جمال الهواري - خاص ترك برس

بعد مرور 6 سنوات على ثورات الربيع العربي اتضح بما لا يدع مجالًا للشك أن الغرب أو ما يطلق عليه مجازًا "العالم الحر" ذو الديمقراطيات العتيدة لا يؤمن بتلك الحريات وحقوق الإنسان أو يطبقها إلا داخل حدوده ولمواطنيه فقط، أما في الخارج وخصوصًا في منطقة الشرق الأوسط فإنه يضرب بها عرض الحائط ويدعم بكل الطرق الأنظمة الديكتاتورية لضمان بقائها واستمراريتها تحقيقًا لمصالحه، وفرض على دول الربيع العربي سيناريوهات عدة ومختلفة لكن نتيجتها الواضحة هي وضع تلك الشعوب بين خيارين لا ثالث لهما إما القبول بالعيش في ظل تلك الأنظمة والعودة إلى حظيرة الطاعة وإما القمع والقتل والتشريد والتهجير والاعتقال والتعذيب.

عندما أحرق الشاب التونسي محمد البوعزيزي نفسه بعد أن قامت شرطية تونسية بمصادرة عربته واتهمت بصفعه في مشهد مصغر للأنظمة الديكتاتورية التي تصفع شعوبها وتصادر حقها في الحرية والعيش الكريم، لتنطلق بعدها مظاهرات عارمة في جميع ارجاء تونس مطالبة برحيل النظام ثم انتقلت الشرارة إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا وتساقطت الأنظمة القمعية واحدًا تلو الآخر إلى أن توقفت العجلة في سوريا و ن الكثيرون بأن عصر الحرية أخيرًا قد أطل وآن الأوان لتحكم الشعوب نفسها بنفسها دون وصاية من أحد.

وتتابعت الأحداث وظهر للعالم جليًا أن الإسلاميين سيتصدرون المشهد السياسي في دول الربيع العربي، وهو ما لا يصب في مصلحة الغرب وحليفته المفضلة في المنطقة "إسرائيل" التي ستجد نفسها في وسط تكتلات قوية معادية في ظل مشروع نهضوي عربي إسلامي في منطقة تعج بالثروات النفطية والمائية والمواد الخام وتتحكم في طرق التجارة العالمية فعمل و بكل قوته لفرض سيناريوهات معينة لوأد الثورات وإعادتها إلى نقطة الصفر وربما أسوأ، وجعلها في حالة وصلت بالكثيرين أن أصبحوا يودون عودة الوضع إلى ما كان عليه قبل الثورة رغم ما فيه من كبت وقهر وامتهان للحقوق والحريات.

ولو ألقينا نظرة بسيطة إلى وضع كل دولة من دول الربيع العربي لوجدنا سيناريو مختلف، لكنها تتفق جميعها في أنها لا تصب في مصلحة شعوبها بل على العكس تجعلها تسأل نفسها ألم يكن من الأفضل لو لم نَثُرْ من الأصل.

تونس

حدث تغيير بسيط في البنية السياسية للدولة أدت إلى نظام ديمقراطي هَشّ منشغل بالعشرات من المشاكل الداخلية سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وأمنيًا، منكفئ على نفسه داخليًا في محاولة لتحقيق بعض الإصلاحات التي يشعر بها المواطن العادي على المستوى الاقتصادي والأمني في ظل خلافات حزبية داخلية وضغط خارجي مستمر، مدعومًا بمنظومة الدولة العميقة وبقايا نظام بن علي، بل إن الرئيس التونسي "السبسي" نفسه كان رئيسًا لجهاز الأمن الوطني وتولى حقائب الداخلية والدفاع والخارجية في عهد بورقيبة وكان رئيسًا لمجلس النواب في عهد بن علي.

مصر

انقلاب عسكري دموي أعاد النظام القديم ولكن بوجوه جديدة، ويقيت بنية الدولة العميقة من الجيش والشرطة والإعلام والقضاء والاقتصاد قائمة كما هي وتمتلك كل الأدوات القادرة على إفشال أي تغيير جذري. وعمل نظام السيسي الانقلابي المدعوم غربيًا وخليجيًا على امتصاص المد الثوري وإنهاك القوى الثورية والاستفراد بها واحدة تلو الأخرى والانقضاض عليها لإفشالها لتعطي مثالًا سلبيًا للثورات، مما يمنع من تمددها وانتشارها، والنتيجة غرقت مصر في انقسام سياسي ومجتمعي حاد وكوارث اقتصادية يصعب التعافي منها مستقبلًا، مما يجعلها رهينة للدول الداعمة للنظام وخاضعة لتوجيهاتها بصفة مستمرة خوفًا من الارتداد الثوري.

ليبيا

حدّث ولا حرج، انهارت السلطة المركزية وتعمقت الأزمة السياسية والأمنية مع تنافس حكومتين على الشرعية، إحداها في البيضاء ومعترف بها دوليًا رغم أنها مخالفة للدستور كون مجلس النواب الذي منحها الثقة انعقد في طبرق خلافًا للدستور المؤقت، والأخرى في طرابلس ممثلةً بالمؤتمر الوطني العام مدعومة من بعض القوى الإقليمية بالإضافة إلى مناطق أخرى واقعة تحت سيطرة تنظيم الدولة ومجالس شورى بنغازي ودرنة وأجدابيا وسيطرة قوات قبلية على منطقة مصراتة ومناطق خاضعة لقوات الطوارق في الغرب، والمحصلة دولة بلا دستور دائم تعاني من الانقسام والتمزق، وفي حالة اقتصادية وسياسية وأمنية يرثى لها.

اليمن

حرب أهلية على أساس مذهبي، حتى لو حاول البعض إنكار ذلك، تدور رحاها بكل شراسة بعد انقلاب جماعة الحوثي التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع إيران واستيلائهم على السلطة، وأصبحت البلاد مقسمة بين سلطتين إحداها في صنعاء غير معترف بها دوليًا والأخرى في عدن تحت رئاسة عبد ربه منصور هادي معترف بها دوليًا وتساندها قوات التحالف العربي بقيادة السعودية دون قدرة أي طرف على حسم المعركة لصالحه، والنتيجة بلد ممزق يعاني أهله من المجاعة، ونزحت أعداد كبيرة منه داخليًا وخارجيًا، ووضع اقتصادي وأمني متردٍّ وسط دعوات تنادي بانفصال الجنوب.

سوريا

ربما يكون السيناريو السوري هو أسوأ السيناريوهات وأبشعها وأكثرها دموية ووحشية، فقد بدأت الأحداث كأي ثورة شعبية سلمية تطالب بالحرية والكرامة الإنسانية، وظلت هكذا في الأشهر الستّة الأولى ورغم سقوط العديد من الشهداء والجرحى، ثم ما لبثت أن تطورت مع تزايد وتيرة القمع والقتل من قبل النظام إلى صراع مسلح وحرب شعواء تدور رحاها حتى الآن مخلفةً وراءها مئات آلاف القتلى والجرحى وملايين النازحين داخليًا واللاجئين خارجيًا، وتحولت سوريا إلى ساحة حرب على أساس عرقي وطائفي ومذهبي ومسرحًا لتصفية الحسابات بين القوى العالمية والإقليمية في معضلة الشعب السوري هو الخاسر الوحيد فيها مهما كانت نتيجة تلك الصراعات والحسابات.

الخلاصة

الغرب تعامل مع ثورات الربيع العربي بسيناريوهات تهدف إلى إعادة إنتاج الأنظمة القديمة بوجوه جديدة وتفتيت المنطقة على أُسس طائفية وعرقية بحيث يتم إفشال ثورات الربيع العربي وإجهاضها بشكل كامل ثم الانتقال إلى استعادة الأنظمة الديكتاتورية أو الطائفية أو التقسيم بحسب الدولة وقابليتها لأي من السيناريوهات السابقة.

عن الكاتب

جمال الهواري

صحفي و ناشط سياسي مصري، عضو منظمة العفو الدولية.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس