د. مصطفى حامد أوغلو - خاص ترك برس

تعرضت تركيا في الخامس عشر من تموز/ يوليو العام المنصرم لمحاولة انقلاب عسكري فاشل، كاد أن يودي بليلة واحدة بكل مكاسب ونجاحات العدالة والتنمية ويجعلها في مهب الريح لولا العناية الخارجة عن كل التدابير والاستعدادات والحذر الذي هو من تدابير البشر والأجهزة الأمنية.

كشف الانقلاب الستار عن كثير من السلبيات والأخطاء والفجوات والثغرات التي كان النجاح الاقتصادي العمراني الباهر للعدالة والتنمية قد غطاها وسترها، وربما صرف أنظار المعنيين عنها مما أدَّى إلى تسويفها وتأجيلها. وقد يكون الوقت أيضًا لم يسمح بتناولها ووضع المشرط عليها لمعالجتها.

أول هذه السلبيات، انكشاف ظهر الحزب الحاكم وضعف قوته وتغلغله بالجيش وقلة هذا الرصيد، رغم إخراج كثير من الجنرالات والرتب العسكرية من خلال حملات الاعتقالات في السنيين الماضية، بتهمة الانتماء لمنظمة الأرغنكون والتخطيط  لقلب نظام الحكم المدني. وقد تبين فيما بعد أن تنظيم الكيان الموازي هو العقل المدبر لهذه الحملات بهدف تصفية الخصم المنافس تمهيدًا للانقلاب الذي قام به مؤخرًا. بدا هذا الانكشاف بشكل واضح عندما تبين أن الشخصية الوحيدة التي كانت مرجعًا لكل أعضاء الحزب ليلة الانقلاب هي اليوم معتقلة بعد أن تم طردها وفصلها من الجيش.

وعلى النقيض من ذلك، أظهر الانقلاب قوة حزب الحركة القومية بالجيش ورصيده الذي كان له دور كبير في تغير مسيرة الانقلاب إضافة لبقية المواقف الأخرى وعلى رأسها القرار البطولي من رئيس الجمهورية بتحدي الانقلابيين والنزول للميدان بدون اي تردد، وتقدم الصفوف رغم كل المخاطر وقيادة الجماهير التي نزلت للشوراع متحدية الرصاص والدبابات بصدور عالية.

أيضًا غير الانقلاب فكرة أن عهد الانقلابات بتركيا قد ولى ومضى كما أعتقد وظن الكثير من السياسيين وحملة الأقلام وهذا ما اعترف به كثير من أعضاء الحزب الحاكم.

أحدث الانقلاب الفاشل، تغيرات كثيرة  فكرية عميقة وجذرية في عقلية المواطن التركي العادي والسياسي من كل الاتجاهات السياسية  تجاه كثير من الأمور التي كانت تعتبر من الثوابت والمسلمات. الموقف تجاه الغرب وخاصة الاتحاد الأوروبي والحليف الاستراتيجي الأمريكي...!! والنظرة تجاه الاقتتال بالدول العربية بأن تركيا محصنة منه وفوق هذا الاقتتال... والموقف من الجماعات الإسلامية والتغاضي عن التغلغل بأجهزة الأمن والدولة.

ونتيجة لهذه القناعات الجديدة والمكاشفات مع الواقع والحقائق، نجد تحالفًا غير معلن يقود اليوم تركيا، بين العدالة والتنمية ودولت بهتشلي صاحب اللاءات الثلاث بعد انتخابات حزيران/ يونيو الماضي. ويمكننا القول أيضًا أنه لولا مبادرة الأخير لأجل تغيير الدستور لما وصلت حزمة التغييرات الدستورية للبرلمان اليوم، هذه التعديلات التي ستسمح للعدالة والتنمية تحقيق هدفه بالوصول للنظام الرئاسي بعد أن كاد أن يضع هذا الحلم على الرف انتظارًا لموقف مناسب وفرصة جديدة.

من أهم الإيجابيات هي الثقة والاصطفاف وراء رئيس الجمهورية الذي اثبت أنه قائد للأمة والدولة، حيث ظهرت قناعة لدى كثير من شرائح المجتمع التركي وخاصة بعض الأطراف التي كانت بالصف الآخر وعدد من الجنرالات المتقاعدة بأن رجب طيب أردوغان هي الشخصية الوحيدة التي تستطيع القضاء على الكيان الموازي وتنظيف أجهزة الدولة منه. وعلى مستوى الجزب زاد من قوته – التي هي بالأصل قوية ومتينة - بعد تردد البعض تجاه الكيان الموازي وشعور البعض بأن رئيس الجمهورية يبالغ بالأمر، وكأنه أمر شخصي بين الرئيس والكيان الموازي.

لكن هذا الانقلاب أحدث شرخًا جديدًا في علاقة تركيا مع أوروبا ومع حلف الناتو والحليف الاستراتيجي أمريكا، حيث كان موقف هذه الدول مخيبًا للآمال، مثيرا للشك والريبة من نية تلك الدول تجاه تركيا، فانهدار جدار الثقة على المستوى الشعبي والسياسي وصل لأدنى درجاته ولأول مرة في هذه الأيام. مما جعل تركيا تبحث عن البديل وإن لم تصرح به، وتتحدث بصوت عال عن التخلي عن حلم الاتحاد الأوروبي والانضمام لمنظمومة شنغن وإغلاق قاعدة إنجرليك والانحياز للاتحاد السوفيتي. الملفت للنظر ليس محاولات الحكومة امتلاك أوراق للضغط والبحث عن بدائل، بل هو الرضى الشعبي أو عدم الرفض الكامل الذي كنا نجده سابقًا امام خطوات لم تكن بهذا الوضوح والقوة.

بعد الانقلاب الفاشل ردد كثير من القادة السياسيين، وتوقع كثير من المحللين والباحثين أن الانقلاب وإن كان قد فشل وفقد كثيرا من قوته لكنه لم ينتهي بعد، وتوقع الجميع أن تكون هناك هزات ارتدادية ولكن يكتفي العقل المدبر بهذه النتيجة وهذه الخسارة، توقع الكثيرون الحرب الاقتصادية والاغتيالات السياسية والتفجيرات النوعية التي تُحدث صدى إعلاميًا، وتهز الاستقرار الأمني، وتُوقع الضرر بالاقتصاد التركي. وهذا ما حدث ويحدث...

اللحمة الشعبية ضد الانقلاب العسكري، والروح الوطنية في يني كابي مع أحزاب المعارضة لم تدم طويلًا، ورجعت تركيا لحالة الاصطفاف والانقسام الذي بدأ يظهر في حالات كثيرة، والمخيف هو بروزه بعد تفجيرات رينا في رأس السنة الميلادية ونراه اليوم أمام التغيير الدستوري، هذا الاصطفاف الذي سترتفع وتيرته حتى موعد الاستفتاء القادم في منتصف نيسان/ أبريل نيسان القادم في حال النجاح في تمرير حزمة التغيير من البرلمان.

خلافات مع أمريكا على أرض الواقع بسوريا والعراق، لم تعد سرًا على كل المتابعين والمراقبين، وتفجيرات تزداد وتيرتها مع مرور الأيام، وتدهور بسعر الليرة التركية ومحاولات لحصار تركيا اقتصاديًا، وجفاء مع دول الاتحاد الأوروبي، وتغاضي غربي أمريكي روسي عن التدخل الإيراني وميليشياتها في سوريا والعراق، كلها ضد تركيا لإجبارها الانكفاء على ذاتها، والانشغال بأمورها الداخلية وعدم التدخل بما يراد تمريره من سناريوهات بدول الجوار حولها. أو اختيار المواجهة والصدام مع اصحاب هذه المشاريع وتحمل تبعات هذا التحدي وعدم الانصياع.

ولكل خيار تبعاته ومضاعفاته، سلبياته وإيجابياته...

ولكل منهما مؤيدوه ومعارضوه...

تركيا الجديدة إلى أين...؟؟ سؤال ستجيب عنه الأيام القادمة.

أخيرًا... مصطلح "تركيا الجديدة‘‘ ليس من بنات أفكاري، بل هذا ما صرح به قادة تركيا اليوم عندما اعتبروا ان فشل الانقلاب العسكري والمحاولات التي سبقته هي بمثابة ولادة جديدة لتركيا...

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس