محمود سمير الرنتيسي - مركز الجزيرة للدراسات

عادت أخبار العلاقات التركية-الإسرائيلية لتتصدر المشهد الإقليمي بعد الإعلان في روما، في 26 يونيو/حزيران 2016، عن إنهاء كافة الخلافات بشأن تطبيع العلاقات التركية-الإسرائيلية، ثم توصل الطرفين إلى توقيع اتفاق التطبيع، بعد قطيعة دبلوماسية استمرت ست سنوات، وحدثت القطيعة في 31 مايو/أيار 2010 حين قتلت القوات البحرية الإسرائيلية تسعة مواطنين أتراك على متن سفينة (مافي مرمرة) الإغاثية في المياه الإقليمية قبالة شواطئ غزة، وبعد حوالي ثلاث سنوات من المباحثات بين الطرفين. 

وحسب الاتفاق الذي لم تُعلن بنوده بشكل رسمي حتى الآن، فإن إسرائيل وافقت على دفع تعويضات لعوائل ضحايا الاعتداء على سفينة "مافي مرمرة" وعلى تمكين تركيا من تقديم المساعدات الانسانية لقطاع غزة عبر الموانئ الإسرائيلية، كما ستسهم تركيا في حلِّ أزمة الكهرباء ومياه الشرب في قطاع غزة. 

تم التوقيع على الاتفاق في مقر وزارة الخارجية التركية بالعاصمة أنقرة، صباح الثلاثاء 28 حزيران/ يونيو 2016، من قِبل مستشار الوزارة، فريدون سينيرلي أوغلو، بعيدًا عن وسائل الإعلام، وفيما يبدو أن توقيع كل طرف على الاتفاق في مركزه هو ضمن تفاهمات الاتفاق؛ حيث أُفيد بأن مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية، دوري غولد، هو أيضًا قد قام بتوقيع الاتفاق في مقر وزارة الخارجية الإسرائيلية.

وكان من المقرر بعد توقيع الاتفاق من الطرفين، أن يتم عرضه على البرلمان التركي، وعلى المجلس المصغَّر الإسرائيلي للمصادقة عليه والذي صادق على الاتفاق وسط معارضة ثلاثة من الوزراء، ليتم التحضير للبدء في المرحلة التي تلي ذلك وهي تعيين السفراء من كلا الجانبين التي ستتم في أسرع وقت.

محاولات تسوية العلاقات 

بدأت محاولات رأب الصدع بين الطرفين بعد فترة قصيرة من حدوث الأزمة؛ حيث أعلنت تركيا ثلاثة شروط لعودة العلاقات، وهي:

- تقديم إسرائيل للاعتذار.

تعويض عائلات الضحايا.

- رفع الحصار عن قطاع غزة.

وقد تخلَّل المحاولات أيضًا دور للرئيس الأميركي، باراك أوباما، ليتحقق الشرط الأول من الشروط التركية في آذار/ مارس 2013 حيث تمثَّل باعتذار نتنياهو تليفونيًّا عن الحادث، وهو ما شهد جدلًا في البداية حول كونه اعتذارًا أم لا غير أن تركيا قد قبلت بما جاء في الاتصال كاعتذار رسمي من إسرائيل، لتبدأ بعد ذلك سلسلة من المحادثات الجدية بين البلدين في أكثر من عاصمة أوروبية حيث كانت اللقاءات تعتمد بشكل واضح على الظروف الداخلية للطرفين وتأثرهما بالصراعات الإقليمية.

وبالرغم من عقد عدَّة جلسات للمفاوضات بين الطرفين شهدت إحداها التوصل لمسودة اتفاق، في مايو/أيار 2013، فيما شهد لقاء آخر موافقة إسرائيل، في فبراير/شباط 2014، على تعويض أسر الضحايا بمبلغ 20 مليون دولار، إلا أن الاجتماع الذي عُقد في العاصمة الإيطالية روما، في يونيو/حزيران 2015، بقيادة مسؤوليْن رفيعي المستوى من الطرفين، هما: فريدون سينيرلي أوغلو، مستشار وزارة الخارجية التركية الذي عُيِّن أخيرًا مندوبًا دائمًا لتركيا في الأمم المتحدة، ودوري غولد، القائم بأعمال وزارة الخارجية الإسرائيلية، كان من أهم اللقاءات التي جرت بين الطرفين من أجل العمل على تطبيع العلاقات.

ومن الجدير بالذكر أن اجتماع يونيو/حزيران 2016 قد تلا كبوة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية، في يونيو/حزيران 2015؛ حيث إنه بالرغم من تفوق حزب العدالة والتنمية على بقية الأحزاب التركية إلا أنه لم يستطع تشكيل الحكومة بمفرده، وقد فُسِّر حدوث الاجتماع حينها بأنه يندرج في سياق ضرورة العمل على إعادة النظر في السياسة الخارجية التركية في ظل التراجع على المستوى الداخلي، وقد كان الاجتماع مقدمة لسلسلة اجتماعات أخرى شارك فيها الطرفان من أجل مزيد من التفاهمات والتباحث حول مطالب الطرفين، وجرت الاجتماعات على طريقة الدبلوماسية المكوكية بين سينيرلي أوغلو، ودوري غولد، ومبعوث نتنياهو الخاص يوسف تشاحنوفر. 

مؤشرات العلاقة 

ظهر فيما سبق بعض المؤشرات التي يمكن من خلالها تتبع مسار العلاقات سواء عند التدهور أو عند التحسن وفيما يلي بعض المؤشرات على تدهور العلاقات:

- امتناع وزير الخارجية التركي، مولود تشاويش أوغلو، عن المشاركة في مؤتمر ميونخ للأمن، في فبراير/شباط 2015، وذلك بسبب قيام منظِّمي المؤتمر بتخصيص المقعد الذي سيجلس فيه خلال جلسات الاجتماعات، إلى جانب المقاعد المخصَّصة للوفد الإسرائيلي المشارِك في المؤتمر.

- انتقاد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لمشاركة نتنياهو في مسيرة تضامن باريس بعد أعمال القتل التي وقعت في مبنى مجلة "شارلي إبدو"، ورَدُّ وزير الدفاع الحالي ووزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، أفيجدور ليبرمان، واصفًا أردوغان بأنه "بلطجي معاد للسامية".

- وجود موشيه يعلون في السابق على رأس طاقم المفاوضات مع تركيا وهذا بحدِّ ذاته كان أحد عوامل إفشال التوصل لاتفاق.

أمَّا مؤخرًا وتحديدًا بعد لقاءات روما فقد ظهرت بعض المؤشرات على تحسُّن العلاقات، مثل:

مقابلة بعض المسؤولين الأتراك مع وسائل إعلامية إسرائيلية مثل النائب السابق لرئيس الوزراء، بولنت أرنتش، وإطلاق القائمة بأعمال السفارة الإسرائيلية في أنقرة، أميرة أورون، تصريحات إيجابية تجاه تركيا كان منها أن:

- إسرائيل تدعم حق تركيا في الدفاع عن نفسها في مواجهة المنظمات الإرهابية.

- إسرائيل ترى أن الأسد قد فقد شرعيته منذ زمن، وأن الحل في سوريا لابد أن يكون بدونه.

- على تركيا وإسرائيل أن تتعاونا معًا على مواجهة الأسد.

- إسرائيل تدرك أن تركيا لاعب مهم في شأن غزة.

- إسرائيل تدعم التوجهات الإنسانية لتركيا في غزة.

تصريح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، للصحفيين على متن طائرته أثناء عودته من زيارة للملك سلمان، في يناير/ كانون الثاني 2016، بأن إسرائيل محتاجة لدولة مثل تركيا، كما أن تركيا أيضًا بحاجة إلى إسرائيل.

لقاء الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وحواره لمدة دقائق معدودة مع وزير البنية التحتية والطاقة والموارد المائية الإسرائيلي، يوفال شطاينيتس، خلال قمة الأمن النووي التي عُقدت في واشنطن في شهر مارس/آذار 2016.

إرسال رئيس الوزراء السابق، أحمد داود أوغلو، رسالة تعزية لعائلات الإسرائيليين الذين قُتلوا في تفجير في إسطنبول في مارس/آذار 2016.

حضور دوري غولد إلى إسطنبول لمتابعة جرحى الانفجار من الإسرائيليين حيث اعتُبِرت زيارته أرفع زيارة لمسؤول إسرائيلي منذ 2010 كما تم تسهيل عمله بشكل كبير من الجانب التركي.

إجماع مجموعة دول غرب أوروبا التي تضم أستراليا ونيوزيلندا وإسرائيل وتركيا بالإضافة إلى دول أخرى، في يونيو/حزيران 2016، على ترشيح إسرائيل، لترؤُّس اللجنة القانونية في الأمم المتحدة.

طبيعة وحيثيات الاتفاق 

لم يتم نشر نص وثيقة الاتفاق الرسمية بين تركيا وإسرائيل إلى لحظة كتابة التقرير، لكن الكثير من بنوده الأساسية قد تم الإدلاء بها من قِبل عدد من المسؤولين من الطرفين، ومن هذه البنود:

- تفعيل السفارات وتعيين سفراء لدى كلتا الدولتين، واستئناف الزيارات الودية، وعدم عمل أي طرف ضد الآخر في المؤسسات الدولية.

- يشمل تطبيع العلاقات كافة المجالات.

- تعهُّد إسرائيل بتعويضات تُقدَّر بعشرين مليون دولار لأقارب ضحايا سفينة مافي مرمرة، التي تعرضت للاعتداء من قِبل الجنود الإسرائيليين عام 2010.

- تمكين تركيا من إيصال المساعدات إلى قطاع غزة المحاصر؛ حيث ستتوجه أول سفينة تحمل عشرة أطنان من المساعدات الإنسانية إلى ميناء أسدود، الجمعة، بموجب الاتفاق.

- استكمال مؤسسة الإسكان التركية مشاريعها في غزة وتجديد شبكات الكهرباء والمياه وإقامة مستشفى ومحطة تحلية للمياه والعمل على حلِّ مشكلة الكهرباء هناك.

- تلغي تركيا الدعوى المرفوعة في المحكمة بإسطنبول ضد جنود الجيش الإسرائيلي وضباطه.

- تسريع إنشاء المنطقة الصناعية في منطقة جنين.

- لا يشمل الاتفاق فكَّ الحصار البحري عن قطاع غزة.

وفي نفس سياق الاتفاق، وُجِدت وعود من جانب الرئيس التركي للتعاون في ملف استعادة إسرائيل للجنود المفقودين في الحرب على غزة في عام 2014، وهنا يتضح أن إسرائيل لم تستطع فرض استعادة جنودها بموجب الاتفاق، وهو نفس الأمر مع تركيا التي لم تستطع فرض عملية فك كاملة للحصار عن غزة. أما فيما يتعلق بحركة حماس فلم تنجح إسرائيل في تحقيق مطالبها بإغلاق ما تقول إنه مكاتب لحركة حماس في إسطنبول، لكن يبدو أن هناك تفاهمًا حول تعهد تركيا بألا تعمل حماس ضد إسرائيل انطلاقًا من أراضيها، وقد  قال رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم: "من الطبيعي وجود آليات ومكاتب دبلوماسية فلسطينية في تركيا تشرف على سير العلاقات بين البلدين".

العوامل المساعدة على الاتفاق 

استمرت المباحثات بين الطرفين التركي والإسرائيلي فترة طويلة وقد كانت هناك جملة من العوامل التي ساعدت على التوصل للاتفاق:

1- التغيرات الإقليمية في المنطقة

إن اهتمام الطرفين بتكوين تحالفات جديدة وشعور الحاجة المتبادلة من كل طرف تجاه الآخر في ظل الأخطار المشتركة خاصة في المجال الأمني وفيما يتعلق تحديدًا بالمسألة السورية، وما يتعلق بالدور الإيراني في المنطقة يُعد دافعًا مهمًّا للتوصل للاتفاق، وقد تم التعبير عن هذا من قِبل زعماء ومسؤولين من الطرفين. 

في هذا الإطار، يساق تفسير يرى أن الاتفاق تم ضمن تفاهمات إقليمية غير مباشرة تجمع كلًّا من تركيا والسعودية وقطر وإسرائيل، في ظل مواجهة هذه الدول لتهديدات أو ظروف مشتركة سواء من الموقف تجاه داعش أو الاستياء من الدور الإيراني في المنطقة خاصة بعد الإحباط الذي نجم عن توقيع الاتفاق حول البرنامج الإيراني النووي لدى عدد من دول المنطقة، فضلًا عن تراجع الثقة بين هذه الدول وبين الولايات المتحدة كحليف أساسي لها، كما أن دولًا مثل مصر والإمارات قد تنضم لهذه الدول لتشكِّل معًا محورًا لتحقيق الاستقرار المفقود في المنطقة.

يتسق هذا الأمر مع تغير ملحوظ في السياسة الخارجية التركية من أجل زيادة الأصدقاء وتقليل الأعداء حيث تم قبل أسابيع قليلة تحسين العلاقات مع دولة الإمارات وتم تعيين سفراء في البلدين، كما تجري حاليًا بشكل جدي محاولات لتحسين العلاقات مع كلٍّ من روسيا ومصر.

2- وجود دوافع اقتصادية

على غير العادة، وبالرغم من الأزمة الدبلوماسية، كانت العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإسرائيل تسير في اتجاه متصاعد وذلك لنشاط التجارة بين القطاع الخاص لدى الطرفين؛ لذا كان من المرجح أن حدوث الاتفاق الرسمي بين الحكومتين سيكون له دور في الارتقاء بالعلاقات الاقتصادية ومستوى التبادل التجاري بين البلدين، وقد صرَّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بهذا بوضوح عندما دافع عن الاتفاق قائلًا: "يتم تعزيز مصالحنا الحيوية من هذا الاتفاق ويفتح إمكانية لتعاون اقتصادي ثنائي كبير".

من ناحية أخرى، فإن ملف الطاقة كان له هو الآخر حضور قوي ومحفِّز لإنجاز الاتفاق. وكانت إسرائيل قد عرضت على تركيا مشاريع لربط حقول غاز اكتُشفت في البحر المتوسط بساحل جنوب تركيا لتسويق إمدادات الغاز إلى أوروبا، وفي حال قبول الطرفين فإن تركيا ستحصل على أسعار مغرية للغاز كما ستستفيد من كونها ممرًّا للطاقة إلى أوروبا، فضلًا عن تنويع مصادر الغاز الذي تعتمد فيه على روسيا وإيران بشكل كبير، وإن كان هذا الأمر يحتاج ما لا يقل عن ثلاثة إلى أربعة أعوام لتحقيقه.

أمَّا إسرائيل التي تُقدَّر قيمة احتياطات حقول الغاز التي اكتشفتها بمئات المليارات من الدولارات، فإنها تحتاج إلى تأمين أسواق مستورِدة للغاز قبل البدء بعمليات الاستخراج الشاقة والمكلفة، وهي أمام الخيارات المطروحة لن تجد طرفًا أكثر إفادة لمصالحها من تركيا. 

وفي هذا السياق، يمكن أن نذكر أن محاولات إسرائيل تجاوز تركيا وتأمين بدائل عنها في العلاقات الاستراتيجية مع اليونان أو قبرص أو بعض دول البلقان، سواء على الصعيد العسكري أو الأمني لم يُكتَب لها النجاح، كما يمكن الإضافة هنا بأن ملف الغاز سيعمل على رفع مستوى الدور التركي في المنطقة خاصة أن هذا الملف له ارتباطات بمصر وبقطاع غزة.

3- مكاسب الاتفاق

تعتقد تركيا أنها قدمت محاولة لكسر حصار غزة وأنها نجحت في التوصل لتخفيف الحصار وإيصال المساعدات الإنسانية، فيما تعتقد إسرائيل أن الاتفاق يُضفي نوعًا من المشروعية على حصار غزة خاصة أنه تم توقيعه مع الدولة الأكثر اعتراضًا على حصار غزة، كما ترتقب إسرائيل من تركيا دورًا تسميه "التخفيف من تشدُّد حماس"، وكذلك دورًا في عملية استعادة جنودها المفقودين في غزة. 

وهذا الاتفاق، بحسب نتنياهو، "يُنهي سنوات من العداء الإسرائيلي-التركي، ويحمي الجنود الإسرائيليين من اتخاذ إجراءات قضائية ضدهم بسبب حادثة "مافي مرمرة"، ويُبقي الحصار المفروض على غزة على حاله، ويفتح إمكانية لتعاون اقتصادي ثنائي كبير".

وفضلًا عن ذلك فإن هناك مجموعة من المصالح المشتركة التي سيوفرها التنسيق الأمني والاستخباري في المنطقة ولكن ينبغي القول: إن هذا الأمر محاط بالشكوك.

4- الأوضاع الداخلية لدى الطرفين

في هذه النقطة تحديدًا وأمام ضيق الخيارات وتعثر المسار السياسي سواء بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية أو بين تركيا والأكراد، فإن التعاون بين الطرفين سيعمل على تخفيف الضغط، إن لم يكن له دور في التوصل إلى صيغ أفضل، خاصة بالنسبة لتركيا التي تواجه بالإضافة لسلسلة من التفجيرات معضلة مع حزب العمال الكردستاني ورديفه حزب الاتحاد الديمقراطي الذي لا تتورع الولايات المتحدة عن تقديم الدعم له، مما يضخِّم من مخاوف تركيا المتعلقة بإقامة كيان كردي على حدودها شمال سوريا.

5- استعداد الطرفين للحوار وتقديم التنازلات

لا توجد ممانعة لدى الطرفين في الجلوس والنقاش مع بعضهما البعض حيث تجدر الإشارة إلى أن المحادثات بينهما كانت ثنائية ولم تتم بوساطة دولة ثالثة بالرغم من وجود مبادرات من أكثر من طرف في أعقاب الأزمة، وفي هذا السياق كانت هناك رغبة وتشجيع من الولايات المتحدة للتوصل للاتفاق، كما رحَّب البيت الأبيض بالاتفاق فور الإعلان عنه واعتبره خطوة إيجابية داعمة لتحقيق الاستقرار في منطقة شرق البحر المتوسط(22). ويتضح من البنود الأولية أن كلا الطرفين لم يحقق مطالبه بدرجة 100% مما يدل على وجود تنازلات ثنائية لتحقيق الاتفاق، ويبدو أن هناك قضايا تُركت للنقاش لاحقًا مثل موضوع الحصار البحري وموضوع حقوق الغاز المكتشف. 

انعكاسات الاتفاق 

مع توقيع الاتفاق حدثت ردود فعل داخلية في تركيا وإسرائيل، لكن ردَّة الفعل الأشد كانت لدى الطرف الإسرائيلي حيث رفض ثلاثة وزراء التوقيع على الاتفاق واعتبره البعض خضوعًا للجانب التركي، كما نظَّم أهالي الجنود المفقودين حملة ضد الحكومة، أمَّا في تركيا فقد أعربت هيئة الإغاثة الإنسانية عن رفضها للاتفاق وانتقدت الرئيس التركي؛ مما جعل الرئيس التركي يرد بالقول: إنه لا يحق للمنظمة انتقاده؛ حيث إن أنشطتها التي قامت بها من دون حسيب أو رقيب هي التي تسبَّبت بأزمة دبلوماسية استمرت لسنوات بين البلدين. ولا يُتوقَّع أن يكون لهذه الردود أثر قوي على تخريب الاتفاق بين الحكومتين لكن من المرجح أنها سيكون لها دور في منع تحسين العلاقات الشعبية. 

أمَّا على المستوى الإقليمي، وكما ذُكِر سابقًا، فإن الاتفاق يُعد عاملًا أساسيًّا لتحقيق بعض التوازنات الإقليمية إضافة إلى غيره من عمليات التقارب خاصة بين روسيا وتركيا التي قد تقود لجولة من المشاورات الواسعة من أجل تحقيق الاستقرار الإقليمي، وفي الملف السوري تحديدًا. 

وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فإن اتفاق المصالحة مع إسرائيل لا يفيد بتغيير في السياسة التركية تجاه القضية الفلسطينية بل من المرجَّح أن نشهد دورًا أكبر لتركيا في القضية الفلسطينية، وقد اتضح هذا في الوعد بالإفراج عن الجنود الإسرائيليين الأسرى لدى حركة حماس، وفي تنسيق تركيا حول الاتفاق مع حماس ومع السلطة الفلسطينية، وقد أفاد بعض المصادر الصحفية التركية بأن تركيا طلبت من حماس طرح مطالبها من أجل فكِّ الحصار عن غزة والمواد التي يلزم إدخالها إليها. كما أن الاتفاق التركي-الإسرائيلي بشكل عام لقي ردودًا إيجابية من الفلسطينيين الذين ينتظرون تخفيف الحصار بالرغم من توقعات بتحقيق اختراق أكبر باستثناء التحفظ أو الرفض لموضوع تطبيع العلاقات مع إسرائيل وهو موقف مبدئي لدى الشعب الفلسطيني، وهذا أيضًا ليس بجديد لأن العلاقات التركية-الإسرائيلية موجودة ولم يتم إنشاؤها بموجب هذا الاتفاق. 

أمَّا فيما يتعلق بالعلاقة مع مصر، فإن الدور التركي في القضية الفلسطينية قد يكون له وجه استفزازي للجانب المصري صاحب الدور التاريخي في رعاية عمليات التهدئة وصفقة التبادل، وقد شهد اليوم التالي لإعلان المصالحة التركية-الإسرائيلية الزيارة الأولى لوزير الخارجية المصري، سامح شكري، إلى رام الله للالتقاء مع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس. وفي هذا السياق، فإن ثمة رأيًا في إسرائيل أيضًا يرى أن تركيا قد تكون أكثر فائدة من مصر في تحقيق وساطة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية خاصة أن تجربة مصر في حرب العام 2014 قد أدَّت إلى إطالة أمد الحرب وهو ما أضَرَّ بالمصالح الإسرائيلية؛ وهذا بدوره قد يشعل تنافسًا تركيًّا مصريًّا حول القضية الفلسطينية. 

من جهة أخرى، فإن هناك أحاديث غير مؤكدة عن برنامج تركي لإحياء المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية بصيغ جديدة ربما تشهد تنسيقًا أكبر بين تركيا من جهة وبقية الأطراف الفلسطينية من جهة أخرى.

خاتمة

لقد نجح الطرفان التركي والإسرائيلي في تجاوز بعض العقبات  للتوصل لاتفاق استعادة العلاقات الدبلوماسية بعد ثلاث سنوات من المباحثات في ظل ظروف إقليمية متغيرة التي ربما أسهمت أوضاعها الأخيرة في تقوية فرص التوصل للاتفاق، لكن هذا الوقت الطويل من المباحثات يعزِّز الشكوك في قرب وإمكانية استعادة العلاقات في المجالات الأخرى. 

ويمكن القول: إن ضعف الثقة أو انعدامها بين الطرفين ما زال موجودًا حيث يرى الإسرائيليون أن الأزمة لم تكن لأسباب دبلوماسية بحتة بل هي مرتبطة بفكر وأيديولوجيا القيادة التركية، وبتعرضها لمخاطر إقليمية في الوقت الحالي قد تزول أو تقل لاحقًا. لذلك، فإن هناك شكوكًا مثلًا في مدى تحقيق تعاون أمني وعسكري وثيق مما يشير إلى أن إسرائيل سوف تستمر في العمل على توفير بدائل عن تركيا، كما يعزِّز عدم الثقة وجودُ ليبرمان على رأس وزارة الدفاع، وهو أحد المعارضين لاتفاق المصالحة مع تركيا. ويمكن هنا إضافة أن هناك شعورًا أكبر في إسرائيل بأن تركيا هي من تحتاج إسرائيل بشكل أكبر وأن إنجاز الاتفاق بتحقيق نسبي أكبر لصالح الشروط التركية يُعد إنجازًا تركيًّا. 

وفي نفس سياق الثقة المتدهورة وحيث تحاول تركيا أن تجعل لها موطئ قدم أرسخ في القضية الفلسطينية، وقد حاولت بشكل جدي تخفيف الحصار عن قطاع غزة وما زالت متمسكة بعلاقاتها مع حماس، فإن هناك دعوات في إسرائيل لتكثيف العلاقة وتقديم الدعم لحزب العمال الكردستاني الذي تخوض تركيا معه حربًا حقيقية حاليًّا في مدن الجنوب الشرقي التركية. وفي ذات السياق، وكما أكَّدت تركيا للفلسطينيين أنها لن تتخلى عن العلاقة معهم حاولت إسرائيل أن تلعب نفس الدور؛ إذ قام نتنياهو بالاتصال بالرئيس القبرصي وأطلعه على الاتفاق وأكَّد له عدم تأثيره على العلاقات الإسرائيلية-القبرصية. 

تجدر الإشارة إلى أن الاتفاق سيوفر مكاسب مشتركة للطرفين فيما يتعلق بالتنسيق في الشأن السوري وفي مواجهة داعش، وسيخفف من الأعباء والضغوطات على كاهل الدبلوماسية التركية، وربما يكون مقدمة لدور تركي يعمل على ترجيح الحلول السياسية على المواجهة العسكرية أو يعمل على تهدئة الأمور لمنع حدوثها أو إنهائها. ومن المرجح أن اتفاقًا بين تركيا وإسرائيل حول موضوع الغاز المكتشَف في البحر المتوسط قبالة غزة سيكون له دور كبير في تعزيز الدور التركي. 

ختامًا، أثبت الاتفاق صعوبة المفاوضات مع الطرف الإسرائيلي خاصة فيما يتعلق بموضوع فكِّ الحصار الذي تعتبره إسرائيل جزءًا من استراتيجيتها الأمنية، كما أثبت أن الضغوط الإقليمية قد تضطر الأطراف إلى تقديم تنازلات متبادلة من أجل تحقيق مصالحها.

عن الكاتب

محمود الرنتيسي

باحث فلسطيني في مجال العلاقات الدولية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس