طاهر سعود - خاص ترك برس

كانت صدمة الأتراك مزدوجة بمحاولة الانقلاب العسكري الفاشلة التي شهدتها بلادهم منتصف تموز/ يوليو الماضي. فقد راعهم أن يظهر من داخل صفوف جيشهم الوطني خونة يتآمرون على وطنهم لمصلحة قوى خارجية. والصدمة الأخرى تولّدت بفعل كشف من الأولى؛ عندما وجدوا بأن (أصدقاءهم) و(حلفاءهم) الغربيين، وفي طليعتهم الولايات المتحدة الأمريكية، ما هم في الواقع سوى أعداء يكيدون لهم، ويتآمرون على وحدة وبقاء الدولة التركية. 

وقد تجلى انعكاس ذلك واضحًا في ردّ الفعل الغربي الرسمي تجاه الانقلاب الفاشل في تركيا. فحكومات دول الغرب تدّعي بأنها حكومات ديمقراطية، وترفض مبدأ الاستيلاء على السلطة بواسطة الانقلابات العسكرية.

وبالتالي فقد كان لزامًا عليها من هذا المنطلق إدانة المحاولة الانقلابية في تركيا، خصوصًا بعد فشلها. لكن تلك الإدانة أتت متأخرة، وبعبارات باهتة وملتبسة؛ تحمل في إشاراتها من مشاعر الانزعاج على فشلها أكثر مما تتضمّنه من معاني الغضب على حدوثها. ويدعّم هذا الاستنتاج تلك الضغوطات الوقحة التي مارسها المسؤولون والإعلام في الغرب ضد حكومة أنقرة لعرقلة عملها في ملاحقة وتعقّب الانقلابيين تحت ذرائع التزام معايير القانون، واحترام حقوق الإنسان؛ دون أن يصدر عن الأتراك ما يؤكد خرقهم لتلك المبادئ الراسخة لديهم.

وتبع ذلك حملات ابتزاز رخيصة من قبل المسؤولين الأوروبيين؛ هددوا فيه أنقرة بأن ما تتخذه من إجراءات ضد الانقلابيين سيشكل مانعًا لها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وتحدث بعضهم صراحة بأن لا مكان لتركيا في هذا الاتحاد، أو على الأقل لن يتمّ ذلك في عهد الرئيس أردوغان، كما أكد آخرون منهم. وكذلك علت أصوات من داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) تطالب بطرد تركيا من ذلك الحلف، عقاباً لها على محاولة تطهير جيشها من الانقلابيين. رغم أنها من الأعضاء المؤسسين فيه، والقوة الأهم في هذا الحلف العسكري بعد الولايات المتحدة الأمريكية.

ومن جهتها الحكومة الألمانية، التي تحتضن على أراضيها، وتدعم رسميَا منظمات كردية إرهابية تستهدف المدنيين في تركيا؛ قد منعت كلمة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان ينوي توجيهها إلى حشدّ من المناصرين تظاهروا في ألمانيا للتنديد بمحاولة الانقلاب العسكري الفاشلة التي شهدتها تركيا في الخامس عشر من تموز الماضي.

والمؤسف أكثر أن انتقادات بعض القادة والمسؤولين الأوروبيون، وخاصة النمساويين منهم لأنقرة؛ قد حفلت بعبارات عنصرية، لم تخلو من ثقافة نازية كريهة. والواضح أن آثار تلك الثقافة الشاذة لا تزال إلى اليوم متأصلة في سلوك بعض القادة الأوروبيين. كل ذلك من أجل حماية الانقلابيين، ومنع ملاحقتهم ومحاكمتهم على جرائمهم بحق شعبهم، والديمقراطية في بلدهم...

وعقب المحاولة الانقلابية الفاشلة، أحجم المسؤولون الغربيون عن زيارة أنقرة لفترة من الزمن دون سبب مقنع. إذ كان الواجب يفرض عليهم كحلفاء وشركاء للأتراك تكثيف زياراتهم لها في ذلك التوقيت بالذات؛ للإعراب عن دعمهم لحكومتها الديمقراطية، والتضامن مع الشعب التركي الذي واجه ببسالة منقطعة النظير تلك المؤامرة وأفشلها.

لكنهم على ما يبدو لم يستطيعوا التغلب على مشاعر الصدمة وخيبة الأمل المتولدة لديهم من جراء إفشال تلك المحاولة الانقلابية. والواضح بجلاء أنهم كانوا يعوّلون عليها كثيراا لإحداث تغييرات عاصفة داخل الدولة والمجتمع في تركيا تطيح بالنظام الديمقراطي الناضج في هذا البلد الإسلامي الكبير، وتعيده إلى زمن الحكم العسكري الاستبدادي ثانية، وتضع حدًا لتطوره المتسارع، الذي جعل منه اليوم قوة عالمية منافسة بين الكبار...

وحتى عندما عاد المسؤولون الغربيون واستأنفوا زياراتهم مجددًا لأنقرة؛ كان الغرض منها ممارسة المزيد من الضغوط عن قرب على الحكومة التركية لدفعها إلى إطلاق سراح المعتقلين المتورّطين بأحداث الخامس عشر من تموز بمن فيهم قادة عسكريون مشاركون فيها مباشرة؛ وهم بذلك إنما يسعون لإنقاذ أدواتهم داخل تركيا. فحملة تطهير بعض مؤسسات الدولة من الانقلابيين التي نفذتها السلطات التركية؛ قد آلمت كثيرًا من يستخدمهم في الغرب، وأفقدت أولئك المحركين لهم القوة القادرة على تفجير الدولة التركية من داخلها.

لقد قدّم المسؤولون الغربيون بسلوكهم تجاه المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا؛ فائضًا من قرائن الإثبات الدامغة، التي تفضح حقيقة تورّطهم المباشر فيها. يضاف إليه التواطؤ السافر لوسائل إعلامهم مع الانقلابيين، وانحيازها الصريح لصفّهم. فقد تعمّدت نقل صورة مشوهة ومضللة للرأي العام العالمي عمّا كان يجري من أحداث على أرض الواقع في تركيا. إذ تجاهلت تمامًا العنف المرتكب من قبل الانقلابيين ضد المدنيين؛ فلم تظهر صور دباباتهم وهي تحتل شوارع العاصمة أنقرة ومدينة اسطنبول، وتطلق النار عشوائيًا على المدنيين فيها.

ولم تبال بالدمار الواسع الذي أحدثوه بمؤسسات الدولة, ولا بقصف طائراتهم لمبنى (البرلمان) أثناء تواجد أعضائه داخله، ولمراكز الأمن والشرطة... وإنما ركزت فقط على إجراءات الحكومة المتخذة بحق الانقلابيين؛ مصورة الأمر على أنه اعتداء من قبلها على الحريات العامة وحقوق الإنسان في البلاد. لقد حوّلت وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية الجاني في أحداث الخامس عشر من تموز إلى (ضحيّة)...

ويعكس الفتور الظاهر اليوم في العلاقات التركية ـ الأمريكية وجود أزمة صامتة وعميقة بين الجانبين، أساسها اكتشاف الأتراك بأن انقلاب تموز الفاشل؛ إنما كان من تدبير (حلفائهم) الأمريكيين. الذين يتمنعون الآن عن الاستجابة لمطالب الحكومة التركية بتسليمها (الداعيّة) فتح الله غولن، زعيم تنظيم (الكيان الموازي)، المتهم من قبل أنقرة بتنفيذ محاولة الانقلاب الفاشلة، والمقيم حاليًا في الولايات المتحدة الأمريكية. ورغم تقديم السلطات التركية كل ما يلزم لواشنطن من أدلة كافية تثبت تورط الرجل بالمحاولة الانقلابية. يصرّ المسؤولون الأمريكيون على التهرّب من تسليمه متذرعين بالإجراءات القانونية المعقدة في هذا الشأن داخل الولايات المتحدة.. وحقيقة الأمر أن السلطات الأمريكية لا تستطيع تسليم عميلها غولن، وتمكين الأتراك من التحقيق معه؛ لسبب بسيط وهو لو أنها فعلت ذلك فستكون بهذا قد قدّمت دليل إدانتها المادي بنفسها، الذي يفضح حقيقة تورّطها رسمياا بالمحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا.

إن ما يجري الآن في منطقة الشرق الأوسط من حروب وصراعات أهلية، وإسقاط دول في سوريا والعراق وليبيا واليمن؛ إنما هو تطبيق عملي لمخطط تقسيم وضعه لها الأمريكيون قبل سنوات عديدة، وتشارك فيه اليوم كل من روسيا وإيران وبعض دول أوروبا الغربية كأدوات تنفيذية. ولا شك في أن لأحداث تموز في تركيا صلة مباشرة بهذا المخطط الخطير؛ كونها من بين الدول المستهدفة به. فما حققه الأتراك خلال السنوات الأخيرة لبلادهم من نجاحات اقتصادية وسياسية مبهرة؛ قد جعل منها قوة عالمية مرموقة.

وهو ما أثار حسدّ بعض القوى الإقليمية والدولية؛ أبرزها تلك المساهمة اليوم بمشروع تفتيت دول المنطقة هذا. فالغرب قد أعلن فعليًا حربه السريّة القذرة ضد تركيا؛ باعتبارها قوة اعتدال إسلامية مؤهلة لقيادة العالم الإسلامي والنهوض به، ليصبح قوة سياسية واقتصادية عظمى. ويرى هذا الغرب أن من مصلحته أن يكون في خصام مع الإسلام؛ فاستمرار هيمنته على العالم يتطلب وجود عدو له، يقنع الآخرين بخطره عليهم، ويأخذ هو على عاتقه مهمة مواجهته. وقد اختار الإسلام ليكون هو هذا العدو المفترض. بعد أن كانت الشيوعية في السابق، وقبلها النازية.

فالإسلام نواة قوة مستقبلية، يخشى الغرب إن نمتّ أن تضعف من هيمنته على العالم، وتحل مكانه. ولضمان ألا يحدث ذلك يعمل الغربيون على محاولة شيطنة هذا الدين الواسع الانتشار، ويجندون لذلك وسائل إعلامهم المختلفة. وقد صنّعوا لتلك الغاية تنظيمات إرهابية؛ مثل (داعش)، إضافة إلى (القاعدة)... واعتبروها تمثّل الإسلام، ودفعوا بها لارتكاب أبشع الجرائم وأشنعها بحق المدنيين الأبرياء؛ كقطع رؤوس الضحايا بالمدّى، واختطاف واغتصاب النساء والأطفال، واستعبادهم، وبيعهم في أسواق نخاسة حقيقية... ونسب كل تلك الأفعال الوحشية للإسلام؛ كي يغرسوا في عقول الناس، وخاصة لدى شعوبهم، فكرة أن هذا الدين هو دين (إرهاب) يجب استئصاله.

ولكون تركيا تقدّم للعالم بما تمثّله من قيم أخلاقية وحضارية النموذج الذي يدحض افتراءاتهم بحق الإسلام، وتعطي صورة تناقض كلياً ما يروّجون له من أكاذيب عن هذا الدين، الذي يقدّس في حقيقته حياة وحرية الإنسان، ويدعو لنشر المحبّة والسلام بين البشر؛ لهذا غدت تركيا هدفاً لتآمر حكومات دول الغرب ومكائدها. فالغربيون لا يريدون وجود بلد إسلامي ديمقراطي كتركيا. وهذا كان دافعهم الأساس من وراء دعمهم للانقلاب العسكري الفاشل فيها. إذ كانوا يأملون في أن تحدث المحاولة الانقلابية الفاشلة صراعًا فيما بين الانقلابيين العسكر والشعب المدافع عن ديمقراطيته؛ يغرق تركيا بالعنف، والفوضى المفضية بها إلى التفكك.

عن الكاتب

طاهر سعود

رسام كاريكاتور وكاتب سياسي سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس