جمال قارصلي - خاص ترك برس

ما تم نشره على وسائل التواصل الإجتماعي تحت ما يسمى بـ"التسريبات" حول الدستور الذي تنوي روسية أن تفرضه على الشعب السوري، يؤكد بأن روسيا ترى نفسها وصية على الشعب السوري، وتنظر إلى وجودها في سوريا وكأنها دولة مستعمِرة، فلهذا تريد أن تضع دستورا جديدا لسوريا حسب تصورها ومزاجها وبدون أن تأخذ رأي الشعب بذلك. نحن نعلم ما هي أهمية الدستور، وما هو تأثيره على تطور البلاد، وفي كل المجالات ولعقود طويلة، لأنه يشكل حجر الأساس في بناء مستقبل البلاد، وهو البوصلة التي تحديد اتجاه تطور البلاد ومواكبة الشعوب الأخرى.

لا أريد أن أدخل في تفاصيل دستور الوصاية الروسية على الشعب السوري والذي يتضمن ما هو جيد وما هو مرفوض بتاتا، وكذلك ليس بتفاصيل الدستور السوري الحالي. ما يهمني هنا هو المبدأ الذي يتعامل به أصحاب القرار في روسيا مع مصير الشعب السوري.

في الدول المتطورة، والتي تسودها أنظمة ديمقراطية، يُنظر إلى الدستور وكأنه كتاب "مقدس"، لأنه يُعتبر المرجعية لكل قوانين البلاد، والتي لايمكنها أن تخالف جوهره، مهما كانت مهمة وضرورية.

ما يلفت النظر بأن أصحاب القرار في روسيا، يقومون بمثل هكذا مبادرة، بالرغم من معرفتهم بتعقيدات المجتمع السوري وبتركيبتة الدينية والقومية والطائفية، وهم لا يخفى عليهم شيئا في سوريا وعلى اطلاع كامل على محنتة التي يمر بها الآن والتي تتطلب الكثير من المراعاة والدقة في التعامل معها، وخاصة عندما يتعلق الأمر بشي مصيري وهام، مثل كتابة دستور جديد للبلاد.

لو لم يكن للدستور أهمية بالغة، لما عملت اللجنة الدستورية في تونس بعد الثورة، وبشكل متواصل ولمدة عامين ونصف، لكي تقدم للشعب التونسي دستورا توافقيا تم الإستفتاء عليه. هذا ولو قارنا المجتمع التونسي مع المجتمع السوري لوجدنا بأن الفارق كبير بينهما من حيث عدد السكان وعدد الديانات والقوميات والقبائل والطوائف، أي أن المجتمع السوري متنوع أكثر ويحتاج إلى عناية ودقة أكثر في التعامل مع مكوناته.

الأوضاع التي تمر بها سوريا الآن تجعل من الضروري مشاركة كل مكونات المجتمع السوري في صياغة الدستور الجديد للبلاد، لكي يشعر كل مكون فيه، ومهما كان صغيرا، بأن هذا الدستور هو دستوره، وهو من قام بصياغته، وهو الذي سيدافع عنه وسيسهر على حمايته وعلى عدم المساس بصلاحياته.

إن الطريقة التي يريد بواسطتها أصحاب القرار في روسيا فرض دستور جديد على الشعب السوري، فهي مرفوضة من قِبَلْ الشعب السوري رفضا تاما وكذلك الدستور الذي اقترحوه فهو مرفوض، وحتى لو كان هذا الدستور جيدا وعصريا كذلك. ما آمله بأن لا تقتدي إيران بما قامت به روسيا من عمل غير مسؤول وأن تتحفنا في القريب العاجل بدستور سوري بطعم الوصاية الإيرانية.

الشعب السوري لن يقبل إلا بدستور يصيغه أبناؤه ويكون لدى كل واحد منهم الشعور بأن هذا الدستور هو دستوره، وهو يمثله، وهو خالي من المطبات والثغرات التي ربما ستؤدي في البلاد إلى مآسي كبيرة مثل التي نعاني منها الآن، والتي سيدفع ثمنها الأجيال القادمة.

الدستور السوري الحالي جَبّ (ألغى) ما قبله وأعطى للرئيس الحالي إمكانية الترشيح لدورتين متتاليتين إضافيتين، ولم يأخذ بعين الحسبان الفترة السابقة التي حكم فيها البلاد والتي دامت إثنا عشر عاما. فما هي إذا الضمانات التي يعطيها دستور الوصاية الروسية للشعب السوري بأن رئيس البلاد لا يستطيع أن يظل رئيسا طوال عمره أو إلى الأبد، وخاصة إذا لجأ الرئيس القادم إلى "الطريقة البوتينية" في رئاسة البلاد، وذلك بعد رئاسته لولايتيتن متتاليتين يقوم "بتوكيل" رئيس وزرائه بولاية واحدة مثلما عمل بوتين مع ميدفيديف، ويظل هو يحكم من وراء الكواليس، وبعدها يرشح للدورة التالية ويستطيع أن يحكم دورتين أخريين، وهكذا دواليك تدوم اللعبة إلى الأبد.

السوريون دفعوا ثمنا باهظا من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية، ولهذا هم سيكتبون دستورهم الجديد بيدهم، وسيتم من أجل ذلك اختيار مجموعة من خبرائهم القانونيين ومفكريهم في لجنة دستورية مؤلفة من كل مكونات وأطياف المجتمع السوري. هذه اللجنة ستضع نصب أعينها مصير ومستقبل الشعب السوري، وستكون على مستوى عالي من الوطنية والإنسانية وبعيدة عن كل التخندقات والأنانيات والمكاسب الشخصية. الشعب السوري أدرى بمصلحتة وما يهم مستقبل أجياله القادمة وهو يشكر المسؤولين الروس على حرصهم عليه. وإن أراد أصحاب القرار في روسيا مساعدة الشعب السوري في محنته الراهنة، فما لهم إلا أن يسألوا أصغر طفل سوري عن ذلك والذي سيخبرهم بأن عليهم أن يكفوا عن نشر مقترحاتهم غير المسؤولة وأن يسحبوا آخر جندي لهم عن الأراضي السورية ومعه يغادر كل المرتزقة والدخلاء الموجودين على أرض سوريا الوطن.

عن الكاتب

جمال قارصلي

نائب ألماني سابق من أصل سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس