جمال قارصلي - خاص ترك برس

عندما قدم لى السيد جمال قارصلي النائب فى البرلمان الألمانى كتابه هذا طالبًا مني كتابة تقديم له، فكرت فى الأمر طويلًا، فتجربة الرجل غنية وتكشف عن معدن أصيل لإنسان من أصل عربي هاجر إلى ألمانيا وحمل معه هموم أمته، ولم تنسه السنوات التى عاشها فى ألمانيا قضايا وطنه الأصلي، بل وقضايا أمته والحضارة التي ولد فى ظلها وعاش فيها سنوات عمره الأولى. فعادة ما تسلك الغالبية العظمى من المهاجرين العرب الطريق السهل الذى يتمثل فى الانسلاخ التام عن الجذور، والعيش بالهوية الجديدة. كما يبالغ البعض أحيانًا فى محاولة إثبات الولاء للهوية الجديدة عبر العمل مع قوى سياسية وثقافية تتخذ من العداء للهوية العربية والثقافية والحضارة العربية أهدافًا واضحة لها. لكن جمال قارصلى اختار الطريق الصعب ونجح فى ترسيخ معادلته التي تتمثل فى الاندماج فى المجتمع الألماني مع عدم التفريط فى هويته الأولى أو الانفصال عن قضايا وطنه الأصلي.

والحقيقة أنني ما أن انتهيت من قراءة الكتاب حتى وجدت مساحة كبيرة من الالتقاء فى الأفكار والرؤى بيننا، فالرجل عانى كثيرًا لدفاعه عن قضايا أمته العربية، لكن عزيمته لم تهن برغم الحملات الشرسة التى شنها ضده اللوبي الصهيوني فى ألمانيا وملاحقته له حتى فى وطن زوجته "إيطاليا". ولم يتراجع عن أفكاره والطريق الذى اختاره حتى بعد اعتداءات الحادى عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001 فى نيويورك وواشنطن وما جلبته هذه الأحداث من متاعب للعرب والمسلمين فى الغرب عمومًا.

ولعل أبرز ما استوقفني في تجربة جمال قارصلي تلك المعركة الفكرية التي خاضها فى مواجهة اللوبي الصهيوني وإصراره على توضيح الخطوط الفاصلة بين السامية والصهيونية. متمسكًا بأن الثانية حركة سياسية سبق أن دمغتها الأمم المتحدة بالعنصرية عام 1976، ومن ثم فإن نقد السياسات الإسرائيلية وإدانة العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني لا يندرج ضمن "معاداة السامية" كما يروج اللوبي الصهيوني فى الغرب.

وفي تقديري أن كتاب السيد جمال قارصلي يأتي في توقيت مناسب لكي يطلع القارئ العربي على تجربة حية عاشها أحد أبنائه الملتزمين فى مجتمع غربي واشتبك فى معارك فكرية وسياسية مع المنظمات الصهيونية والمتعاطفة معها أو التى تخشى نفوذها دون أن يلين أو يتراجع.

لقد أثار كتاب السيد قارصلي لديّ ذكريات التجربة التي قادتني في النهاية إلى تأسيس المنظمة العربية لمناهضة التمييز. فقد لاحظت مبكرًا تزايد الحديث عن معاداة السامية، واتجاه المنظمات الصهيونية إلى استخدام هذا المصطلح وإشهاره كسلاح فى وجه أفراد وهيئات عربية عديدة وصل فى بعض الأحيان إلى رفع دعاوى قضائية. وبرغم أن مفهوم معاداة السامية له معان محددة، ويعني بالأساس الفعل أو القول العنصري ضد مجموعة من البشر تنتمي إلى العرق السامي، وهو العرق الذي يضم اليهود والعرب معا، فإن وسائل الإعلام الإسرائيلية والمنظمات الصهيونية والقوى السياسية الإسرائيلية قد حرفت هذا المفهوم وشوهته من أكثر من زاوية.

فمن ناحية جرى استبعاد العرب قسرًا من هذا المفهوم، وبرغم أنهم يمثلون قلب العنصر السامي، فإن المنظمات الصهيونية والقوى السياسية الإسرائيلية عملت بشكل منظم على الاستئثار بالانتماء إلى العرق السامي، ومن ثم فقد تم استبعاد كل ما هو غير يهودي من إطار مكونات العرق السامي، وبات مفهوم "السامى" قاصرا على اليهود فقط. وهو أمر أحسبه كان مقصودًا تمهيدًا لإشهار السلاح فى وجه أبرز مكونات العرق السامي، أي العرب. ومن ناحية ثانية تم توسيع مفهوم معاداة السامية لينتقل من كل الأقوال والأفعال التى تتم ضد أبناء العرق السامي، لشمل كل كلمة نقد توجه للسياسة الإسرائيلية، بل تم توسيع المفهوم تمامًا بحيث بات يوظف لإرهاب كل من يتصدى بالنقد للسياسات العدوانية الإسرائيلية والممارسات اللاإنسانية التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني. ومن ثم بات أى نقد سياسي لإسرائيل كدولة أو لأى من أعضاء الحكومة الإسرائيلية يعد نوعًا من "معاداة السامية".

ومن ناحية ثالثة بات مصطلح معاداة السامية يستخدم كنوع من "الردع الاستباقى" الذى يوجه لكل مصادر النقد المحتملة لسياسة إسرائيل أو ممارسات قوات الاحتلال، وقد جرى عبر توظيف شبكة ضخمة من المصالح والعلاقات والمنظمات نشر حالة من الرعب فى مواجهة قوى سياسية ومنظمات مدنية دولية لمنعها من مجرد مناقشة السياسة الإسرائيلية أو الممارسات اللاإنسانية التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي. وفى مرحلة تالية تم فرض حظر على مناقشة قضايا معينة تاريخية وسياسية حتى من قبل الأكاديميين والباحثين واعتبر مجرد الاقتراب بالدراسة لقضايا معينة كفيلًا بإشهار سلاح معاداة السامية فى وجه الساعى إلى البحث والدراسة، وهو الأمر الذى جعل مجالات معينة من البحث خارج سياق المطروق علميًا وأكاديميًا فى الجامعات الدولية. وما يهمني تأكيده هنا هو أن المفهوم الحقيقي للسامية، بمعنى أنه يشمل كل أبناء العنصر السامي، ومن ثم يجمع اليهود والعرب معًا، أمر معروف من الناحية التاريخية، فالعرب ساميون مثل اليهود، وهو أمر تقره دائرة المعارف العبرية على النحو الذى أشار إليه شموئيل جوردون فى مقال له بعنوان "معاداة إسرائيلية للسامية" والذى نشر على الموقع الإلكتروني لصحيفة معاريف بتاريخ التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2003 حيث كتب يقول: "وصفت دائرة المعارف العبرية معاداة السامية بأنها كافة ظواهر الكراهية والعنصرية الموجهة ضد الساميين"، وأضاف "ومن هنا فإن معاداة السامية تشمل أيضا كل مظاهر الكراهية والعنصرية الموجهة ضد العرب" وأضاف بعد ذلك "لقد تطورت معاداة العرب فى إسرائيل وتكونت من الاحتقار لمظاهر التخلف والاستهانة بالطبيعة البشرية. لقد برزت شحنات عميقة من العنصرية فى صالونات مساء السبت، وفى ملاعب كرة القدم وفى الأسواق، حيث تسمع أقوالًا عنصرية من قبيل "قتلة عديمو الأخلاق"، و"الإرهاب هو سياستهم"، أو "حذار من الثقة فيهم"، أو "أن الورقة التي يوقعون عليها لا تساوي ثمنها"، و"الموت للعرب"، و"العربي الجيد هو العربي الميت".

وفى الحقيقة فإن ما قاله جوردون كنا نركز عليه فى العالم العربي ونقول لكل الذين أشهروا سلاح معاداة السامية فى وجه العرب، إن العرب لا يمكن أن يكونوا معادين للسامية لأنهم ساميون، ومن ثم لا يمكن للإنسان أن يكون معاديًا لنفسه وعرقه، وأنه إذا كانت هناك تجاوزات من جانب أفراد أو هيئات عربية وهي موجودة بالفعل، فإنها تدخل فى باب آخر غير معاداة السامية، ويظل موقفنا بعد ذلك هو عدم الموافقة على استخدام معاداة السامية كسلاح لإرهاب كل من يسعى إلى مناقشة قضية تدخل ضمن ما وضعته المنظمات الصهيونية فى إطار "قائمة المحرمات"، فهذه القائمة تضخمت بشدة وباتت تنطبق على كل كلمة نقد سياسى لإسرائيل أو اختلاف مع سياسة دولة إسرائيل، هذا بينما حرص قادة المنظمات الصهيونية على أن يكونوا جميعًا فوق مستوى النقد، فكل نقد يوجه لهم يقابل بإشهار سلاح معاداة السامية ، وتدريجيًا أعطى قادة المنظمات الصهيونية والقوى السياسية الإسرائيلية لأنفسهم الحق فى احتكار دور المحقق والقاضي فى كل الوقائع التى يرون أنها تتضمن "معاداة للسامية"، وباتوا يوجهون التهمة إلى كل من ينتقد السياسة الإسرائيلية. لقد أثار نشاط السيد قارصلي قلق وخوف المنظمات الصهيونية فى ألمانيا، فهم يريدون "العربي" إما "مستوعب مدجن" أو "متطرف متشدد منفصل" عن المجتمع الذى يعيش فيه، لكن أن يندمج فى مجتمعه ولا ينسلخ عن قضايا أمته، وينشط فى الحياة السياسية ويوسع دائرة نشاطه وأصدقائه من غير العرب، فذلك ما يمثل أزمة كبرى لهذه المنظمات، ومن ثم فقد نشطت واستخدمت أساليب ملتوية فى مهاجمته وعملت على تشويه صورته.

ولعل أبرز الدروس التى يمكن استخلاصها من تجربة السيد قارصلي هي الإيمان بسلامة الموقف وعدالة قضاياه وتوافر الإرادة القوية التى تمكنه من الصمود فى مواجهة الحملات المسعورة التى تشنها المنظمات الصهيونية. فلقد كرس جهوده من أجل حصول المهاجرين على حقوقهم مؤكدًا أنها ليست منحة تعطى لهم بل هى نتيجة كفاحهم الشخصي من أجل الوصول إليها. إن تجربة السيد قارصلى تكشف عن عمق الرؤية وسلامة البصـيرة وأحســب أنها تمثل خبرة مفيدة ومليئة بالدروس للعرب الذين يعيشون فى الغرب، فهي تقدم لهم دروسًا فى كيفية الاندماج فى الغرب دون الانسلاخ عن قضايا الوطن الأصلي.

عن الكاتب

جمال قارصلي

نائب ألماني سابق من أصل سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس