جلال سلمي - خاص ترك برس

مما لا شك فيه، أننا استمعنا كلنا لبعض خطابات مسؤولي السلطة أو الأحزاب السياسية في بلادنا أو بلدان أخرى، ولا بد أننا لاحظنا أن معظم الخطابات تصوّر المُخاطب على أنه حامي حمى الديار وأنه الرقم الأول في حماية الأمن القومي والغذائي والاجتماعي وأن همه الوحيد هو درء الفوضى العارمة التي يسعى الأنداد الداخليون والخارجيون لنشرها داخل المجتمع وأنه ابن الوطن الذي يحاول جاهدًا احتضان الجميع تحت خيمة الوطن الآمن، ويُطلق على جميع هذه الأساليب "حرب نفسية ديماغوجية أو سفسطائية".

ـ تمارس الحرب النفسية من قبل عنصرين:

ـ الأول هو العنصر الداخلي أي النظام والأحزاب السياسية: يُطلق على ممارس الحرب النفسي الديماغوجي أو السفسطائي. يستند الديماغوجي على الأساليب السفسطائية المخاطبة لمخاوف الناس القومية والشعبية والمتملقة لعواطفهم وطموحاتهم الاقتصادية والاجتماعية بعيدًا عن المنطق البرهاني، ومسعى ممارس الحرب النفسية الداخلية هو الحصول على السلطة أو البقاء على رأسها وكسب تعاطف الشعب ودعمهم.

ـ أما الثاني فهو العنصر الخارجي أي الدول الأجنبية التي تمارس الحرب النفسية ضد دولة ما عبر العزف على وتر التقهقر الاقتصادي والتهديدات الإرهابية الأمنية، بغية تشتيت طاقة وتركيز الدولة المُستهدفة لإيقافها عن إحراز تقدم اقتصادي أو نجاح دبلوماسي.

ولقد طرأ على السطح أحد أبرز الأمثلة على الحرب النفسية التي تمارسها الدول ضد دولة ما، إبان إغلاق كل من بريطانيا وألمانيا سفارتيهما في تركيا، بذريعة وجود تهديدات إرهابية.

إن التوقيت الذي برزت به إجراءات إغلاق السفارات يوافق تمامًا تحقيق تركيا لنجاح ملموس في دحر قوات داعش من بعض المناطق التي رزحت تحت سيطرتها لفترة طويلة دون تمكن قوات التحالف من تحريرها، ألا يحمل ذلك في طياته هدف ألمانيا وبريطانيا الواضح في لفت تركيز تركيا عن التحرك العسكري في سوريا؟

لم تغلق الدول الغربية سفاراتها إبان أي هجوم إرهابي تعرضت له تركيا، ولكن ما إن أحرزت تقدمًا عسكريًا متحوف برصيد دبلوماسي سابغ لتركيا على الساحة الدولية، حتى لجأ الغرب لحربه النفسية المعتادة مستخدمًا في هذه المرة أسلوب إغلاق السفارات.

استند الغرب في ممارسته للحرب النفسية ضد تركيا على وسائل الإعلام والترويج، حيث أظهر تركيا على أنها تسير على قدم وساق نحو إرساء النظام الدكتاتوري وأخذت تنشر أنباء عارية عن الصحة تستهدف تركيا وسياستها واقتصادها، وتولت هذه المهمة بشكل أساسي وسائل الإعلام الألماني والنمساوي، واتكأ على أسلوب إطلاق التحذيرات الأمنية لرعاياها، واليوم يركن إلى أسلوب إغلاق السفارات.

ربما تكون ألمانيا وبريطانيا محقتين فيما يتعلق بوجود تهديد أمني، ولكن استنادًا إلى المواثيق والأعراف الدولية ألا يجب عليها مشاركة تركيا معلومات عن نوعية هذه التهديدات ومصادرها!؟

يبدو أن التهديدات مجرد حرب نفسية يهدف الغرب من خلالها تشتيت طاقة الحكومة التركية، قد يسأل سائل ما كيف يمكن أن تتشتت طاقة الحكومة التركية؟

هذه التهديدات تدفع تركيا لتشكيل طاولات حل أزمة في أروقة جميع مؤسساتها الأمنية المشغولة حاليًا في تنسيق جهودها تجاه عملية "درع الفرات"، لا يملك أي عنصر على وجه المعمور قلبين في جوفه، فأخذ المؤسسات جزء من تركيزها وتسخيره للعمل على التحقق من صحة الادعاءات الغربية لا شك في أنه يؤثر على وتيرة التحرك العسكري التركي في سوريا.

وعلى صعيد آخر، تحرك الجيش التركي نحو سوريا بالركون إلى دعم شعبي حافل لعبت وسائل الإعلام المرئية والاجتماعية دورًا كبيرًا في صنعه، ومع ادعاءات التهديدات الأمنية ستضطر وسائل الإعلام، لا سيما التواصل الاجتماعي، لتسليط الأضواء عليها وعلى الأرجح سيؤثر ذلك على التعبئة الشعبية، ويقلب بعض أوجه الرأي العام على الحكومة، بدعوى أنها تسببت في جلب تهديدات أمنية إرهابية نتيجة تدخلها في شمال سوريا، ولذلك تأثيره الكبير، حيث ستضطر الحكومة لتكريس كم هائل من جدول أعمالها في تبرير تحركها ودحض ادعاء ميلاد تهديدات إرهابية نتيجة التحرك العسكري.

وأخيرًا وبعد تحليل العناصر والموضوع قد يقول قائل "أغلقت فرنسا أبواب سفارتها قبل محاولة انقلاب 15 يوليو ومن ثم حدثت المحاولة، ألا يعني ذلك بأن التهديدات الأمني أمر حقيقي ينتظر الفرصة السانحة ليصبح واقع؟".

في إطار ذلك، يقول السلطان عبد الحميد الثاني "ليس التاريخ الذي يتكرر، بل الأخطاء هي التي تكرر"، لذا إن كان هنالك تهديد أمني فعلي أو إن لم يكن يجب على تركيا المضي قدما ً نحو اتخاذ كافة الإجراءات الأمنية اللازمة لحماية جبهتها الداخلية، ومع رفع الاحترازات الأمنية قد تتلافى تركيا أخطائها السابقة، وذلك ليس بالأمر المعجزة، فروسيا وإيران ضالعتان منذ سنين في الأزمة السورية، وبفضل إجراءاتهما الأمنية المشددة على الصعيد الداخلي لم يُصابا بالتفجيرات الإرهابية، بصرف النظر عن الادعاء الركيك حول كونهما المؤسس لداعش أو غيرها من المنظمات الإرهابية. لعل تخلص تركيا من تغلغل "الكيان الموازي" يمكنها من حماية جبهتها الداخلية وبالتالي إفشال الحرب النفسية.

التهديد الأمني يلاحق أي دول قومية حول العالم، ولكن تأجيجه في توقيت معين يأتي في إطار الحرب النفسية. تغاضي تركيا عن هذه التهديدات إعلاميًا وإشغال الرأي العام بمسائل أخرى مع إبقائها على الإجراءات الأمنية الصارمة قد يُفقد الحرب النفسية مضمونها.

عن الكاتب

جلال سلمي

صحفي وباحث سياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس