سعيد الحاج - المعهد المصري

كما كان متوقعاً، ساهمت نتيجة الاستفتاء الشعبي على التعديل الدستوري في إعطاء زخم معنوي لتركيا فيما يتعلق بالأوضاع في سوريا والعراق (1)، وعادت السياسة الخارجية لتتصدر الأجندة بعد أسابيع من الانكفاء على الداخل والاكتفاء بالمشهد السياسي المحلي وعملية الاقتراع على التحول للنظام الرئاسي.

فقد أغارت مقاتلات تركية في الخامس والعشرين من نيسان/أبريل الحالي على مواقع لحزب العمال الكردستاني في سنجار في العراق وأخرى تابعة لوحدات حماية الشعب شمال شرق سوريا (جبال كاراتشوك)، وهي المرة الأولى بالنسبة للمنطقتين. وقد ورد في بيان القوات المسلحة التركية أن 28 طائرة مقاتلة استهدفت على مدى ساعتين كاملتين 39 مقراً لحزب العمال ووحدات الحماية في البلدين، مُوقعة عشرات القتلى في صفوف "الإرهابيين" حسب البيان.

في مبررات الغارات الأولى من نوعها، ذكرت المصادر التركية أن سنجار تحولت لقاعدة جديدة لحزب العمال الكردستاني على غرار جبال قنديل شمال العراق، فضلاً عن مسؤولية المَقرَّيْن عن تفجيرات وعمليات انتحارية في الداخل التركي أهمها تفجير ديار بكر في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر الفائت سيما عبر إرسال السلاح والمتفجرات، حيث اكتشفت السلطات التركية نفقاً يربط بين القامشلي في شمال شرق سوريا والأراضي التركية.

الخطوة التركية غير المسبوقة بدت مفاجئة للولايات المتحدة الأمريكية ولم تنل رضاها، حيث أكد الناطق باسم قوات التحالف الدولي جون دوريان على أن القصف التركي لم يُنسق مع التحالف، فيما عبر الناطق باسم الخارجية الأمريكية مارك تونر عن "قلق بلاده العميق" من الخطوة الأمريكية التي لم تكتف بقصف "حلفاء" واشنطن بل و"عرَّضت حياة جنودها للخطر" حين أبلغتها بالعملية قبل ساعة واحدة فقط من شنها. مشاعر القلق لم تقتصر على الولايات المتحدة، بل عبرت الناطق باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أيضاً عن قلق بلادها من القصف التركي للقوات الكردية.

الرسالة التركية الأولى من العملية هي التأكيد على عدم تهاون أنقرة مع تمركز العمال الكردستاني - المصنف على قوائم الإرهاب التركية - في منطقة سنجار قرب الموصل. وكانت أنقرة قد حذرت لدى بدء معركة الموصل (وخلافها مع حكومة بغداد) من أن ذلك أحد الأسباب التي قد تدفعها للتدخل العسكري المباشر في العراق. وتحوز جبال سنجار أهمية استراتيجية للكردستاني، كبديل أو كإضافة لمعقلها الرئيس في جبال قنديل التي تتعرض لقصف تركي شبه يومي، وكمنطقة قريبة من الموصل التي يحاول الحزب المشاركة في معركتها بطريقة أو بأخرى لكسب مشروعية إقليمية - دولية، فضلاً عن قربها/تواصلها الجغرافي مع مناطق سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) شمال شرق سوريا.

والرسالة الثانية تتعلق بهذه المناطق تحديداً، فهي المرة الأولى التي تقصف فيها تركيا بهذه الدرجة مواقع لوحدات الحماية - الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي - شرق الفرات وخارج نطاق عملية "درع الفرات". هذه الرسالة الحاسمة لها دلالاتها بالتأكيد فيما يخص التحذيرات التركية من استمرار تواجد قوات سوريا الديمقراطية (غالبيتها العظمى من قوات الحماية) في منبج وتهديد أنقرة بإخراجها منها بالقوة، فضلاً عن عفرين وغيرها من مناطق سيطرة الحزب. الأمر إذاً متعلق بمواجهة المشروع السياسي للحزب ومنع تبلوره في دويلة أو إقليم والحد من نفوذه أكثر من مجرد تأمين الحدود من هجماته أو الاكتفاء بمنع التواصل الجغرافي بين كانتوناته.

الرسالة الثالثة أرسلتها أنقرة للولايات المتحدة والتحالف الدولي الذي تقوده، حيث أبلغتها أنقرة بالعملية قبل ساعة واحدة فقط من بدئها، وهي رسالة مزدوجة تشير أولاً إلى عدم انتظارها لإذن أمريكي - دولي حين يتعلق الأمر بضرورات أمنها القومي وثانياً إلى عدم ثقتها بالجانب الأمريكي وتخوفها من تحذيره للمجموعات الكردية في حال أُخبرته باكراً.

إذا كانت هذه هي أهم الرسائل التركية المرتبطة بالقصف الأخير، فإلى أي مدى يمكن أن تذهب أنقرة في هذا المسار؟ توسيع درع الفرات في سوريا وبدء "درع دجلة" في العراق؟

لن يكفي هذا المقال بطبيعة الحال للتطرق إلى كامل المحددات والعوامل والفواعل والظروف المختلفة المؤثرة في سياق التطورات وبلورة القرار، ولذلك سنكتفي ببعض الإشارات.

من المهم بداية أن نلحظ أن الرسائل التركية لم تبق دون رد. فالتعقيبات الأمريكية صدرت على ألسنة الناطقين باسم الخارجية والتحالف الدولي والقيادة المركزية الأمريكية (USCENTCOM)، فضلاً عن زيارة قيادات عسكرية أمريكية للقوات الكردية التي قصفتها تركيا شمال شرق سوريا في رسالة عملية شديدة الوضوح. أكثر من ذلك، يمكن اعتبار استهداف المخافر الحدودية التركية بشكل مستمر منذ القصف إضافة للاشتباكات بين القوات المسلحة التركية والفصائل الكردية في سوريا على الحدود - وهي تطورات غير مسبوقة بهذا الشكل وهذه الوتيرة - رسائل أمريكية ضمنية أيضاً.

فإذا ما أضفنا لذلك التصريحات الروسية المتحفظة على الضربة التركية، يمكن القول إن أي خطط مستقبلية لتركيا بخصوص الفصائل الكردية في سوريا لن تكون بسهولة ما مر من درع الفرات.

الملحوظة الثانية تتعلق بالعوائق القانونية والعسكرية واللوجستية أمام أي عمل عسكري تركي موسع - سيما بري - في العراق على غرار ما جرى في سوريا. فنظرة المجتمع الدولي للحكومة العراقية تختلف عنها للحكومة السورية، ومحاولات التدخل و/أو المشاركة التركية السابقة جوبهت بردات فعل عراقية وعربية، فضلاً عن تواجد البشمركة العراقية التابعة لرئيس إقليم شمال العراق مسعود البارزاني في الجوار وهو ما أدى لسقوط 5 قتلى بين صفوفهم، قدمت أنقرة التعازي بهم للبارزاني واستقدمت بعض جرحاهم للعلاج في مستشفياتها.

وبالتالي فعملية موسعة شبيهة بدرع الفرات قد لا تكون ممكنة و/أو سهلة في العراق حتى ولو أشبهتها في التسمية (درع دجلة). المرجح وفق المتاح حالياً أن تكتفي أنقرة بالضربات الجوية إضافة لدعم البشمركة العراقية وربما لاحقاً الحشد السني/حرس نينوى في مواجهة حزب العمال، الآن أو بعد نهاية معركة الموصل، إلا إذا أقدم الأخير على خطوات لا تستطيع أنقرة الصبر عليها أو السماح بها، في سيناريو مشابه لما حصل في سوريا.

ثمة صعوبات أيضاً تكتنف توسيع أنقرة لنطاق عملياتها العسكرية لتشمل منطقة شرق الفرات شبه المسلــَّم بها للفصائل الكردية، إلا أنه لا تبدو أمراً مستحيلاً. فضعف الحكومة المركزية في سوريا وتواجد القوات التركية على الأرض السورية وحضور لافتة داعش والاستعدادات لمعركة الرقة كلها عوامل تتيح لأنقرة هامشاً أكبر للمناورة في سوريا منه في العراق. قد يعني ذلك ضغطاً أمريكياً على قوات سوريا الديمقراطية لإخلاء منبج، أو تقديم تطمينات وضمانات جديدة لأنقرة بخصوص مستقبل سوريا ودور الفصائل الكردية فيه، وصولاً لإمكانية استمرار الضربات التركية أو توسيعها أكثر بذريعة تهديدها للأمن القومي التركي وسلامة المواطنين داخل أراضيها وليس فقط أمن الحدود.

بكال الأحوال، ما زال من المبكر الحديث عن سيناريوهات جاهزة ومن المجازفة الجزم بسقف التطورات الحالية وأفقها، إلا أن المؤكد أن تركيا بعد الاستفتاء تبدو أكثر حزماً وعزماً على مواجهة حزب العمال الكردستاني وأذرعه المختلفة. ينذر ذلك بتدهور العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تبدي تركيا حرصاً شديداً على استمرار القنوات المفتوحة معها، وهو ما يعني أن زيارة أردوغان لواشنطن الشهر القادم ستكون على جانب كبير من الأهمية على هذا الصعيد، وبالتالي يمكن استبعاد حصول أي تطورات دراماتيكية في هذا الملف قبل الزيارة (2).

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس