د. سمير صالحة - الجمهورية

تشهد العلاقات العراقية التركية أزمة سياسية - دبلوماسية على خلفية تواجد الوحدات العسكرية التركية في شمال العراق، وهي تتفاعل يوماً بعد يوم مع غياب أي مشروع وساطة اقليمية او دولية، وعلى رغم أنّ التصعيد الكلامي والاعلامي بين البلدين في ذروته ووصف رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي المغامرة التركية بأنّها قد تتسبّب في إشعال حرب اقليمية، فإنه لن يكون سهلاً ان يتقدّم سيناريو تحرك القوات العراقية في الموصل لاستهداف الوحدات التركية الموجودة هناك كونها قوة احتلال وفق بيان البرلمان العراقي الأخير.

توصية برلمانية عراقية مفصلة قُدمت على شكل خريطة طريق لرئيس الوزراء العراقي للتعامل مع تركيا في اتجاه إجبارها على سحب جنودها من العراق، آخرها التقدم بشكوى عاجلة الى مجلس الامن الدولي، فتردّ أنقرة قائلة إنّ قرار البرلمان التركي الاخير هو ليس قرار احتلال لأراضي الغير، بل هو تفويض للحكومة التركية بإرسال قوات مسلحة خارج البلاد، للقيام بعمليات عسكرية عند الضرورة، من أجل التصدي لأية هجمات محتملة قد تتعرض لها الدولة من أيّ تنظيمات إرهابية.

ما هي الاسباب والمعطيات التي دفعت رئيس الوزراء العراقي للتصعيد ضد تركيا على هذا النحو، ومن يمسك بيده ليصبّ الزيت فوق النار؟ هل هي واشنطن ام طهران ام انّ هناك لاعبين محليين واقليميين آخرين ؟ ام هي الارادة الوطنية العراقية حقاً الهادفة إلى اخراج تركيا حليفة مسعود البرزاني من المعادلة العراقية ؟

الاسئلة التركية في معركة الموصل هي حول ارتدادات المعركة على المشهد السياسي والامني العراقي وفراغ ما بعد داعش من وكيف سيملأه؟ وانعكاسات المعركة على المشهد الاقليمي وتوازناته؟

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قال إنّ تركيا ترى الموصل وشمال سوريا خطين مهمين لأمنها واستقرارها السياسي والاقتصادي، وانّ أنقرة ستبذل كافة جهودها لمساعدة الحكومة العراقية في دحر داعش من الموصل من خلال المساعدات اللوجستية والتدريب، كيف ستفعل تركيا ذلك والحكومة المركزية العراقية تستعد لتقديم شكوى ضدها في مجلس الأمن بسبب تواجدها العسكري في العراق ؟

أميركا تريد تركيا في سوريا رأس حربة للتحالف ضد داعش، لكنّها لا تريدها في الموصل تاركة الكرة في ملعب بغداد لتعلن هي ذلك. النظام في دمشق ايضاً يرفض التواجد التركي العسكري ويقول إنّ هذه القوات هي قوات احتلال، وهل ستدعم واشنطن الرئيس بشار الاسد في موقفه هذا كما تقول بعض الاقلام التركية الساخرة اليوم ؟

الغرابة أنّ واشنطن هي التي قدّمت الضمانات لتركيا بسحب الوحدات الكردية من غرب الفرات وتحديداً من مدينة منبج الى شرق النهر، وهي التي وقفت مراراً الى جانب أنقرة في حقها المشروع بالدفاع عن امنها المهدّد من قبل مجموعات حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، لكنّها هذه المرة «تحترم رغبة بغداد وقرارها في رفض إشراك تركيا في الحرب على تنظيم داعش وتسأل انقرة عن الناحية القانونية في تواجدها فوق الاراضي العراقية. مشكلة أنقرة أنّها تتحدى حليفها الاميركي في العراق وتغضبه وتستفزّه اكثر مع كلام تصعيدي يردده الرئيس التركي نفسه «لن نقبل أي سيناريو لا تشارك تركيا فيه».

لماذا تغامر تركيا بهذا الشكل في الموصل؟

ما تحذّر منه أنقرة وترفضه، رَدّده وزير الدفاع التركي فكري إشيق الذي قال إنّ احتمال نزوح مليون شخص من سكان الموصل نحو تركيا، مع بدء العملية العسكرية المرتقبة لتحرير المدينة هو أمر وارد، لذلك فإنّ عملية تحرير الموصل لها صلة بتركيا بشكل مباشر. لكن ما تطالب به تركيا وتعطيه الاولوية هو رفض إشراك عناصر تنظيمي «بي كا كا» و»ب ي د» في العملية المرتقبة لتحرير الموصل، وضرورة مشاركة سكان المنطقة الأصليين في العملية، لتجنّب حدوث تغييرات ديمغرافية كما تقول.

تركيا تريد ايضاً التذكير بحقوق التركمان ومصالحهم وضرورة عدم المساس ببنية مدينة تل عفر وتركيبتها العرقية والمذهبية وإنهاء التواجد العسكري لحزب العمّال الكردستاني في جبال قنديل، وكذلك قطع خطوط التواصل العسكري بين مجموعات العمال الكردستاني والوحدات الكردية السورية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي السوري، الى جانب عرقلة خطط مشروع الدولة الكردية الانفصالية عن تركيا والعراق وسوريا وايران.

المؤكد ايضاً أنّ ما يغضب انقرة الآن هو ما يصفه بعض المحللين الاتراك بالخديعة الاميركية التي تسلمت عبر مساعد وزير الخارجية الاميركي انطوني بلنكان خلال زيارته الاخيرة لتركيا 5 تحفظات على الخطة العسكرية ضدّ الموصل، وأبرزها قلق تركيا من احتمال عودة الحرب المذهبية بين التركمان، وتحذيرها من قيام حزام شيعي يخدم منظمة بي كا كا وينعش نظام الأسد، رفض منح حزب العمال الكردستاني وشريكه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي أيّ دور او نفوذ في العملية وضرورة تسليم الموصل إلى أصحابها الأصليين. حيث نقلت واشنطن الرسالة التركية ونصحت بغداد برفضها والتصعيد ضد أنقرة بدلاً من إيجاد صيغة توافقية تنهي التوتر التركي العراقي.

أنقرة تقول إنّ معركة الموصل هدفها المعلن هو إطاحة داعش، وهي مسألة متّفق عليها من قبل الجميع، لكنّ المشكلة ستكون بعد القضاء على داعش وخلال خلط الاوراق الذي سيبدأ مع تقاسم الارض والنفوذ وتركة داعش في الموصل. العراق هو الذي سيسترد زمام المبادرة اذا ما نجح في الاستفادة من الظروف والاجواء وخرج موحداً من هذه الخلطة، لكنّ الامور قد تتقدم نحو مشروع التقسيم والدويلات الثلاث في العراق.

الخطة التركية في معركة الموصل قد يكون بين اهدافها ايضاً العمل على المطالبة ببناء منطقة آمنة على النمط السوري في شمال العراق هذه المرة وفي منطقة جبال قنديل، وترك السلطة العراقية المركزية أمام مهمة توفير الضمانات الامنية الكفيلة بإنهاء التواجد العسكري لحزب العمال الكردستاني هناك.

دخول الولايات المتحدة الاميركية على خط الخلافات بين الأحزاب الكردية في شمال العراق بالتزامن مع انطلاق تظاهرات احتجاجية على تدهور الاوضاع المعيشية في الاقليم واللقاءات التي يجريها السفير الاميركي مع القيادات المعارضة لمسعود البرزاني، تلتقي كلها عند نقطة انزعاج أميركي من التقارب بين انقرة والزعيم الكردي، وأنّ مسألة «معاقبة» الجانبين لا بد منها بسبب إنهاء خلافاتهما وتفاهمهما في معركة الموصل من دون العودة الى ما تقوله الادارة الاميركية.

تركيا في شمالي سوريا والعراق تركت ادارة اوباما أمام مشكلة صعوبة قبولها كلاعب اساسي من قبل الفرقاء المحليين في الساحتين السورية والعراقية، وضَيّقت عليها الخناق في فرص لعب الورقة الكردية ضدها في سوريا والعراق وتصالحت مع روسيا من دون موافقة اميركية. لكنّ اميركا ايضاً حرمت أنقرة من لعب اكثر من ورقة في شمال سوريا، بينها تعطيل مشروع انطلاق العمليات ضد داعش هناك كما يحدث اليوم في شمال العراق وعرقلة مشروع المنطقة الآمنة في سوريا.

تحريك الحكومة العراقية المركزية لرفض التدخل التركي العسكري، التنسيق المباشر مع ايران في معركة الموصل وتقاسم الادوار على حساب تركيا ينبغي ان يؤخذ بعين الاعتبار ايضاً خلال مناقشة اهداف واشنطن في الرد على أنقرة. الغاية الاميركية الحقيقية هي ليست إخراج تركيا من المشهدين السوري والعراقي، بل توريطها أكثر فأكثر وتركها في مواجهة مفتوحة مع اللاعبين المحليين والاقليميين.

أنقرة تقول انها لو كانت قوات احتلال كما يقول البعض في العراق لكانت استغلّت اكثر من فرصة سانحة لها بسبب ضعف الحكومة المركزية في القضاء على خطر حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، ولكانت قبلت بالدعوة الاميركية في مشاركتها مشروع تفتيت العراق عام 2003. في العلن هي مواجهة تركية عراقية، لكنها وراء الستار هي مواجهة تركية اميركية سببها التقارب التركي الروسي في سوريا ولقطع الطريق على الزيارة المرتقبة للرئيس الروسي فلادمير بوتين لأنقرة.

حمّل الملك الأردني عبدالله الثاني، الولايات المتحدة الأميركية المسؤولية غير المباشرة عن الأزمة في العراق، بسبب دعمها السياسي والعسكري للأكراد والشيعة على حساب السنة، وقال العاهل الاردني: ما زلت أؤمن بأنّ المشكلة الأبرز فيها أنّ هناك دوراً للأكراد. وبحكم الواقع هناك دور رئيس للشيعة، أمّا ما لم يتم تأطيره بعد فهو دور للسُنّة، وهم لا يشعرون بأنّ لديهم مستقبلاً سياسياً، وبالتالي فقدوا الأمل.

ليس اردوغان وحده هو الذي يتحدث إذاً ؟

واشنطن ستفتح الطريق اكثر فأكثر امام ايران رداً على التقارب التركي الروسي الاخير. التفاهم الاميركي الايراني الجديد سينعكس حتماً في اربيل، حيث تتواصل عملية إسقاط مسعود البرزاني لمصلحة التحالف السياسي الجديد الذي يقوده حزب جلال الطالباني هناك.

لكنّ الخطر الحقيقي بالنسبة لتركيا سيكون في الموصل وجوارها باتجاه فرض الحالة الديموغرافية الجديدة التي تتعارض مع حسابات انقرة والقوى السنية في المنطقة باتجاه تكريس مشروع التقسيم في البلاد، الحلّ المتبقّي لإخراج العراق من محنته !

لا نعرف اذا ما كان كلام وزير الخارجية العراقي ابراهيم الجعفري حول الدور التركي في معركة الموصل وضرورة ان تنسّق انقرة مع السلطة السياسية المركزية في بغداد، اذا ما كانت تريد ان تكون جزءاً من عملية محاربة داعش، قد تراجع امام التصعيد الجديد بين انقرة وبغداد، لكنّ خط التهدئة لا بد ان يمرّ عبر تحرّك سياسي ودبلوماسي تركي عراقي سريع باتجاه الحلحلة.

الكرة في الملعب التركي هذه المرة للردّ على النقلة الاميركية الاخيرة في الموصل، التي أعلنت بوضوح أنّها ترفض المشاركة التركية في عملية تحرير المدينة وأخذ مطالبها وحساباتها بعين الاعتبار، أين وكيف ستكون؟ ربما الإجابة هي عند الرئيس الروسي فلادمير بوتين الذي جهّز حقيبته للسفر الى أنقرة.
 

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس