محمود عثمان - خاص ترك برس

بعد سلسلة من اللقاءات والمفاوضات، توصل الطرفان الأمريكي والروسي إلى هدنة أو وقف للعمليات العدائية بين الأطراف المتحاربة في سورية. الطرف الأمريكي كان حريصًا على تحقيق هذه الهدنة ولا يزال يسعى جاهدًا لإطالة مدتها، فيما يبدو أنه حال نجاحها يريد التقدم خطوة نحو الأمام لجهة اجتراح عملية تهدئة عسكرية ميدانية، يعقبها مباحثات سياسية، تؤدي إلى وضع القضية السورية في مسار التهدئة أولًا، ثم تفعيل عملية المفاوضات بين أطراف النزاع، انتهاء بالوصول إلى حل لا يبدو واضح المعالم حاليا، يرضي أو يفرض على الجميع.

تدرك جميع الأطراف أن حل الأزمة السورية مرهون بتفاهمات دولية وإقليمية وداخلية محلية. إذ إن تفاهم السوريين فيما بينهم حتى لو حصل لن يكون كافيا، بل لا بد من تفاهمات إقليمية ودولية تسبقه، ولعل أصعب هذه التفاهمات تلك التي بين الأمريكان والروس.

نلاحظ أن هناك ثلاثة مستويات تجري من خلالها التفاهمات والمفاوضات في سورية.

المستوى الأول: المستوى المحلي

يتعلق هذا المستوى من المفاوضات والتفاهمات بتقاسم النفوذ على الأرض السورية، بين الفرقاء السوريين، والأطراف الإقليمية، والقوى الدولية. وهذا المستوى على صعوبته وتشعباته لكنه يبقى الأسهل، حيث يمكن للقوى والأطراف الدولية والإقليمية إذا تفاهمت فيما بينها الضغط على الأطراف السورية، التي تتصارع بالوكالة، والتي أنهكتها ست سنوات من الحرب المدمرة. في هذا المستوى من المفاوضات/ التفاهمات يبدو الأمريكان أكثر سخاء، فهم من جهة يريدون جر الروس إلى طاولة المفاوضات، وإبقاءهم هناك،  ثم لأنهم يدفعون من جيوب غيرهم، حيث من السهل ممارسة الضغط على الطرف الأضعف الذي تمثله المعارضة السورية هنا.

المستوى الثاني: المستوى الإقليمي

هنا في هذا المستوى تبدو الأمور أكثر تعقيدا حيث يدخل على خط التفاهمات والمفاوضات عامل القوى الإقليمية، التي تخطت مرحلة الاشتباك من خلال الوكلاء المحليين أو/ و من خلال ميليشيات تم جلبها من الخارج كما فعلت إيران، إلى مرحلة التدخل العسكري بشكل مباشر، حيث تحولت إيران في الأيام الأخيرة من الحرب بأذرع أجنبية إلى إرسال قطعات عسكرية من قواتها الخاصة وقوات الحرس الثوري. ثم جاءت عملية درع الفرات في محاولة من تركيا لحماية أمنها القومي، و لتثبيت وحماية مناطق نفوذها في الداخل السوري.

إن تشابك الوضع الإقليمي واحتدام صراعات النفوذ بين الأطراف والقوى الإقليمية، من إيران إلى تركيا إلى مصر والسعودية وقطر، ناهيك عن إسرائيل الغائب الحاضر في جميع الطبخات السياسية السرية والعلنية.

في هذا المستوى من الصراع تسعى القوى الإقليمية من خلال قوتها على الأرض السورية، أو/ و من خلال أذرعها في الداخل السوري، إلى عقد صفقات سياسية، لا تقتصر على الحفاظ على نفوذها في سورية فحسب، بل تتعدى إلى تثبيت ودعم نفوذها في المحيط الإقليمي الشرق أوسطي. وهذا يضفي بعدا آخر للصراع القائم يجعل عملية التسوية أكثر صعوبة وتعقيدًا.

في هذا المستوى من الصراع أو التفاهمات يمكن للأمريكان تقديم بعض التنازلات للروس لكن بدرجة ربما أقل من المستوى السابق.

المستوى الثالث: المستوى الدولي الاستراتيجي

القضية السورية وبالرغم من فظاعة مشهدها الإنساني وقساوته، من تجاوز عدد الضحايا ستمائة ألف قتيل، وتشريد أكثر من نصف السوريين داخل سورية وخارجها، وتدمير ما يفوق السبعين بالمائة من بنيتها التحتية والفوقية، ناهيك جرائم التهجير والتغيير الديمغرافي على أساس عرقي ومذهبي، إلا أنها لا تعدو بالنسبة للروس – وربما لبقية الأطراف الإقليمية والدولية - سوى ورقة يستخدمونها في بازارهم السياسي مع الأمريكان وغيرهم. دليل ذلك أن المعارضة السورية بكافة تياراتها ومشاربها ومؤسساتها وشخصياتها الوطنية، قصدت موسكو، وأعطت للروس شيكًا مفتوحًا بتقديم المزايا ورعاية المصالح الروسية في سورية أكثر مما يقدمه بشار الأسد، ومع ذلك يصر الروس على معاداة المعارضة السورية ووصفها بالإرهابية!.

هنا في هذا المستوى الاستراتيجي من عملية التفاهمات والمفاوضات، يوصد الأمريكان جميع الأبواب في وجه الروس، بل يحكمون إغلاقها. هنا يبدو الأمريكان غير مستعدين لدفع أي ثمن استراتيجي للروس، لأن سورية ليست بلدًا استراتيجيًا من الدرجة الأولى بالنسبة لهم أي الأمريكان. كما أن الثمن الاستراتيجي الذي يطلبه الروس مقابل الورقة السورية خارج سورية ولا علاقة له بالمسألة السورية من قريب أو بعيد، يتعلق بفك الخناق الذي يفرضه الأمريكان على الروس، خناق متعدد الأشكال والجوانب والأذرع، منها ما هو سياسي، ومنها ما هو اقتصادي، ومنها ما هو عسكري. ولسنا هنا بصدد التفصيل في هذه الجوانب، لكن كمثال بسيط على الجانب العسكري، فقد عقد حلف شمال الأطلسي اجتماعه الأخير بتاريخ الثامن آب/ أغسطس الماضي في مدينة وارسو، وفي القاعة التي تأسس فيها حلف وارسو. ناهيك عن نشر الدرع الصاروخية على بعد كيلومترات محدودة من الحدود الروسية، في بادرة هي الأولى منذ انتهاء الحرب الباردة بين الطرفين.

الروس يسعون إلى فك الخناق الأمريكي عنهم بشتى الوسائل، لكن لا يستطيعون ذلك إلا في البؤر الساخنة، حيث يكون بمقدورهم المشاغبة وخلط الأوراق، و صب الزيت على نيران الحروب لإطالة أمدها، وحتى التدخل العسكري المباشر.

الروس يحاولون استغلال أجواء الانتخابات الأمريكية لتسجيل أكبر عدد ممكن من النقاط، حيث خيارات الإدارة الأمريكية الحالية أقل منها في الظروف الاعتيادية. كما يعمل الروس على التدخل في الانتخابات الأمريكية لصالح المرشح الجمهوري ترامب، حيث يستطيعون في حال نجاحه، إبقاء الأجواء العالمية في حالة توتر مستمر، مما يهيئ ظروفا مناسبة، تتيح لهم أدوار إضافية على ساحة السياسة الدولية.

مقابل ذلك يمسك الأمريكان بخيوط وأدوات كثيرة تمكنهم من وضع حد لتمادي الروس، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر، رفع الحظر – ولو جزئيا - عن امتلاك المعارضة السورية أسلحة نوعية تشمل مضادات للطيران. مثل هذه الخطوة البسيطة كفيلة بأن تعيد للروس كوابيس الحرب الأفغانية، لذلك نراهم لا يذهبون في التصعيد إلى سقفه الأعلى. وهذا ما شاهدناه عندما هدد كيري بالانسحاب من مفاوضات الهدنة، فما كان من الروس سوى الانصياع والإذعان.

قبل قليل أعلنت الخارجية الأمريكية أن الوزيرين جون كيري وسيرغي لافروف اتفقا على تمديد الهدنة في سورية مدة ثمان وأربعين 48 ساعة إضافية.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس