إكرم بوغرا إيكينجي - ديلي صباح - ترجمة وتحرير ارك برس

أدرك العثمانيون أهمية السكك الحديدية منذ البداية. ومثلما استوعبت المخترعات الحديثة مثل التلغراف والترام بسهولة بدأت أنحاء الإمبراطورية ترتبط ببعضها من خلال السكك الحديدية. أمر السلطان عبد الحميد الثاني بإنشاء خط سكك حديدية يربط إسطنبول بالحجاز،على أن يؤخذ أولا بآراء رجال الدولة البارزين.

الرحلة إلى الحجاز أسهل

ببناء هذا الخط فإن سلامة الأراضي العثمانية مثل اليمن ستكون مضمونة، كما أن نقل القوات سيكون أسهل. وفي الواقع كان خط السكك الحديدية في روملي ( أراضي الدولة العثمانية الواقعة في أوروبا) مفيدا في بعض المعارك، فبناء خط سكك حديد الحجاز سيمكن الدولة من اتخاذ التدابير الأمنية الاحتياطية ضد بريطانيا التي سبق أن غزت مصر، كما أن أراضي الجوار التي سيمر بها خط السكك الحديدية ستتطور اقتصاديا، والأهم أن خط السكك الحديدية سييسر تنقلات الحجاج. في ذلك الوقت كان الحجاج لا يتوجهون من إسطنبول إلى المدينة إلا عبر قوافل في رحلة ممتلئة بالمتاعب تستغرق شهرين، كما كان هناك خطر وقوع اعتداءات من البدو خلال الرحلة.

قرر السلطان العثماني الذي رأى أن تأكيد الوحدة الإسلامية ونفوذ الخلافة أمر ضروري، بناء خط السكك الحديدية من إسطنبول إلى الحجاز حتى لو كان الأمر صعبا ومكلفا. قوبل القرار بفرح في العالم الإسلامي، ومن ناحية أخرى نظر إليه الأوروبيون على أنه مشروع يستحيل تحقيقه. كيف يمكن إيجاد المال اللازم لبناء السكك الحديدية في وقت كانت فيه الإمبراطورية تمر بمرحلة صعبة؟ قدرت التكلفة الإجمالية للمشروع بأربعة ملايين ليرة عثمانية ( أي قرابة 570 كيلو من الذهب ) وهو مبلغ يقترب من خمس ميزانية الدولة العثمانية في ذلك الوقت. لم تكن الخسائر المالية للحرب الروسية التركية 1877-1878 قد انتهت بعد، كما كانت الإمبراطورية العثمانية تدفع تعويضات عن الحرب لروسيا. كانت الإمبراطورية تعاني عجزا في موازنتها، ولم تتمكن من دفع رواتب موظفي الدولة في وقتها. لكن من ناحية أخرى كان بناء خط سكك حديد بغداد الذي تعاقدت عليه مع الألمان مستمرا، وبدأت حملة في أنحاء البلاد جميعها  لجمع التبرعات. ومن الجدير بالذكر أن السلطان العثماني والأسرة الحاكمة ورجال الدولة البارزين وحتى أبناء الشعب تبرعوا بمبالغ كبيرة، لكن كان من الواضح أن التبرعات لن تكفي لبناء السكك الحديدية.

وعندئذ فقط جاء الإنقاذ من العالم الإسلامي، حيث بدأ المسلمون الذين يعيشون خارج الأراضي العثمانية في تقديم تبرعات مالية كبيرة من خلال القنصليات العثمانية، وتسابقت الأمة الإسلامية في التبرع لهذا المشروع من المغرب إلى مصر ومن الهند وجنوب أفريقيا إلى كازان عاصمة جمهورية تتارستان الحالية، وقد كانت جميعها محتلة من قبل الأوروبيين، وتبرع خديوي مصر، وشاه إيران ونظام الملك في الهند. تحولت حملة التبرع إلى مشروع فريد للوحدة الإسلامية والولاء للخلافة، فجاءت التبرعات حتى من أوروبا. وصنعت ميداليات منحت للمتبرعين من أجل المشروع.

أرخص مما كان مخططا له

تأسست لجنة من قبل السلطان لبناء خط السكك الحيدية، واستوردت بعض مواد التشييد من أوروبا والولايات المتحدة، وشارك آلاف الجنود وعمال البناء المحليون والمهندسون والفنيون العثمانيون في تصميم المشروع. بدأ بناء سكك حديد الحجاز الذي يربط إسطنبول بمكة المكرمة والمدينة المنورة واليمن عبر دمشق، في دمشق عام 1900 ، وبعد أربع سنوات انتهي من تشييد 460 كم من الخط الذي صل إلى مدينة معان في الأردن. كان الخط يرتبط أيضا بالبحر المتوسط عبر مدينة حيفا. بنيت آلاف الجسور والقنوات والبحيرات والأنفاق والتجمعات الصناعية والمستودعات والمصافي ومساكن للعمال ومشافي وخزانات للمياه ومحطات للسكك الحديدية في كل مدينة.

وفي النهاية وصلت سكة حديد الحجاز إلى المدينة المنورة وافتتحت بحفل في عام 1908، وكلف الخط الذي بلغ طوله 1464 كيلو مترا ثلاثة ملايين ليرة عثمانية ( قرابة 430 كيلو غرام من الذهب) وكان هذا المبلغ أقل بكثير من تكلفة خطوط السكك الحديدية الأخرى التي بنتها الشركات الأوروبية في أراضي الدولة العثمانية.

انطلقت الرحلة الأولى على خط سكك حديد الحجاز يوم السابع والعشرين من أغسطس/آب، وتوجه القطار الذي استقله بعض الضيوف من إسطنبول إلى دمشق ومنها إلى المدنية المنورة. وإلى جانب مندوب الدولة العثمانية استقل القطار صحفيون محليون وأجانب. كان القطار عبارة عن عربة كبيرة تمثل ردهة للقطار، وثلاث عربات للركاب، وعربة رابعة مخصصة للصلاة. كان القطار يسير بسرعة تتراوح بين 40-60 كم في الساعة، وهو ما يعد معدلا جيدا للغاية في ذلك الوقت، ولم يكن القطار يتوقف إلا للصلاة والتزود بالوقود، فبينما كان الركاب يؤدون الصلاة في الصحراء، كانت الجمال تجلب المياه إلى القطار الذي وصل بعد ثلاثة أيام إلى المدنية المنورة.

بعد افتتاح سكة حديد الحجاز بدأ تبادل البضائع وانتقال الركاب يوميا بين حيفا ودمشق ، وعلى مدى ثلاثة أيام بين دمشق والمدينة المنورة. وفي موسم الحج خصصت ثلاث قطارات للخدمة بين دمشق والمدينة حتى نهاية شهر صفر، وخلال الموسم كانت تذكرة سفر الذهاب فقط كافية لرحلة الذهاب والعودة . كانت الرحلة بين دمشق والمدينة التي تستغرق 40 يوما على ظهور الجمال تستغرق بالقطار ثلاثة أيام فقط. رتبت مواعيد مغادرة القطارات وفقا لمواقيت الصلاة، كما خصصت عربة كاملة في القطار لأداء الصلاة، وكان هناك مؤذن للإعلام بالصلاة . وفي المواسم الدينية والمولد النبوي قدمت للمسافرين رحلات أرخص إلى المدينة المنورة، كما خصصت عربة للعائلات للسفر بأريحية.

عندما انتهى تشييد سكة حديد الحجاز، عين البدو لحمايتها، وأدرجوا في جدول الرواتب، كما درب كثير من الفنيين من أجل الصيانة. نالت الإمبراطورية العثمانية والخليفة احتراما كبيرا، وتجددت ثقة المسلمين بأنفسهم. طلب مسلمو الهند تمديد سكك حديد الحجاز إلى الهند عبر بغداد، وأعلنوا استعدادهم للقيام بدورهم في بناء الخط الجديد.

عندما وصلت حركة تركيا الفتاة أو الشباب الأتراك إلى السلطة عام 1908 غير اسم السكك الحديدية من خط الحميدية – الحجاز إلى سكك حديد الحجاز، كما عهد إلى وزارة الحرب بإدارته. بدأ إرسال كتيبة المشاة البريطانية ساري الشرق عبر سكة حديد الحجاز. ونتيجة لنقل البضائع تطورت المناطق التي يمر بها خط السكك الحديدية اقتصاديا، وفي الوقت نفسه بلغ طول السكك الحديدية 1900 كيلو مترا بعد تشييد الطرق الفرعية. أخفقت خطة تمديد الخط إلى مكة واليمن وبغداد أيضا. شعر البريطانيون والفرنسيون بالقلق الشديد مع تشييد هذا الخط، حيث بدأت تهب رياح الحرب.

خلال الحرب العالمية الأولى استخدمت سكة حديد الحجاز في نقل القوات العسكرية، وبفضل هذا الخط حافظت المدينة على تواصلها مع إسطنبول، وقاومت حتى عام 1919، وكانت آخر رحلة على خط سكك حديد الحجاز لجلب الآثار الإسلامية المقدسة من المدينة المنورة. ومع توقيع الهدنة في عام 1918 فقدت الإمبراطورية العثمانية السيطرة على معظم أجزاء الخط، وبعد سقوط الجبهة السورية قصف البريطانيون الخط حتى خربوه، والأدهى من ذلك أن الجاسوس المعروف لورانس أعطى قطعة من الذهب لقطاع الطرق البدو على كل قضيب أو فلنك يفكك ويدمر على السكك الحديدية من معان إلى المدينة المنورة.

عندما أنشئت محطة المدينة المنورة، غطيت كافة المطارق بقطعة قماش من اللباد احتراما لحرمة النبي محمد، كما غطيت عجلات القطار بالقماش نفسه. بعض القضبان المتبقية من الفترة العثمانية والموجودة في الأردن كتب عليها " هذا من خير أمير المؤمنين السلطان عبد الحميد خان الغازي أعزه الله ونصره". حظي الخليفة بالبركة بوجود اسمه على القضبان التي سافر عليها الحجاج.

لا يزال خط الحجاز مستخدما في سوريا والأردن، وتعمل الحكومة السعودية على إحيائه مرة أخرى. يمتد الخط بطول 452 كيلو مترا داخل الأردن، ويمر قطاران أحدهما للبضائع والآخر للركاب بمدن المفرق والزرقا وعمان وجيزة والقطرانة ومعان.

وبالإضافة إلى محطات القطار  المقامة لخط سكك الحجاز في العصر العثماني لا تزال قطارات الضواحي مستخدمة من عمان إلى الزرقا، وزينت عربات القطار بصور دينية وتاريخية ومواقع سياحية من القدس ودمشق والحجاز . كتب على إحدى لوحات القطار بالتركية العثمانية " ممنوع التدلي خارج القطار" . 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس