د. عامر البوسلامة - خاص ترك برس

لعب العثمانيون دورًا كبيرًا، في ترسيخ قيم الإسلام، وقاموا بمهمة جسيمة، في تثبيت سلطان الأمة، من خلال تمسكهم بالمنهج الإسلامي، الذي كان عماد فكرة قيام الدولة وركيزتها الأساس.

وجهودهم في هذا المضمار، متعددة ومتشعبة ومتنوعة، وقاموا بأدوار رائدة، في خدمة الإسلام والمسلمين، وثبتوا شهود الحضارة الإسلامية، من خلال معالم، كان لها حضورها الفاعل، داخليًا وعالميًا، كما أنهم عاشوا واقعهم، وفقهوا مستلزمات ذلك، بصورة تنافسية، قلَ نظيرها في عالم سباق الحضارات، خصوصًا مع وجود التحديات، وبالذات منها، التحديات العقدية، وهذا يدخل في عوالم كثيرة، منها الداخلي، وهم أصناف كثر، ومنهم الخارجي، وهم أشكال وألوان، ربما يعسر حصر الفاعلين فيها.

وقد كتب عن هذا علماء ومفكرون، من الشرق والغرب، وبسطوا الحديث عن هذا التاريخ اللاحب (تاريخ الدولة العثمانية) والذي يعج بحقائق ما ذكرنا، ويطفح بآثار ما أشرنا له آنفًا.

وفي هذا المقال، لن أتعرض لهذا الموضوع بهذا الحجم الكبير، فهذا  له مجاله ومساحات الحديث عنه، ولكني سأقف على حقيقة من حقائق الأداء الرائد لهذا المعنى الذي ندندن حوله.

وحتى لا يختلط الأمر هنا، لا بد من التنويه، على أني لست بصدد الكلام عن مكتوبات التراث العثماني ومخطوطاته، رغم أهميتها، وضرورة الكتابة عنها، فهذا ليس هدفًا لي من كتابة هذه الأسطر، فهذا أيضًا له مجاله المفتوح، وأصوله العميقة التي تستحق البحث والعناية والاهتمام.

ولكني هنا سأتكلم عن المقولات العقدية المنقوشة، أو المكتوبة، على جدران ما خلفه التراث العثماني من روائع، وما تركوا لنا من نوادر الإبداع، ليس في الشكل فقط، وليس في جمال المنظر فحسب – رغم وجود كل هذا فيه – ولكني هنا أهتم بالمضمون الذي هو الأساس، في ترسيخ هذه القيم، وحفرها في ذاكرة أبناء الأمة وعقولها، قبل حفرها ونقشها ورسمها على جدران، ورخاميات، وجماليات صورية، تترك في ذاكرة الذائقة، كثيراً من معاني الحس المرهف، والذوق الرفيع، والفن الجميل الأخاذ، برونقه البديع، وإيقاعاته المدهشة.

هذه المنقوشات، قد تبدوا لأول وهلة، ودون النظر العميق، في المدلول والنواتج، قضايا بدهية، خصوصًا إذا غطى جانب الجمال الظاهر، على المعنى العميق المراد، بفعل قصر النظر، أو سطحية الانبهار، أو التعلق بظاهر الابداع، من حيث هو فن من الفنون.

فتجد ذلك في آيات قرآنية منتقاة، تم اختيارها بعناية فائقة، لتثبيت معنى من المعاني، التي تمثل ثابتاً من ثوابت الدين، أو مفهوماً من المفاهيم التي لا يجوز أن يغفلها المسلم، بدليله القرآني، تذكرة وتبصرة، وربما وجدت قضايا مهمة، لها تاريخها الرائد التالد، ولها بعدها الرباني، وقد تقف على بعض حكم العلماء، وفائد النابهين من أهل العلم والفقه في الدين، مع احتمالية القيام بواجب الدعوة، في نفس هذا المبتكر لهذا العمل، بحيث إذا قرأ هذه المكتوبات من غير المسلمين أحد، ربما دله ذلك على اعتناق الإسلام، كمن يرى نقوشًا كثيرة، بخطوط متنوعة، وأشكال مختلفة، ونوادر فنية عجيبة، وقد كتب عليها مثلاً كلمة التوحيد، وسطر الشهادتين (لا إله إلا الله محمد رسول الله).

أما الظاهرة الأكثر بروزًا في معنى ما نذكر، وهي قضية تظهر بصورة مطردة، لا يكاد يخلوا مسجد منها ، كتابة أسماء الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم وأرضاهم – وقد يضاف لها أسماء باقي الستة الذين هم تمام العشرة المبشرة.

وهذا فيه تثبيت لعقيدة الأمة، في فضل أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – وفي المقدمة منهم الخلفاء الراشدون، والستة الذين هم تمام العشرة المبشرة، وعدم جواز النيل منهم بسوء، بل إن حبهم إيمان، وإن بغضبهم نفاق، وعلى المسلم أن يحب هؤلاء الأعلام من خير القرون، لما لهم من فضل عظيم، وبركات موفورة، وجهود مبرورة، وصفحات بيضاء، هم الذين ساندوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهم الذين آووا ونصروا، وجاهدوا في سبيل الله تعالى، وهم من نقل لنا القرآن الكريم، وحفظوا سنة نبينا، ونشروا الدعوة في ربوع الدنيا، والله تعالى أثنى عليهم، ونبينا – صلى الله عليه وسلم – أوصى بهم، وبالخير ذكرهم، هم قادة الأمة ونباريس الهداية، ومشاعل الربانية، ونقلة الدين.

قال الطحاوي - رحمه الله تعالى - في عقيدته ذائعة الصيت: "ونحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و لا نُفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم، وبغير الحق يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"، انتهى.

وقد كان العثمانيون، يدركون أهمية هذا الجانب، بحكم فقه الواقع، ونظرهم الثاقب في أمور السياسة، والمعرفة الكاملة بالتحديات التي تواجه عقائد الأمة في هذا الجانب، وقد يكون هذا الأمر من باب التربية الوقائية، وكذا من باب استشراف المستقبل، والله أعلم.

وجاءت الأدلة متظافرة، في معنى فضائل هؤلاء الصحابة الكرام، من ذلك قوله تعالى:

(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) الفتح/29

وقوله سبحانه وتعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) الفتح/18

قال ابن كثير رحمه الله في "تفسير القرآن العظيم" (4/243): "فعلم ما في قلوبهم: أي: من الصدق والوفاء والسمع والطاعة"، انتهى.

وما أحسن ما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة؛ أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة؛ أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"، رواه ابن عبد البر في الجامع، رقم (1810).

وقول سبحانه وتعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة/100.

وجاءت الأحاديث المؤكدة بالوصية بهم، وعدم النيل منهم ، وبيان فضلهم، ومن ذلك : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تَسُبُّوا أَصحَابِي؛ فَوَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أَنَّ أَحَدَكُم أَنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدرَكَ مُدَّ أَحَدِهِم وَلا نَصِيفَهُ)، رواه البخاري (3673) ومسلم (2540).

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خَيرُ النَّاسِ قَرنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم)، رواه البخاري (2652) ومسلم (2533).

ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد – صلى الله عليه وسلم - فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئا فهو عند الله سيئ"، انتهى.

رواه أحمد في "المسند" (1/379) وقال العلماء أهل الاختصاص: إسناده حسن.

ها نحن اليوم، نجد حملة غير مسبوقة على أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبعض أزواجه، حيث فضائيات تبث، شتامة لعانة طعانة سبابة، وآلة إعلامية لا تكاد تتوقف، ولا هم لها إلا النيل من هؤلاء الأصحاب الكرام، والزوجات الطاهرات، كتب تؤلف، ونشرات يبذل لها المال، ومدارس تدعم، ومحاضن سوء، تلقن وتنشأ الأجيال على بغض هذا الجيل الرباني الفريد، جيل الصحابة الكرام – رضي الله عنهم جميعًا – ورحم الله العثمانيين الذين كانوا سببًا من أسباب، ترسيخ قيمة حب الصحابة الكرام، والتأكيد على تربية كل مسلم على ثقافة نفاق من كره هؤلاء الصحابة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس