محمود عثمان - خاص ترك برس

تتعرض تركيا هذه الأيام إلى هجوم سياسي وعسكري وأمني وإعلامي غير مسبوق، أشبه ما يكون بالحصار المطبق من جميع الجهات، تشارك فيه قوى عديدة خارجية وداخلية. ولأنه كان من الواضح للعيان أن هدف القوى الخارجية هو تطويق تركيا وحصارها، من أجل تحجيمها ومنعها من المشاركة الفعالة في مجريات الأحداث، وكف يدها عن التدخل وعرقلة مشاريع الهندسة الجيوسياسية التي تقوم بها القوى الدولية سعيا لرسم خارطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، فإن قوى داخلية أعماها كره أردوغان لا تمانع من لعب دور حصان طروادة، حتى لو كان على حساب مستقبل الشعب التركي ووحدة أراضيه.

تاريخيا فإن الغرب ومن خلال حلف الناتو رحب بتركيا، وضمها عضوًا في منظومته لتكون مخفرًا متقدمًا في مواجهة المد الشيوعي، ومنطقة عازلة تفصل بينه وبين الشرق الأوسط إقليم القلاقل والنزاعات التي لا تنتهي، إضافة لكونها سوقا استهلاكيًا مهما للبضائع الأوروبية. من هنا كانت تأتي أهمية تركيا بالنسبة للغرب، والتي بدأت تتناقص تدريجيا مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وتبدل سلم الأولويات الاستراتيجية الدولية.

الدور الوظيفي الذي رسمه الغرب لتركيا كان يحتم عليها أن تكون موحدة قوية بدرجة تؤهلها للقيام بدورها على الشكل المطلوب، لكن ليس إلى مستوى يمكنها من انتهاج سياسة قومية مستقلة، تراعي مصالح تركيا أولا وقبل كل شيء، وبالتالي فعندما كانت تتعارض مصالح تركيا القومية مع مصالح الغرب فإن الأخير هو صاحب الكلمة الفصل في النهاية. إلى درجة دفعت وزير الخارجية الأسبق كموران إنان لأن يؤلف كتابًا بعنوان "تركيا التي تستطيع أن تقول لا" "Hayır diyebilen Türkiye" حيث كانت تركيا في زمانه مضطرة لقول نعم بشكل شبه دائم، لأنها لم تكن تملك مقومات القرار المستقل الذي يمكنها من قول لا عند الحاجة.

في الثمانينات عندما وضع المرحوم تورغوت أوزال حجر الأساس للنهضة الصناعية الحديثة في تركيا، وقطعت تركيا في عهده أشواطًا كبيرة على طريق التقدم والأخذ بأسباب القوة، كان يحلم بالتحول من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي الأكثر استقرارًا واستقلالية، لكن المنية وافته في ظروف غامضة قبل أن يتمكن من تحقيق أمنيته، وربما لأنه تجاوز خطًا أحمر لم يكن مسموحًا به، رغم عبقريته ودهائه.

حزب العدالة والتنمية الذي تأسس على خطى حزب تورغوت أوزال "الوطن الأم" إلى حد كبير، وكان عدد غير قليل من مؤسسيه قد مارس السياسة في صفوف حزب "الوطن الأم"، واكتسب خبرة كبيرة في إدارة الحكم والدولة، واستوعب التوازنات الداخلية والخارجية، يدرك جيدا بأنه أمام مفترق طرق، فإما أن يخطو للأمام ويتحول إلى النظام الرئاسي الأكثر استقرار واستقلالية، أو أنه سيدخل في طور الضمور ثم التراجع والتآكل الذاتي.

يدرك الرئيس رجب طيب أردوغان جيدًا أن معركة التحول السياسي وتغيير شكل الحكم ليست باليسيرة، وقد كلفت من قبلَهُ حياتهم، لأنها تقتضي حتما تنظيف جميع البؤر والمنظومات المافيوية الفاسدة القديمة، التي قد تكون جماعة إسلامية كالكيان الموازي على سبيل المثال، كما تحتم أيضًا تصفية الكيانات والقوى المرئية وغير المرئية، داخل المؤسسة السياسية وخارجها، تصفية نهائية، دون أنصاف حلول، لأن بقاء جذور لها كفيل بإعادة إنتاج نفسها والنهوض من جديد، حيث القوى الدولية والنظام العالمي على أهبة الاستعداد لدعمها ومدها بأسباب الحياة. على ضوء هذا نستطيع تفسير التغييرات الأخيرة في رئاسة الحكومة وقيادة الحزب الحاكم.

ثمة شريحة في تركيا لا هم لها سوى معاداة أردوغان وحزب العدالة والتنمية. هؤلاء لا يملكون رؤية لإدارة الدولة والنهوض بالبلاد، وليس لديهم مشروع سياسي بديل، ولا خطة تقنع المواطن بأنهم أفضل من الحزب الحاكم، وبالتالي فلا أمل لديهم بالفوز في أي انتخابات ديمقراطية. هؤلاء لا يفوتون فرصة للنيل من السلطة إلا واستخدموها، حتى التصفيق لأحداث العنف والإرهاب التي تستهدف المواطنين الأبرياء، وقوات الأمن والشرطة، بات عندهم مباحًا، كل ذلك تحت ذريعة أن "سياسات أردوغان الخاطئة" هي السبب الأساسي فيما تتعرض له البلاد.

تكفي الإشارة إلى أن تفجير إسطنبول يوم أمس هو الرابع في المدينة هذه السنة، استهدف اثنان منها سياحًا، والآخران مواقع أمنية. وقد سجّل عدد السياح إلى تركيا أضخم تراجع منذ 17 سنة، حيث بلغ 28 في المئة في نيسان/ أبريل الماضي، علمًا أن عائدات قطاع السياحة بلغت العام الماضي 31.5  مليار دولار.

تعيش تركيا مرحلة انتقالية، مرحلة ولادة عسيرة، يمكن وصفها بمرحلة الخروج من عنق الزجاجة، ولذلك باتت مستهدفة من النظام العالمي شرقه وغربه. ولذلك باتت مهددة بإحكام الخناق وشد الحبل على رقبتها، تارة عبر تصعيد إرهاب حزب العمال الكردستاني بإعلانه مناطق حكم ذاتية في جنوب شرق البلاد، وتارة عبر تكريس كيانات انفصالية على تخومها تهدد أمنها الاستراتيجي، وتارة أخرى من خلال التفجيرات والعمليات الإرهابية التي تستهدف المدنيين وقوات الأمن على حد سواء، وهنا تصبح هوية منفذ العمل الإرهابي، داعشيًا كان أم يساريًا أم كرديًا، في الدرجة الثانية أهمية، لأن الهدف الأساس هو زعزعة الأمن والاستقرار وضرب الاقتصاد، وخلق حالة من الرعب والإرباك لدى المواطن، تجعله يرى تكلفة التغيير التي ينادي بها الحزب الحاكم باهظة الثمن.

يعتقد المواطن التركي العادي – فضلا عن السياسيين والكتاب وقادة الرأي – أن جميع المنظمات الإرهابية من داعش إلى حزب العمال الكردستاني إلى بقية المنظمات اليسارية التي تنفذ عمليات القتل والتفجير، ما هي إلا أدوات بيد قوى خارجية لا تريد أن ترى تركيا بلدًا قويًا آمنًا مستقرًا، يقف مع المظلوم ضد الظالم، يؤوي النازحين ويغيث المحتاجين. ويقف حجرة عثرة في وجه الأطماع الإمبريالية التي تسعى اليوم لتقسيم المقسم، وتمزيق الممزق، وخلق كيانات طائفية وعرقية متناحرة متنافسة، لا تنتهي الحروب فيما بينها إلى قيام الساعة.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس