مصطفى القاسم - خاص ترك برس

قد تجده مقالا غريبًا، وقد يمنعك توازنك وعقلانيتك من استكمال قراءته، لكن إن تمكنت من الوصول إلى السطر الأخير فيه سيكون عليك أن تقرأ الواقع الذي نعيش من جديد!

تحدثنا وسائل الإعلام والأفلام كثيرا عن الاحتياطات الشديدة جدا في مجال الأسلحة النووية، سواء لناحية التقنية العالية المستخدمة في صناعتها، أو لناحية الحراسات المطبّقة عليها، أو الاتفاقيات الدولية الهادفة إلى خفض عددها وانتشارها... وكذلك ذاك المفتاح الأحمر الموجود في الحقيبة النووية المتصلة بشكل أو بآخر بالخط الهاتفي الأحمر الواصل ما بين الكرملين والبيت الأبيض.

لا نعرف الكثير عمليا عن الاحتياطات، ولا نعرف هل هذه الاحتياطات هي الحقيقة أم أن المسألة تختلف في كثير أو قليل، ولكن هذه الموضوع على خطورته يذكّرني بحكاية سور الصين العظيم، وما يروى في هذا المجال أن بناء السور رغم ضخامته وتكاليفه لم يمنع الاختراقات والهجمات عن الصين، وعلّة ذلك أن الجهد المبذول في بناء السور لم يترافق مع جهد مماثل لبناء حرّاس مخلصين للسور.

واليوم وبينما نغرق في تفاصيل التحليلات الاستراتيجية ومقالات الرأي، تثير استغرابنا نقاط غامضة كثيرة: لماذا تنكمش الولايات المتحدة على نفسها في عالم يتصارع لأجل التمدد؟ لماذا تسلّم المركز الجغرافي للعالم (الشرق الأوسط) لأطراف آخرين كروسيا وإيران وحتى الصين، وتخسر حلفاء موثوقين كتركيا والسعودية لأجل حلفاء محتملين أقل أهمّية كإيران والميليشيات الكردية الموصوفة بالإرهابية؟ ولماذا تغامر في منطقة تحوي ربيبتها إسرائيل؟ ولماذا سحبت صواريخ الباتريوت من الجنوب التركي في الوقت الذي تسعى فيه جاهدت لإضافة بضع صواريخ أخرى في الشرق الأوروبي؟ وبالذات: لماذا تظهر متراجعة متقهقرة منسحبة وفاقدة لتأثيراتها ولا قيمة لتصريحاتها؟

ويختصر بعض المحللين هذا بأن الولايات المتحدة لا تملك حاليا خطة تعمل، وأنه لا سياسة واضحة للإدارة الأمريكية في المنطقة، وأنها تمهّد الأرض لروسيا ولإيران لملء الفراغ الذي سينجم عن انسحابها من المنطقة... والغريب أن هذه التحليلات لا تجيب عن السبب الذي يدعو الولايات المتحدة للانسحاب متخلّية عن نفوذها وهيمنتها وحماية مصالحها الاقتصادية والسياسية، إذ أنه لا شيء ظاهر يجبرها على ذلك... هذا أمر لا يتفق مع السياقات التاريخية ولا مع طبيعة الصراع العالمي ومواقع قوى النفوذ، ولا يعقل أن الولايات المتحدة تريد العودة إلى مخدعها لتنال قسطا من الراحة وتنام قليلا، لأنها عندما تصحو لن تجد مواقع نفوذها شاغرة تنتظرها.

ويتجه البعض إلى الظن بأن الولايات المتحدة تأثرت بسياسات رئيس ضعيف اعتمد استراتيجيات غير موفّقة أدّت إلى خذلان الولايات المتحدة لأصدقائها ونقمتهم عليها! أجل لقد خذلت الولايات المتحدة أصدقاءها ونقموا عليها، ولكن استراتيجية الولايات المتحدة لا ينفرد الرئيس بوضعها، حتى أن الرئيس لا يضع هذه الاستراتيجيات، هو يكاد يكون مجرد مدير تنفيذي لاستراتيجيات موضوعة قبل توليه الرئاسة وحتى قبل أحيانا أن تراوده الأحلام بأن يكون رئيسا، طبعا هو يشارك بشكل جدي في التنفيذ، ولكنه ليس من يضع الاستراتيجيات، هو يملك التقدّم ببرامج عمله وسياساته التي سينتهجها خلال تولّيه الرئاسة لأربع سنوات قادمة، ولكن الاستراتيجية أمر آخر، إنها برامج عمل توضع لخمس سنوات أو عشر سنوات أو بضعة عقود، وهي تكون موجودة عندما يأتي الرئيس وتبقى مستمرة بعد رحيله، وبالتالي يقتصر دوره على تنفيذ استراتيجيات وضعت قبله، أو صناعة استراتيجيات ستنفذ بعده، لذلك لا مشكلة مع لون بشرته ولا مع لهجة خطابه ولا مشكلة في ذكوريته أو أنوثته، ولا مشكلة بأن يكون الرئيس من أتباع حزب الحمار أو أتباع حزب الفيل، المهم أن يكون لديه عقل ثعلب... أجل هو سيكون خادما في محراب استراتيجيات مقرّة سلفا، وهذا يحتاج إلى عقل ثعلب لتلبّس تلك الاستراتيجيات بذكاء والعمل عليها.

المهم لمرشح رئاسة الولايات المتحدة ألا يتمتع بصفات الدبّ فهذه الصفات محتكرة من قبل الروس، وهذا يخدم كثيرا مصالح الولايات المتحدة في الوقت الحاضر، وبالتالي فإن شخصا يترشح لرئاسة الولايات المتحدة وهو يعلن خططا للضغط على الصين وتقليص النفوذ الروسي وإجبار دول أخرى على دفع ثمن أكبر للخدمات الأمريكية وزيادة الضرائب على الأثرياء، هذا الشخص يعمل وفقا لعقلية الدب ولن يكون خادما جيدا للاستراتيجيات الأمريكية، إلا إذا كان مستعدا لتغيير أسلوبه هذا بمقدار مائة وثمانين درجة عند تولّيه الرئاسة، عندها يمكن التفكير في القبول به رئيسا ومديرا تنفيذيا.

ولكن عن أي استراتيجيات يجري الحديث؟ لا شيء في السياسة الأمريكية يشير إلى وجود الاستراتيجيات المذكورة، ولا شيء يشير إلى وجود حتى خطة أو سياسة واضحة المعالم، وها هو وزير الخارجية الأمريكية يسبق رحلته إلى موسكو بتصريحات تتغير في رحلة العودة، ويرسل الوفود إلى جنيف مرفقة بوعود تتغير أثناء المؤتمر أو لحظة انتهائه على أبعد تقدير، هذا لا يخدم أية استراتيجية! ذلك يجعل الحليم حيرانا!

أكاد أكون على ثقة أن هذه هي الاستراتيجية الحقيقية التي تحكم الولايات المتحدة الأمريكية. ولكي نقرأها بشكل جيد علينا أن نرجع إلى العلوم الرياضية، وعلينا بالذات العودة إلى نظرية الألعاب بصيغتها التي اقرّها عالم الرياضيات جون ناش الذي توفي السنة الماضية.

حقيقة أنني لم أجد ما يفسر السياسة الأمريكية ويوضّح استراتيجية الولايات المتحدة سوى هذه النظرية، ولمن لا يعلم هذه النظرية أختصرها بأنه خلال القرن الماضي وضعت نظرية للألعاب تطورت شيئا فشيئا حتى وضع عالم الرياضيات جون ناش البصمات الأخيرة عليها، وكانت سببا لفوزه بالاشتراك مع علماء آخرين بجائزة نوبل للاقتصاد، وهذا يؤكد أهمية هذه النظرية، وكلمة ألعاب هنا تعني القواعد التي تحكم أية عملية حيث تهتم نظرية الألعاب بالعلوم الإنسانية كالسياسة والاقتصاد والتجارة، وقد استفاد منها بعض العلماء في البحوث العملياتية والبيولوجيا التطوريّة، وأدخلها آخرون في مجال العلوم العسكرية كالاستراتيجية العسكرية، ونشأ على ممارستها الصف الأول والثاني من أصحاب القرار الحاليين في الولايات المتحدة، ويبدو أنهم تطبّعوا بها...

وأختصر فأقول إن  هذه اللعبة كأيّ لعبة أخرى ترمي إلى الفوز من حيث النتيجة، وأن الفوز فيها يكون للاعب الذي يستطيع اكتشاف استراتيجيات اللاعبين الآخرين مع المحافظة على جهلهم باستراتيجيته...

والآن نستطيع الولوج إلى اللعبة الأم، لعبة الاستراتيجية الأمريكية، لكن على مستوى عالمي بعض الشيء، فنجاح هذه اللعبة وتحقيق الفوز الكبير يقتضي مشاركة عالمية واسعة، وما يسهل الفوز فيها أن معظم استراتيجيات اللاعبين مكشوفة سلفا، أو يمكن اكتشافها خلال سير اللعبة، مع الأخذ بالاعتبار وجوب دفع من لا يريد اللعب إلى الملعب وإشراكه في اللعبة إما باستغلال طموحاته (التوسعية) أو أطماعه (ملء الفراغ) أو دفعا لأذية تلحق به نتيجة تطورات اللعبة (ولادة وانتشار التنظيمات المتشددة) وحتى خلافا لإرادته إن اقتضى الحال (دفاعا عن حدوده)... ولا بأس بصناعة الأسباب غير الموجودة، فكل قواعد اللعب متاحة. هذه اللعبة ستخلق مواجهة عالمية، وقد قطعت شوطا لا بأس به في هذا المجال، ولايزال هناك ما يجب عمله فبعض اللاعبين لا يزالون يتمنعون عن دخول الملعب، كما أن بعض اللاعبين الموجودين فيه يلعبون دون أي استراتيجية قابلة للقراءة، وهذا يجعل من الصعب على الحكم التحكّم في قواعد اللعبة، إذ يجب أن يسلّم الجميع استراتيجيا بأن إدارة اللعبة من حق الحكم. سورية والعراق الآن تمثّلان الملعب القابل للتمدد في كل الاتجاهات، وروسيا موجودة وسط الملعب الذي سبقتها إليه إيران وكل منهما يحاول إملاء شروطه على الآخر، ومطلوب من تركيا أن تدخله لمحاربة من راح يستهدف أمنها بشكل مباشر بتعليمات ودعم أمريكي ظاهر أو خفي، وعلى الخليج أن يدفع أكثر لمحاربة تشديد يتهم بأنه نشأ فيه، وشمال أفريقية تلتهب بانتظار لحظات الانفجار، وآسيا الوسطى قابلة للانفجار في كل حين، والصين مدعوة لحماية مصالحها، وأوروبا بدأت تشعر بلفح النار يحرق أصابعها، وأوباما يقول: إن الولايات المتحدة ولن ترسل عسكريين إلى المنطقة وعلى بريطانيا العظمى أن لا تفعل وأوروبا الغربية إن أمكن!!!

ووفقا لقواعد ناش فإن الفرق المتصارعة التي تتعادل في استراتيجياتها تقف عند هذا الحد، وبالتالي فهي تعترف بأنها قد خسرت اللعبة وعليها مغادرة الملعب الدولي الذي سيبقى فيه اللاعب الأخير الفائز المتخفّي بثوب الحكم وصفارته، والذي كان قد انسحب إلى أطراف الملعب بانتظار إنهاك باقي اللاعبين لبعضهم، والذي سيعاود انتشاره على كامل مساحة الملعب، وشرط فوزه الأول ألا تنكشف استراتيجية لعبه.

قد يكون ثمن اللعبة دماء وآلام ومصائب كثيرة، ولكن قواعد اللعبة أمريكية، وأمريكا تؤمن بالمصارعة الحرّة والرجبي العنيف والملاكمة الحرة حتى الموت ضمن الأقفاص المغلقة.

ومع ذلك لن يصدّق الانسان المتوازن هذا السيناريو الدموي! وأن فتيل هذا الانفجار وصاعقه حاكم لا يمانع أن يقتل كل شعبه ليحافظ على عرشه! ولكن من قال إن العالم يحكمه أشخاص متوازنون؟ ومن قال إن تاريخ البشر لم يكن حافلا بالدماء؟ ملايين قضت في هجمات المغول والتتار ومثلها في الحروب الصليبية وفي حروب الشمال مع الجنوب والغرب مع الشرق، وعشرات الملايين ماتوا في حروب اثنية ضمن القارة الأوروبية، وعشرات الملايين قضوا في حربين عالميتين سابقتين، واليوم يتحدث السياسيون عن حرب عالمية ثالثة تدور... ولا يهتز رمش العالم لقتل مليون مواطن من قبل الحاكم!

وأستغرب أنا نفسي هذا، فهو خطر جدا، ولا موجب لهذه المخاطرة. ولكن جشع العالم وتجّار الحروب لا يفكّر بعقلانية، ولا مانع لديه من (بعض المخاطر والخسائر)، سيّما إذا كانت هذه المخاطر والخسائر ستقع على الشاطئ الآخر البعيد من المحيط، حتى أن ذلك ضروري لاستكمال الفائدة، فسوف تعمل مصانع السلاح بطاقتها القصوى وتجد الشركات المتعدّية للحدود فرصتها الكبرى في مشاريع إعادة بناء ما هدمته هجمات ودفاعات اللاعبين.

ولكن غير العقلاني فعلا أن يحكم العالم بنظرية قواعد الألعاب! فهذه النظرية تواجه بعض الصعوبات في تطبيق موسّع كهذا، ذلك لأن النظرية الأصلية تسلّم بأن اللاعبين يتصرفون بعقلانية كما أن كل جوانب الوضعية السياسية أو العسكرية يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند وضع قواعد اللعبة... ووجه الخطورة إضافة للتكلفة الباهظة التي ستدفعها شعوب عديدة يتمثل في أن بعض اللاعبين في العالم الحقيقي غير عقلانيين (تجميلاً لمجانين)، وبعضهم لا يعتمد قواعد لعبة البوكر الأمريكية وإنما يعتمد في ألعابه قواعد الروليت الروسي، ووفقا لهذه القواعد الأخيرة تنتهي اللعبة بطلقة تستقر في رأس اللاعب الخاسر... والزناد في اللعبة العالمية التي تحاول الولايات المتحدة زجّ العالم فيها مع النأي بنفسها قد يكون مفتاح أحمر في حقيبة نووية لا يرى حائزها ضرورة لاستخدام الهاتف الأحمر، عندها لن تتاح الفرصة لواضعي الاستراتيجية الأمريكية أو لمن تبقى من المؤمنين بالإنسانية لمراجعة وجهة نظرهم الرافضة لاحتمال اللعب النووي.

عن الكاتب

مصطفى القاسم

محامي وكاتب سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس