب صلاحية تعيين رؤساء فروع الحزب في المحافظات من يد رئيس الحزب , من خلال التعديل الذي أقرته الهيئة المركزية لقيادة الحزب في اجتماعها الأخير , الأمر الذي اعتبره داوود أوغلو انقلاباً ضده , فكان من الطبيعي والمتوقع أن يقدم استقالته  .

رابعا :الثنائية في إدارة الدولة :

يعطي الدستور الحالي رئاسة السلطة التنفيذية لرئيس الوزراء , لكنه يمنح رئيس الجمهورية صلاحية مراقبة أعمال الحكومة , والتصديق على قوانين السلطة التشريعية الممثلة بالبرلمان . أي أن صلاحية الرئيس رقابية من جهة , لكنها واسعة جدا من جهة أخرى , حيث بإمكان الرئيس تعطيل ما يروق له من قوانين وقرارات , كما حدث مع الرئيس نجدت سيزر الذي أعاد للبرلمان أكثر من ثلاثة ألفي قانون خلال فترة رئاسته .

على الدوام شكلت صلاحيات رئيس الجمهورية محل نقاش , وعامل تجاذب بينه وبين الحكومة .. رأينا ذلك في العلاقة بين الرئيس سليمان ديميريل ورئيسة الوزراء تانسو جيلار , ونجدت سيزر والطيب أردوغان , وربما كان الرئيس عبد الله جول حالة فريدة في أدائه المتميز , الذي كان متوافقاً وموائماً وداعماً ومكملاً لدور الحكومة , وخصوصا في ميدان السياسة الخارجية .

الرئيس رجب طيب أردوغان له خصوصيته , من حيث كونه أول رئيس جمهورية منتخب من قبل الشعب مباشرة , وعلى هذا يستند في جميع تصرفاته وإجراءاته , ويتصرف وكأنه في نظام رئاسي .

هذه الحالة شكلت ازدواجية وثنائية في إدارة الدولة , فهناك الرئاسة التي استقطبت كوادر رئيسية , وبدأت تقوم بممارسة أعمال وصلاحيات السلطة التنفيذية , وهناك الحكومة ورئاسة الوزراء المنوط بها إدارة شؤون البلاد وفق دستور البلاد البرلماني الحالي .

الحق يقال فقد أبدى رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو قدراً كبيراً من الحكمة والصبر , واستطاع تسيير أمور الحكومة والدولة دون أي مشاكل تذكر , مفسحاً المجال لرئيس الجمهورية أن يأخذ مجاله ومداه في القيادة والإدارة , لكن رغم ذلك فإن الثنائية في إدارة الدولة لا بد وأن تفرز آثاراً سلبية .

ما هي طبيعة المرحلة المقبلة ؟

بعد قرار قيادة حزب العدالة والتنمية عقد مؤتمر استثنائي خلال الأسابيع المقبلة، من المتوقع أن يتم انعقاده في 21 مايو/ أيار الجاري، أو الأسبوع الذي يليه , على ألا يتأخر عن 6 يونيو/ حزيران المقبل الذي قد يصادف أول أيام شهر رمضان المبارك  .

سيتم خلال المؤتمر الاستثنائي العام انتخاب رئيس جديد لحزب العدالة والتنمية , بعد أن بات من شبه المؤكد ألا يقوم داوود أوغلو بالترشح للمرحلة المقبلة , فيما ذكرت مصادر في رئاسة الوزراء أن رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو يعتزم تقديم استقالته اليوم الخميس في مؤتمر صحفي سيعقده بهذا الخصوص .

بعد أن يتم انتخاب رئيس جديد للحزب سيقوم رئيس الجمهورية بتكليفه بتشكيل حكومة جديدة , تعرض على البرلمان لنيل الثقة , ثم تبدأ في ممارسة أعمالها بعد ذلك.

من هم أقوى المرشحين ؟

أعتقد أن الرئيس أردوغان لديه ثلاثة شروط أساسية يجب توفرها في الرئيس الجديد للحزب والحكومة :

الأول : أن يقبل العمل تحت جناح رئيس الجمهورية , على طريقة يلدرم أكبولوت أيام المرحوم أوزال .

الثاني : أن يركز جهده على إقرار الدستور الجديد , الذي يؤمن الانتقال إلى النظام الجمهوري قبل حلول عام 2019 حيث استحقاق الانتخابات البرلمانية المقبلة .

الثالث : ألا يتهاون في تصفية الكيان الموازي , لأنها حرب وجود مصيرية .

تشير كواليس حزب العدالة والتنمية إلى ارتفاع حظوظ كل من "نعمان كورتلمش" نائب رئيس الوزراء الناطق باسم الحكومة , و "بن علي يلدرم" وزير الاتصالات , وهناك من يتلفظ اسم وزير العدال "بكير بوظ داغ " .

لكن بالنظر للشروط أعلاه فإن المرشح الأقوى هو "بن علي يلدرم" أحد أهم المرقبين للرئيس أردوغان منذ رئاسته لبلدية استانبول .

ماذا بعد ؟

ما من شك بأن هناك قوى كثيرة داخل تركيا وخارجها تعول على حدوث انقسام وانشقاق في صفوف حزب العدالة والتنمية , وغير قليل من هؤلاء سيسعى لذلك بكل ما أوتى من قوة وجهد وإمكانات . لكن الكتلة الشعبية الصلبة التي تصطف خلف أردوغان مهما كانت الأحوال والظروف , ثم تماسك النواة الصلبة للحزب , إضافة إلى المزايا الشخصية للقيادات التي اختلفت مع أردوغان , تجعل احتمالية سيناريوهات الانشقاق والانقسام شبه معدومة , كما تجعل انتخاب رئيس جديد للحزب وتشكيل حكومة جديدة عملية سلسة سهلة شبه روتينية .

تركيا ماضية قدماً نحو اعتماد دستور جديد , ونظام حكم رئاسي جديد , بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان .

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس