احسان الفقيه - خاص ترك برس

وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً    على المرءِ من وَقْعِ الحُسامِ المُهنّدِ

ربما لم يدرك "طَرَفة بن العبد" عندما كتب هذا البيت في مُعلّقته الشهيرة، أنه سوف يرافق زفْرة كل مظلوم أتَى عليه أُولو القرابة والصلة، فتلك هي الطامة الكبرى والداء الدوِيّ.

ها هي قطر التي يُراد نزْع سُمعتها التي اكتسبتها بمواقفها المشهودة، بينما غيرها من دول الجوار لا تُخفي مواقفها البِشعة حِيال الأشِقّاء ومع ذلك يُراد تجميل صورتها، قالها شكسبير من قبل: "البعض ترفعه الخطيئة، والبعض تُسقطه الفضيلة".

بعد أن دُبِّرت المكيدة بليلٍ، وشُحذت السكّين لغرسها في الجسد القطري، وتهيَّأت وسائل الإعلام بالبرامج واللقاءات والضيوف بسرعة البرْق، تمّ دفنُ النفْيِ القطري الصريح لما نُسب إلى أمير قطر، وتجاهلته الأقلام والأبواق الإعلامية عمدا مع سبْق الإصرار والترصّد، لأنه قد آن الأوان لتشريد تلك الدولة التي تحترم ذاتها.

عجبا للقوم، لم يكفِهم تصريح رسمي من الخارجية القطرية باختراق الوكالة القطرية وبث تصريحات مكذوبة منسوبة لأمير قطر، وكذَّبوا ذلك النفي، مخالفين كل الأعراف الدولية التي يتم الركون فيها إلى ما تُعلنه الدول أو تنفيه بصورة رسمية.

تذكّرتُ أحداث الحادي عشر من سبتمبر عندما صرّح الرئيس الأمريكي بوش، بأنها حرب صليبية جديدة، ثم تدارك الخطر واعتذر بأنه لم يقصد المعنى الذي فهمه العرب والمسلمون، وساعتها قَبِلنا وانتهى الأمر، ولم نَرَ الأقلام العربية تُشكِّك في الاعتذار، أو تُطَنْطِن حول التصريح الذي تمّ بثُّه بالصوت والصورة.

في أزمة التصريحات القطرية لم يكن ثمة تصريح مرئي يستحيل معه نفي التصريحات، إنما هي تصريحات مكتوبة يكون احتمال الاختراق معها قويا بلا أدنى شك، ومع ذلك لم يقبَل القوم بالتصريحات الرسمية النافية.

الصيغة التي يتم بها الهجوم في الوقت الحالي على قطر هي: "ننتظر من أمير قطر تصريحا رسميا يبين موقفه من جميع القضايا الحيوية في المنطقة، إيران، الكيان الإسرائيلي، الإخوان المسلمين...".

وهكذا يتم التعامل مع رأس النظام القطري على أنه مسؤول في شركة يجب عليه تقديم كشف حساب، أو كمُتَّهم يقف أمام هيئة القضاء للدفاع عن نفسه، فأي هراء ذلك الذي ينشدون؟!

عارٌ أن يتم التعامل بهذه الصورة مع دولة قطر التي هي جزء أساس في المُكوِّن الخليجي والعربي والإسلامي، وكيف يستقيم أن تُطالَب قطر ببيان ما سبَق أنْ بيَّنَته وأعْرَبتْ عنه مرارا وتكرارا بتصريحات رسمية؟

هل يُطالِبون قطر بتوضيح موقفها من إيران؟ ألَمْ يُصرِّح أمير قطر في غير موْطن بموقف بلاده المساند للشعب السوري ورفض وجود بشار الأسد، رجل إيران؟

ألَمْ تُعلن قطر دعم الشرعية في اليمن ورفض الانقلاب الحوثي وشاركت بالتحالف العربي الذي تقوده السعودية لوقف التمدد الإيراني عن طريق الحوثيين؟

فكيف يستقيم ذلك مع زعمهم بأن قطر تُفضّل إيران على دول المجلس الخليجي؟

هل يُطالبون قطر بتوضيح موقفها من جماعة الإخوان المسلمين؟ ألم توضّح من قبل أنها لا تضع الجماعات كلها في سلة واحدة؟

في قمة عمّان، قالها الأمير تميم بالحرف الواحد: "إذا كنا جادّين في تركيز الجهود على المنظمات الإرهابية المسلحة، هل من الإنصاف أن نبذل جهدا لاعتبار تيارات سياسية نختلف معها إرهابية، على الرغم من أنها ليست كذلك. وهل هدفنا أن نزيد عدد الإرهابيين في هذا العالم؟.

وتابع الأمير: "إن مكافحة الإرهاب هي قضية استراتيجية ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية وثقافية، وبالطبع أمنية أيضا، وهي أخطر من أن نخضعها للخلافات والمصالح السياسية والشد والجذب بين الأنظمة".

تلك هي رؤية قطر لجماعات التيار الإسلامي، وما أعقلها من نظرة، إذ أنها تسهم في منْع اتساع رقْعَة الإرهاب وانتشاره لو كانوا يعقلون، فلو تحولت كل جماعة إسلامية معتدلة وفق تصنيفاتنا إلى إرهابية، سنجد أنفسنا أمام شرائح واسعة في الشعوب العربية والإسلامية تنتمي أو تؤيد هذه الجماعات تتعرض للتصنيف ذاته.

وهل يطالبون قطر بتوضيح موقفها من الاحتلال الإسرائيلي؟

هو أمر يثير السخرية، فكيف يُطلب ذلك من قطر وهي التي تحتضن على أرضها مكتب حماس، التي تعد أقوى شوكة في حلقوم الاحتلال، وكيف نُطالب قطر بتوضيح موقفها من الكيان الإسرائيلي وهي شريان الحياة الذي يمتد إلى قطاع غزة المحاصر، وكيف نطالبها بذلك وهي التي تؤكد في المحافل الرسمية على دعمها للقضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في تحرير كامل أراضيه؟

يقينًا لو خرج عليهم أمير قطر ببيان توضيحي لموقف قطر من قضايا المنطقة، لقالوا إنه مجرد تصريح لإنقاذ نفسه من تلك الورطة، ويُناقض حقيقة مواقفها على أرض الواقع.

كلمة السر هي دولة في الجوار انبرى زعيمها المُبجَّل ليكون رجل أمريكا الأول في المنطقة، وارتبط بعلاقات وطيدة مع الكيان الإسرائيلي على أعلى مستوى، وحمل على عاتقه إجهاض ثورات الربيع العربي التي تُهدده بزحف الديموقراطية وتدويل السلطة إلى بلاده، وسخّر نفسه لملاحقة التيار الإسلامي.

الذين يطالبون قطر بتوضيح موقفها تجاه جميع الملفات الساخنة بالمنطقة، لماذا لم يطالبوا دولة الجوار هذه بتوضيح موقفها من عاصفة الحزم، وهي التي فتحت أبواب صنعاء نِكاية في الإسلاميين، واحتضنت فكرة الانفصال الجنوبي عن اليمن، وارتبطت بعلاقات تجارية مع إيران تجعلها الأولى خليجيا في هذا الشأن؟

ولماذا لا يُطالبون بالشيء نفسه، دولة دعَّمت نظام الأسد في المحافل الدولية، وتورّطت في دعم الحوثيين، وأرسلت طائراتها إلى الأراضي الليبية لدعم حفتر؟

ولماذا لم يطالبوا بالشيء ذاته، دولة ثالثة كانت راعية لاتفاقية النووي بين إيران ودول 5+1 والتي أتت على مصلحة الأمن الخليجي؟

كان الأولى بالأشقَّاء احتضان قطر حتى مع فرض صحة التصريحات، أسوة بزعيم الانقلاب في مصر، ألم يُصدِّع أصحاب الأقلام رؤوسنا بضرورة احتوائه حتى لا يرتمي في أحضان إيران؟ ألا يسع هذا المنطق دولة قطر؟

لكن الأمر كما يبدو لي ولغيري، أن دولة الجوار سالفة الذكر تسعى لقتل تطلُّعات الأمة إلى التحرُّر، ومِن ثَمَّ وجَّهت جهودها ضد قطر وتركيا تحديدا لأنهما في طليعة من يُعبّر عن هذه الروح.

سعت تلك الدولة إلى إفساد العلاقات بين السعودية وبين أقرب جيرانها وأصدقهم وأكثرهم وقوفا إلى جانبها في قضاياها المختلفة (قطر)، كل هذه الدناءة لأن لزعيم تلك الدولة أطماعا وطموحات لإدارة المنطقة وفق عقليته المبرمجة على الهوى الغربي، وقد بشّر بنفسه عبر سفيره في واشنطن قائلا بالحرف: (نحن الوعد بشرق أوسط جديد)، نعم هذا ما تُقاتل من أجله تلك الدولة التي اشترت الضمائر والمواقف والأقلام، ترافق ذلك بتكريس إسلام من نوع جديد يتلاءم وضرورات الانبطاح للقوى الكبرى، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عن الكاتب

احسان الفقيه

كاتبة أردنية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس