رائد الحامد - اي ان بي بلس

شكلت الصورة العامة للعلاقات الإيرانية التركية خليطا متداخلا في نقاط الخلاف غير المُعلن، حتى وقت قريب، على النفوذ متعدد الجوانب في كل من العراق وسوريا، ونقاط الالتقاء في الجوانب الاقتصادية والتجارية.

لكنّ الاتفاق الضمني على ضمان وحدة الأراضي العراقية والسورية سيظل هو العنوان الأبرز في علاقات البلدين ، وعدم السماح بإقامة كيانات أو فيدراليات على أسس عرقية أو طائفية قد تُفضي إلى تقسيم البلدين.

وفي أجواء من خلافات وجهات النظر بين إيران الداعمة لنظام الرئيس السوري بشار الأسد وتركيا الداعمة للمعارضة المسلحة التي تستهدف إسقاط النظام، ظلّت العلاقات التركية الإيرانية على وتيرة متوازنة من تبادل الزيارات بين مسؤولي البلدين وزيادة مستوى التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي بينهما دون أن تتأثر بالخلافات حول الحرب الأهلية في سوريا طيلة سنوات سبقت التدخل التركي في سوريا في أيلول  2016  والذي احتجت عليه إيران بطريقة دبلوماسية عبّرت عن رفضها لأيّ تدخل أجنبي ينتهك سيادة سوريا دون موافقة الحكومة، في إشارة إلى تركيا.

شكل انطلاق معركة استعادة الموصل في 17 تشرين الأول 2016 بداية ظهور الخلافات التركية الإيرانية  إلى العلن وتقاطع مصالحهما، مع وضوح في الموقف التركي الرافض لمشاركة الحشد الشعبي الحليف لإيران وتوجيه انتقادات حادة لممارساته وانتهاكاته بحق العرب السُنّة والتركمان، ورفض أيّ تغيير في التركيبة السكانية لصالح الشيعة أو تعزيز النفوذ الإيراني في محافظة نينوى، وهو الموقف الذي قابلته إيران بردود فعل نأت بنفسها عن التصعيد مع تركيا.

وعلى مدى الفترة الزمنية ما بين إعلان معركة استعادة الموصل في تشرين الأول 2016 وزيارة الرئيس التركي إلى البحرين في شباط 20177 ضمن جولة خليجية شملت قطر والسعودية، ظلت الاتهامات التركية  مقتصرة على قوات الحشد الشعبي دون التطرق مباشرة إلى الدور الإيراني في قيادة وتوجيه هذه القوات ورسم سياساتها التي تخدم السياسات الإيرانية العليا في شمال العراق والتي تُشكل تهديدا للمصالح التركية في المجال الحيوي التقليدي التركي الذي يمتد تاريخيا إلى قرون من الحكم العثماني للموصل وانتهاء هذا الحكم بنهاية الدولة العثمانية قبل نحو مئة عام قبل أن يتمّ حسم ضمّ الموصل إلى الدولة العراقية الوليدة في 1926 بعد ثلاث سنوات من تأسيسها بموجب اتفاقية لوزان.

وترعى إيران فصائل الحشد الشعبي الذي تشكل استجابة لفتوى المرجع الشيعي علي السيستاني في 13 حزيران 2014 بعد سيطرة تنظيم الدولة على مدينة الموصل بثلاثة أيام؛ ويتشكل الحشد الشعبي من  72 فصيلا معظمها من الميليشيات التي أسستها ورعتها إيران منذ الحرب العراقية الإيرانية، ومن بينها 41 فصيلا أعلنوا بيعتهم الشرعية للمرشد الأعلى علي خامنئي.

في منتصف شباط 2017 تحدّث الرئيس التركي عن “رؤية تركيا للسلام في الشرق الأوسط” في ندوة موسعة نظّمها أحد المراكز البحثية بالبحرين تحدث فيها عن مجمل القضايا الإقليمية وسُبل تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة التي تشهد صراعات مسلحة وحروب أهلية في أكثر من بلد عربي؛ وفي إشارةٍ إلى إيران نوّه الرئيس التركي إلى مخططات لتقسيم سوريا والعراق يتمّ العمل عليها وتحقق تقدما على الأرض يتوجب الوقوف أمامها والتصدي لها.

وفي موضع آخر من نفس الحديث دعا الرئيس التركي صراحة إلى “وجوب التصدي للقومية الفارسية في سورية والعراق”، مؤكدا “رفضه لتوجهات (البعض) الساعية إلى تقسيم البلدين”؛ لكنّ الرد الإيراني كان يتركز حول أن تصريحات الرئيس التركي “جاءت متأثرة بالمناخ والأجواء التي كانت موجودة أثناء حديثه”؛ ومن دون ذكر اسم تركيا بشكل مباشر جاء الرد الإيراني على شكل اتهام مبطن “بدعم الجماعات الإرهابية بشكلٍ سري وعلني كأدوات لتحقيق الأهداف الخاصة، وكذلك عدم احترام السيادة الوطنية للدول والبلدان”.

لم تأتِ تصريحات الرئيس التركي في البحرين، والتصريحات الأخرى التي أعلن عنها في برنامج بلا حدود الذي بثته قناة الجزيرة، الأربعاء 19 نيسان، من فراغ؛ فتركيا كما غيرها من الدول تدرك تماما تبني إيران مشروعا لفرض نفوذها الإقليمي وهيمنتها على جغرافية سُنيَّة تمتد من إيران إلى “شواطئ البحر الأبيض المتوسط ومضيق باب المندب” لتأمين العمق الاستراتيجي لأمنها القومي في المنطقة التي تشمل العراق وسوريا ولبنان واليمن كدول باتت خاضعة لنفوذ مركز الحكم الإيراني في طهران.

ووصف الرئيس التركي علاقات بلاده مع إيران بأنّها “علاقات تاريخية ومتجذرة”، لكنّ علاقاتهما في هذه المرحلة على ما يبدو “متدهورة” إلى الحد الذي قال عنها الرئيس التركي متمنيا أن “لا تكون قد وصلت إلى هذا المستوى”؛ وبدا واضحا أنّ إيران تعتمد سياسة مزدوجة تتناقض بين التطبيق الواقعي وما تُصرح به “عند الحديث المباشر خلال الزيارات المتبادلة التي تبدو بأنّها ممتازة”.

أعطى الرئيس التركي المشروع الإيراني في المنطقة “صفة قومية فارسية” يُراد لها زيادة نفوذها في البلدان الأربعة التي يستهدفها المشروع الإيراني مرحليا، والتغلغل فيها من “أجل تشكيل قوة فارسية” تحاول من خلالها تقسيم هذه البلدان في الوقت الذي يصرح فيه المسؤولون الإيرانيون “بأنهم مع وحدة التراب” في سياسةٍ وصفها بسياسة “التوسع الفارسي”.

ووصف الرئيس التركي الحشد الشعبي بأنه “منظمة إرهابية تحظى بتأييد البرلمان العراقي” في قتالها على جبهتي سنجار وتلعفر في محافظة نينوى؛ وتخشى تركيا انتهاكات متوقعة على يد الحشد الشعبي تطال سكان تلعفر من التركمان السُنّة والتركمان الشيعة  الذين لا تتعامل تركيا معهم على أساس المذهب، إنما على أساس الانتماء القومي”؛ كما إنّ تركيا ملزمة بموجب اتفاقية أنقرة 1926 بحماية التركمان في نينوى وكركوك.

ومنذ 29 تشرين الأول 2016 تتمركز قوات تقدر بنحو 14 ألفا من مقاتلي الحشد الشعبي في محيط مركز القضاء للسيطرة عليها بدعم من وحدات تابعة للجيش العراقي وإسناد متواضع من طيران التحالف الدولي.

وتتمثل أولويات السياسة التركية في الموصل على هزيمة تنظيم داعش وعدم السماح بتواجد مقاتلي حزب العمال الكردستاني لمنع تهديدات محتملة على المدن التركية مصدرها محافظة نينوى، ومراقبة تداعيات المعركة لحماية التركيبة السكانية للمدينة وعدم إحداث أيّ تغيير جوهري على أسس عرقية تمس التركمان الشيعة والسنّة أو العرب السنّة، والعمل على بقاء العراق دولة موحدة، وضمان عدم انزلاق المحافظة مستقبلا إلى صراع داخلي يؤدي إلى موجة جديدة من اللاجئين إليها.

أما إيران فتعمل على تحقيق توازن قوى داخل إقليم كردستان مع النفوذ التركي  أما إيران فتعمل على تحقيق توازن قوى داخل إقليم كردستان مع النفوذ التركي من خلال دعم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني وحزب التغيير، ومقرهما السليمانية، وهما متحالفان مع حزب العمال الكردستاني المصنف في تركيا على قائمة الإرهاب، إضافة إلى التحالف بين هذا الحزب والحشد الشعبي كقوتين حليفتين لإيران تخشى تركيا أن تشكل سيطرتهما على مناطق تلعفر وسنجار مركزا جديدا لعمليات معادية يشنها مقاتلو الحزب، أو أن تشكل موقعا بديلا عن معقلهم الرئيسي في جبال قنديل في أقصى شمال شرقي العراق.

ويسعى تحالف الحشد الشعبي مع حزب العمال الكردستاني في ما بعد معركة الموصل لتأمين التواصل الجغرافي من وسط إيران مرورا بديالى إلى كركوك والموصل وصولا إلى مناطق سيطرة حزب العمال الكردستاني في سنجار ومن ثمّ إلى الشمال والساحل السوريين، وهو الطريق الأقرب لها من طريق بغداد الأنبار دمشق؛ وفي كل الأحوال ترى تركيا في ذلك تهديدا لأمنها القومي ووحدة أراضيها لن تسمح به على المدى البعيد.

عن الكاتب

رائد الحامد

باحث ومحلل سياسي عراقي. سبق أن عمل رئيساً لوحدة البحوث والدراسات في مركز بغداد للبحوث الاستراتيجية، وبعد ذلك كرئيس تحرير مجلة "نوافذ الثقافية" وعمل أيضا كمستشار في مجموعة الازمات الدولية.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس