سليم الحكيمي - خاص ترك برس

تفخر نُخب بانتصار بشار في حلب ببنادق الروس والمجوس، متناسين أن عدد سكان المدينة 400 ألف، بينما لا يتجاوز عدد المقاتلين عشرات الآلاف، أي 5% من السكان مما يعني أن ما وقع هو تهجير شعب من أرضه وليس انتصارا بل هزيمة للمعتدي. الأصوات نفسها رددت أن الثورة السورية كانت مؤامرة ضد النظام. متناسية أن تقرير منظمة "الإسكوا"  لسنة 2007 أشار إلى أن سوريا هو البلد المرشح للثورة لأنه يعيش أسوأ وضع  اقتصادي عربي تحت نير نظام مافيوزي استبدادي. اندلعت الثورة كغيرها من ثورات الربيع العربي، ليخوض بشار أطول حرب في تاريخه ضد شعبه، مطبقا مقولة ماهر الأسد، الذي قال فيه: "تسلم حافظ الأسد سوريا بـ7 ملايين سنة 1970 وسنعيدها بعدد السكان نفسه".

للتاريخ، حصيلة صراع البعث في سوريا 600 إسرائيلي في 60 عاما، بينما سُفك دم 500 ألف سوري في 5 سنوات، 1.9 ومليون جريح و23 مليون مهجر. ذريعة القتل هي مقاومة الإرهاب مغازلة للغرب وتعمية عن حقيقة المعركة. 6 أشهر كاملة في عمر الثورة السوية التي بدأت من الجامع الأموي بدمشق في شهر آذار/ مارس 2011، لم تطلق فيها رصاصة واحدة من المتظاهرين. ولم يتكون الجيش السوري الحر إلا في 29 تموز/ يوليو 2011. وأول المنشقين عنه كانوا في إقليم هاتاي في تركيا. وعند تأسيسه، كان عدد الشهداء قد بلغ 2380، ليقوم بأول عملية في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2011 حين بلغ عدد الشهداء 4575 شهيد.

لفهم لعبة ما يفعله نظام الأسد مع الإرهاب نسوق الحقائق التالية:

أغلب التنظيمات الإرهابية هي بإنشاء نظام الأسد ونوري المالكي، إذ تم تسريح المئات من السجون السورية والعراقية: 550 تكفيري من سجون المالكي في العراق و350 من سجون "العَقرا". بينما أشرف نظام الأسد على استقدام  المتطوعين العرب بعد احتلال العراق ودربهم وسلحهم ثم أرسلهم إلى العراق. وأكثر الأعمال افتضاحا هي تسريحه اليساري شاكر العبسي سنة 2007 من سجن حلب المركزي، حين قدم من سوريا واستقر في مخيم النهر البارد، مع مجموعة من فصيل الجبهة الشعبية - القيادة العامة، ليكوّن  تنظيم «فتح الإسلام» ويدمر معظم منازل المخيم والقرى المجاورة. تشير المعطيات إلى تسليم الموصل بكل ما فيها لداعش من قبل نظام المالكي لينهزم 40 ألف مقاتل عراقي من جيش المالكي امام 700 مقاتل من داعش، تاركين سلاحا أمريكيا بقيمة 1 مليار، و1.5 مليار دولار في البنك المركزي. وكانت غاية العملية إنشاء العصب التنظيمي للروابط التي ستشكل قوة داعش، والحصول على ذريعة تطهير المدينة من السُّنة بنثر النصرة وداعش فيها. أما لوجستيا، فقد أعلنت شركة شرك "تويوتا" اليابانية بيعها 10 آلاف سيارة لنوري المالكي في العراق سُلمت منهما 6 آلاف سيارة لداعش والحشد الشعبي أو ما يعرف بقوات (جحش).

المستفيد الأول مما يجري في سورية هي إيران التي تحررت من أسار العزلة الذي أراده الغرب ضدها، وقادت ميليشيات من لبنان والعراق في المعركة على الأرض. لتقود انتقاما طائفيا نادر الطراز باعتراف الأمم المتحدة في تقريرها قبل أيام. ورأت في انتصارها على المعارضة هزيمة لغريمتها السعودية الداعمة للثوار. اشترت عقارات في دمشق وحول مقام السيدة زينب، وتسيطر على مواقع من "القصير" إلى "دارّيا". قيمة حلب ثانية المدائن السورية، هو وجودها على مفترقي الطريق في المشروع الإيراني التوسعي لبناء ممر على البحر الأبيض المتوسط. وستتحول حلب إلى مركز طهران في المشروع الجيوستراتيجي لإيران. ولهذا تشتد استماتة حزب الله في قتال المعارضة في الزبداني لما لها من أهمية استراتيجية حيث تقع على مقربة من الحدود اللبنانية ويعتبرها مقرا له ومركزا في ريف دمشق. والخطة الإيرانية في المنطقة هي تغيير ديمغرافي كامل الأركان: تدعيش السنة في الأنبار بالعراق بعد أن اتفقت مع أمريكا على إسقاط إياد علاوي بالقوة رغم أنه الرئيس المنتخب. ورفض وجود أي سني في الطريق بين لبنان ودمشق، وتهجير سكان حلب بادعاء أنها موئل الإرهاب. رغم أنه على الأرض لا يوجد أي عنصر داعشي  بالمدينة. الخطة السورية هي وسم كل المعارضين بالإرهابيين والقاعدة وداعش، فإن لم تكن مع بشار فأنت إذن متطرف داعشي قاعدي لتبرير عملية سحق الإنسانية.

وقع الاتفاق الروسي التركي الأخير لوقف إطلاق النار منهيا 6 أعوام من القتال، ولكنه تغير 4 مرات في 24 ساعة بسبب تعنت المفاوض الإيراني. تم إحراق الحافلات التي ستقل النازحين من قبل مليشيات "حزب الله" وجزء من الحكومة والميليشيات الإيرانية والعراقية التي منعت خروج الناس من حلب الشرقية إلى منطقة الراشدية ليقضي الناس ليلتهم في الشوارع  في درجة حرارة تصل إلى التجمد. الشعور بالقوة لدى إيران هو السبب، فهي ترى نفسها المنتصرة بتهجيرها شعب 80% من سكانه سُنة و20% علويون، ولا أحد قادر على مواجهتها، وتلجأ إلى العنف المفرط حتى لا يفكر طرف في مواجهتها في المستقبل. وترسل رسالة للجميع مفادها أن كل من سيعترض سبيلها سيلاقي المصير نفسه، وهو تكتيك اعتمدته سابقا في  الحرب مع العراق 1980-1986 وجهت فيها رسالة إلى العالم  بأن المعركة معها مستنقع حربي آسن ومُنهك. عرف التاريخ إحباط الأقليات ولكنه لم يعرف إحباط الأغلبية وهو ما تحاول إيران رسمه ذهنيا، والنتيجة هي قلب المعادلة شعرت فيها الغالبية السنية بخطر الوجود أصلا، ضُرب معها الإسلام السني المعتدل في حلب وريف دمشق. أنشبت إيران أظفارها في الجغرافيا السورية، ومشروع أنابيب الغاز من قطر عبر السعودية فتركيا باتجاه أوروبا، يجهض مشروع أنابيب الغاز الذي تريده إيران من أرضها عبر العراق وسوريا ثم البحر المتوسط.

أما الموقف الروسي، فهو مبني على أن سوريا هي حليف روسيا الوحيد في الشرق الأوسط، أمّنت من خلال تدخلها هنالك سنة 2014، قاعدتها العسكرية الوحيدة في ميناء طرطوس. اجتهد خلالها بوتين إعادة التاثير الروسي بالشرق الأوسط، مسجلا نقاط ضد أوباما مواجها تنظيمات جهادية متطرفة، تهدد بدورها أيديولوجية ستالينية السّمت منحرفة الرؤية أيضا. ولهذا السبب أبدت القوات الروسية بربرية في القصف والاستعداد للسفك. تجاهل أوباما الخط الأحمر وهو استعمال السلاح الكيمياوي السورية سنة 2013، تاركا فراغا استراتيجيا أحسن بوتين استغلاله.

إثر حلب، إدلب هي ساحة الحرب القادمة بين المقاتلين السنة والمتطرفين الشيعيين المدعومين إيرانيا. وطهران ترغب بالسيطرة على سوريا في مرحلة ما بعد الحرب  سياسيا وعمليا بعد أن سيطرت على العراق بعد الاجتياح الأمريكي لها سنة 2003. وروسيا تريد الهيمنة على العملية السلمية التي نقودها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومن هنا جاء إعلان كازخستان لوقف إطلاق النار بالاتفاق مع تركيا على حساب أمريكا والاتحاد الأوروبي لرفع قيمة الدور الروسي في المنطقة ولعب دور صانع السلام ترميما لصورته المتهاوية بعد تدمير طيرانه الوحشي لحلب. قد يتحول الروس من طرف داعم للنظام إلى طرف ضامن له من أجل سلام يمكنهم من قيادة السيطرة على المنطقة. وأخيرا، من اعتبر من "النخب" العلمانية أن تدخل الناتو في ليبيا سنة 2011 تدخلا إمبرياليا، لم ير في التدخل الروسي كذلك، ليبقى أعسر الجدل هو جدل الأبجديات وازدواجية الموازين.

عن الكاتب

سليم الحكيمي

صحفي تونسي متخصص في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس