دينا رمضان - خاص ترك برس

لا يمكن انكار مدى التشابه بين سورية وتركيا بعدد كبير من النواحي، فالتقارب الديني و الثقافي واضح جدا،  بالإضافة للتشابه مع بعض الاماكن الاسطنبولية التي تزيد عشق السوريين تحديدا لتلك المدينة الساحرة .

كل هذا جميل ومحمود؛ ولكن أن يذكرك  اتمام معاملة رسمية في احد الدوائر الحكومية في اسطنبول بأيام مشابهة في سورية فهذا ما يمكن ان يشكل أسوأ كوابيسك! فمن عاش في سورية يعلم مدى العذاب الذي يمكن ان يشكله اتمام معاملة رسمية في دوائر الحكومة السورية، ومدى الفساد المتأصل في تلك الدوائر، ابتداء من طريقة التعامل المقرفة التي تضطرك للتملق لموظفي تلك الدوائر، علَ ذلك يكسبك تعاطفهم، فلا تنتهي معاملتك داخل أحد الادراج، او يتم ارهاقك بأوراق اضافية لا معنى لها سوى إطالة معاناتك .. وانتهاء بالرشاوى الاجبارية المتناسبة مع التسلسل الهرمي للموظف في تلك الدائرة!

كانت معاملتي عبارة عن تجديد الاقامة في مبنى الامنيات/اسطنبول، أي في القسم الذي يتعامل مع مواطني الدول الاجنبية، مما يعني ان هذا القسم هو من يمثل الحكومة التركية أمام مواطني الدول المختلفة، وهي الصورة التي ينقلونها لبلدانهم.

يبدأ الامر منذ حصولك على موعد محدد باليوم والساعة، والتي قد تكون الثامنة صباحا، علما انه لا يتم إدخالك الى مبنى الادارة قبل الثامنة والنصف على اقل تقدير، وعليك عندها ان تقف خارجا في يوم اسطنبولي شتوي، بغض النظر عن عمرك، فلا فرق بين طفل صغير او طاعن في السن، فصاحب العلاقة يجب ان يتواجد، ولا مفر من التعرض لهذه الاجواء.

ومع دخولك، وحتى بعده،  يستمر دخول الموظفين الذين من المفترض ان يكونوا على مكاتبهم قبل العملاء، فمنهم من يصل التاسعة او حتى التاسعة والنصف، والناس تحتشد أمام غرفته لإنهاء معاملتها حسب المواعيد المحددة، وبدل التعامل اللطيف معهم يبدأ بالصراخ كمدير في مدرسة!

ومن الصعب هنا تفهم ان يصرخ موظف حكومي (وظيفته تسيير وإنهاء معاملات المواطنين) على حشد من المتعاملين الاجانب الواقفين ببابه بلغة هو يعلم ان أكثرهم لا يفهمها! ولا يمكن تقبل ان يكون دافعه لذلك تصرفات بعض المتعاملين السيئة احيانا، والاحرى هنا ايجاد آليات للتعامل مع تلك التصرفات من تنظيم للازدحام وغيره، وليس اللجوء للصراخ!  مع العلم ان المراجعين هم أفراد من مختلف الاجناس والدول، بينما هؤلاء الموظفين هم من يمثل الحكومة التركية، أي أن الأدعى هو الانتباه لتصرفاتهم وردات فعلهم تجاه الاخرين وليس العكس.

بالطبع هناك  البعض من هؤلاء الموظفين ممن يتعامل بإخلاص ومهنية حسب ما تمليه عليه أخلاقيات المهنة ومتطلباتها، ولكن وجود البعض الاخر يمثل كارثة حقيقية. إحدى المتعاملات نصحتني بقراءة سورة الضحى 7 مرات و"النفخ" بوجه الموظف حتى تتيسر أمور معاملتي، ولكن يبدو ان الامر كان يحتاج قضائي الليلة السابقة في قيام وسجود وتبتل ودعاء لأن الامر لم ينجح!

قد اتفهم ان يُخطئ ذلك الموظف، بسبب الارهاق، ويكتب (بالتركية) ان المعاملة التي تخصني تنقص بعض الوثائق فقد كانت المعاملة الاخيرة في ذلك اليوم، ليعلمني المترجم لاحقا (في نفس الدائرة) انها موجودة كاملة، ولكنني مع ذلك عذرت ذلك الموظف وعزوت الامر كما ذكرت للإرهاق؛ ولكن ان يصر في اليوم التالي على طلب وثيقة غير لازمة -ستكلفني جهدا ووقتا ومالا- فهذا غير مفهوم! مما اضطرني إلى رفع الامر للمدير، وأظن أنني أخطأت بذلك، وكان من الاجدى ان اتبع نصيحة قدمتها لي احدى المُراجِعات بألا أفعل، فقد يتسبب ذلك بحنق ذلك الموظف تجاهي، وتعسير معاملتي حسب تجربة سابقة لها كما قالت، ولكنني وللأسف أصررت من مبدأ أن هذا حقي وليس أمرأ عائدا لأمزجة الموظفين، ولكنني اكتشفت صحة نصيحتها بعد فوات الاوان، ولات ساعة مندم..

واختصارا لما جرى فإن النتيجة كانت: خسارة خمس ساعات انتظار، قضيت  أكثرها جيئة وذهابا بين المكاتب المختلفة، لينتهي الامر بتسوية بين المدير والموظف تنص على: تنازل الاخير عن الورقة (الغير ضرورية) مع شرط تأجيل معاملتي لموعد جديد، وطبعا تفاصيل من مثل مدى مناسبة الموعد الجديد لي، أو مدى استعجالي لإنهاء تلك المعاملة، أو حتى الساعات التي قضيتها في الانتظار هي تفاصيل تافهة لا أهمية  لها في هذا المضمار!

وهنا لن أدخل في تفاصيل نقاط أخرى، من مثل قذارة الحمامات أو لنقل "الحمام" الوحيد المخصص للعملاء الذين يقضون الساعات الطوال في ذلك المبنى لإنهاء معاملاتهم، ولن أتحدث كثيرا عن موظف المحاسبة الذي يحتفظ بباقي المبلغ المدفوع، فهو مجرد "قروش او ليرة" وهو مقدار لا يقدم ولا يؤخر -حسب البعض- متناسين ان سرقة ليرة تعادل سرقة ألف، وان تراكم السرقات الصغيرة هو احد أسس الفساد المؤسسي...على كل، الخلاصة انك تخرج من ذلك المبنى وانت محَمل بكمٍ هائلٍ من الارهاق والصور السلبية التي لا تليق بدولة عظيمة كتركيا.

لقد أثبتت تركيا انها دولة سريعة النمو، طموحة، أهدافها عالمية ليست اقليمية او محلية فحسب، وفي ظل تلك الطموحات لابديل عن الارتفاع بالقطاع العام وانهاء الفساد فيه، ليكون شريكا حقيقيا في عملية البناء والتطوير. ومع وجود التقنيات الحديثة أصبحت مراقبة اداء الموظفين متوفرة،  فخيارات مثل الكاميرات او غيرها، أو حتى الزيارات المفاجئة للمسؤولين المعنيين، او تطبيق نظريات الادارة الحديثة التي تحكم القطاع الخاص في التعامل مع العامل البشري، مثل قياس الانتاجية والاداء، ومعايير من مثل عدد المعاملات المنجزة في اليوم، مدة انجاز المعاملة الواحدة، مدى رضى العميل، الابداع والمساهمة في تخفيف الاجراءات... كل هذا أصبح متيسرا جدا وخاصة في ظل وظائف روتينية بحتة من حيث التنفيذ.  

ان السوس الذي ينخر في عظم القطاع العام بهدوء شديد يسبب اذى لا يقل خطورة عن الجماعات الارهابية التي تواجهها تركيا داخليا او حتى الاخطار المحدقة بها خارجيا، وأحد أهم أسباب تراجع أداء القطاع العام عن الخاص يكمن في العامل البشري، وليس المقصود فقط نقص التدريب والكفاءات، وانما شعور موظف القطاع العام ان الوظيفة التي تم تعيينه بها دائمة له، حتى انها تأخذ شكل الحق الشرعي الأبدي، مما يعطيه احساسا بالاطمئنان والركود، وعدم المبالاة بطريقة الأداء او الانتاجية، وهنا لابد للحكومات من اشعال شعور التنافسية، والتخلص من البطالة المقنعة بنشر وترسيخ  ثقافة الاستبدال، فالكثير من الكفاءات عاطلة عن العمل وتشكل بديلا جاهزا لكل من تخول له نفسه خيانة الامانة المفروضة عليه عن طريق ضعف الاداء او المماطلة او تعطيل مصالح المتعاملين.  

التفاصيل والقصص كثيرة وقد نصحني البعض بعدم الكتابة من منطلق ما قدمته تركيا مشكورة للسوريين وغيرهم، ولكنني ومن نفس المنطلق ادعو للعكس، فحبنا وخوفنا على تركيا، ومساهمتنا في رد الجميل، لا يجب ان يتوقف فقط على ادائنا واجباتنا التي تفرضها قوانينها علينا، وبالتالي شرعية حصولنا على حقوقنا بشكل كامل وطبيعي بدون اية منَة، ولا يتوقف على حسن النوايا أو رفع الاكف بالدعاء، ولكن علينا ان نكون مبادرين ومساهمين بالإصلاح أقلَه بإلقاء الضوء على مواطن الفساد وتقديم المقترحات والحلول لها.

عن الكاتب

دينا رمضان

باحثة وناشطة مختصة بالشأن السوري، حاصلة على شهادة EMBA (ماجستير تنفيذي في ادارة الاعمال، PMP الشهادة الامريكية في ادارة المشاريع، دارسة للعلوم السياسية (معهد سياسي) و مدير تنفيذي سابق في احد المنظمات الانسانية المختصة بالشأن السوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس