مد خط أنابيب النفط "باكو-تبيليسي-جيهان" وخط أنابيب الغاز نابوكو" إلى غرب أوروبا: هل يمثل إعادة لهندسة رسم خطوط الطاقة في بلاد القوقاز أم أنه خطوة قد تسهم  بعرقلة ممرات الطاقة بين الشرق والغرب؟

د. محمد عزيز عبد الحسن - خاص ترك برس

في أوائل القرن العشرين، أسس أتاتورك تركيا الحديثة كدولةٍ علمانية وأوروبية وغربية.

وقد قام بتوجيه موارد الدولة نحو هندسةٍ اجتماعية في إطار تنازلي (البدء بالمفاهيم العليا ثم النزول إلى التفاصيل)، واليوم، استطاع الرئيس التركي أردوغان استخدام سلطته في تشكيل تركيا، كبلد شرق أوسطي، ومحافظ وإسلامي سياسيًا. وتحقيقًا لهذه الغاية، يسعى  السيد أردوغان إلى الاستعانة بأساليب أتاتورك في إطار تنازلي (من الأعلى إلى الأسفل).

فقد أصبحت تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية دولةً أكثر تنوّعًا سياسيًا واجتماعيًا في العقد الأخير، وذلك بفضل النمو الاقتصادي الذي حقّقه السيد أردوغان. من خلال اعتماد استراتيجية تنطلق من ركائز ثلاثة وكما يلي:

أولًا: اعتماد الإسلامية الاقتصادية أي التوجه "الإسلامي-الاقتصادي" للسياسة الخارجية لـ«حزب العدالة والتنمية» في تحويل تركيا إلى دولة ذات علاقات جيدة، بل وأحيانًا أكثر ودية، مع إيران، وروسيا، وسوريا، والسودان، و«حماس»، وحزب الله، وقطر والمملكة العربية السعودية، وهي مشابهة للعلاقات التي تتمتع بها مع الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي وإسرائيل».

ثانيًا: إدراك السيد أردوغان  أن العلاقة بين التنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي هي علاقة تكاملية هامة للغاية، وسبب ذلك أنه لا يمكن للتنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي أن يتحققا دون الاهتمام بالجانب الاجتماعي والاقتصادي للمواطن التركي.

ثالثًا: إضفاء الطابع الأمني المقتبس من مدرسة كوبنهاغن الفكرية في التعامل مع قضايا الأمن القومي التركي.ووفقًا لهذه النظرية، تلغي الحكومة قضية من الدائرة السياسية عندما تريد التعامل معها على أنها مصدر قلق حصري بالنسبة إلى الأمن القومي، مما يسمح للدولة باتخاذ تدابير استثنائية مبررة في حالة التهديد الأمني.

تبدأ «دائرة الطاقة في بلاد القوقاز» في الدول الغنية بالنفط والغاز على بحر قزوين، وهي أذربيجان وتركمانستان وكازاخستان. فأذربيجان، الواقعة إلى الغرب من حوض بحر قزوين، هي المصدر لأي خطوط طاقة منبثقة عن الحوض.

وفي الشمال تريد روسيا أن تكون المشتري الوحيد من هذه المصادر، لكي يمكنها أن تستحوذ على المبيعات إلى الأسواق الغربية. ومع ذلك، عملت أذربيجان، حتى الآن، مع الغرب وتركيا لبناء خطوط الأنابيب، بدلًا من عملها مع روسيا. "وتغلق" تركيا، التي تقع إلى الغرب، دائرة الطاقة باعتبارها المحطة الأخيرة لخطوط الأنابيب.

وقد انضمت الولايات المتحدة إلى «دائرة بلاد القوقاز» في التسعينات من القرن الماضي، بدعمها بناء "خط أنابيب النفط باكو-تبيليسي-جيهان" الممتد من أذربيجان إلى تركيا، وبذلك نجحت في تجاوز روسيا.

لقد كان هذا الخط واحد من اثنين فقط من خطوط الأنابيب الممتدة من بحر قزوين وباتجاه الغرب دون المرور عبر روسيا.

كيف تنظر كل من الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وإسرائيل وإيران وروسيا إلى مد هذا الخط؟

ومن جانبها، تريد واشنطن ازدهار "خط أنابيب النفط باكو-تبيليسي-جيهان" ومد مشاريع لخطوط أنابيب جديدة، سواء كان ذلك شرقًا إلى كازاخستان وتركمانستان أو غربًا باتجاه أوروبا، بما في ذلك تمديد "خط أنابيب الغاز نابوكو" إلى غرب أوروبا.

وفي هذا المسعى، تشكل تركيا بلد عبور بالغ الأهمية، ولكن لا تزال أذربيجان هي البلد الرئيسي حيث تنبع منها خطوط الأنابيب. ولا يمكن أن يكون وجود لخطوط أنابيب النفط "باكو-تبيليسي-جيهان" و"نابوكو" بدون أذربيجان؛ أو بمعنى آخر بدون هذه الأخيرة، سيكون الممر بين الشرق والغرب مجرد خط أنابيب وهمي.

وقد اصطدمت طهران مع أذربيجان مرات عديدة على مدى العقدين الماضيين، ولم تكن طبيعة علاقتهما متأتية كنتيجة مباشرة لتعاملات أذربيجان مع إسرائيل. ومن المؤكد أن التقارب الأذري الإسرائيلي هو شكل من أشكال التحدي الاستراتيجي الأوسع نطاقًا الذي تواجهه باكو (بما في ذلك محاولات متكررة لزعزعة الاستقرار تقوم بها إيران وروسيا في محاولاتهما لاستعادة السيطرة على منطقة بحر قزوين)، ولكن طهران لا تشكل سوى جزء من هذه الحسابات.

و لدى أذربيجان أسباب استراتيجية وجيهة ومستقلة وراء تعاونها مع إسرائيل وعلاقتها الضعيفة مع إيران. وعلى الرغم من تصريحات طهران التي تأتي على النقيض من ذلك، هناك توجهات إقليمية مشتركة تربط باكو وإسرائيل، كما يوجد تعاون استراتيجي قوي مع الولايات المتحدة، بينما تشكل إيران تهديدًا أمنيًا قويًا على البلاد.

وعن التقارب التركي الأرمني وأثره على علاقة تركيا بأذربيجان.

فإنه يمكن القول إن لأذربيجان نزاع مع أرمينيا منذ أوائل تسعينات القرن الماضي، بسبب احتلال أرمينيا لأراضي أذرية، بما في ذلك جيب ناغورني كاراباخ. وتدعم تركيا منذ فترة طويلة الدولة المسلمة أذربيجان - التي هي أيضًا بلد يتكلم سكانه اللغة التركية - ضد الاحتلال الأرميني، وذلك بحفظها على حدودها مغلقة مع يريفان، لإجبار أرمينيا على الانسحاب.

وقد أدى هذا الموقف إلى جعل العلاقات بين تركيا وأذربيجان متماسكة في التسعينات من القرن الماضي، مما سمح للولايات المتحدة بالعمل مع كلا البلدين لبناء "خط أنابيب النفط باكو-تبيليسي-جيهان".

ومع ذلك، إذا تحسنت العلاقات التركية-الأرمينية بدون ضمانات أرمينية لإنهاء الاحتلال، ستشعر أذربيجان بأنها قد رُفضت من قبل تركيا.

ويشير المحللون بأن تركيا ستقيم قريبًا علاقات دبلوماسية مع أرمينيا، وتفتح حدودها أمام التجارة مع هذا البلد وتنطلق الاستراتيجية التركية إزاء أرمينيا من باب توسيع الشراكة حول أمن الطاقة في حوض بحر قزوين "والشراكة مع تركيا حول أمن الطاقة". تعد إحدى الوسائل لتنويع العلاقات التركية الأمريكية وتحويل التركيز من الاعتماد على نفط الشرق الأوسط، سيكون بالتكاتف مع تركيا للوصول إلى حقول الطاقة في حوض بحر قزوين، وبناء خطوط لأنابيب النفط والغاز، مثل خط أنابيب نابوكو المتوقع منذ فترة طويلة، لكي يتم ربط وسط آسيا بأوروبا عبر تركيا.

من شأن هذه الاستراتيجية أن تقلل من اعتماد الغرب على نفط الشرق الأوسط واعتماد أوروبا على الطاقة الروسية على حد سواء، وتكون حافز لنجاح المحادثات بين تركيا والاتحاد الأوروبي.

وفي الواقع، وتحسبًا للتقارب بين تركيا وأرمينيا، فقد ألمحت أذربيجان بأنها تريد تزويد موسكو بالغاز والنفط من أراضيها لكي تعبر بذلك عن صداقتها تجاه روسيا.

وتكمن الحيلة في تطبيع العلاقات التركية-الأرمينية، بحيث يتم تحقيق ذلك في الوقت الذي تحتفظ فيه تركيا وأذربيجان على سياساتهما المنسقة.

وهنا يطرح التساؤل المشروع:

هل سيكون محور أذربيجان-أرمينيا-تركيا، العمود الفقري لواشنطن في «دائرة بلاد القوقاز»، ولكن ذلك لن يكون ممكناً إلا إذا رافق التقارب التركي-الأرميني الجاري حاليًا، ضماناً من أرمينيا بأنها مستعدة لتسوية نزاع ناغورني-كاراباخ مع أذربيجان.

وينبغي على واشنطن وأنقرة، أن تنظم إلى «دائرة بلاد القوقاز» لتحقيق هذه الغاية الاستراتيجية.

على تركيا وأرمينيا المضي قدمًا في سياسة التقارب بينهما، ويتعين على واشنطن دعم هذه العملية. ومع ذلك، سيكون من المؤسف إذا نجحت الولايات المتحدة في كسب ود أرمينيا بينما تخسر ذلك مع أذربيجان. إن كسر «دائرة الطاقة في بلاد القوقاز» سوف يوصل الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة في منطقة القوقاز إلى طريق مسدود، ويؤدي إلى التنازل عن المنطقة بأكملها وعن مواردها من الطاقة لصالح دائرة المالك الجديد، روسيا.

بالمقابل يرى خبراء الطاقة إلى أنه لا ينبغي أن يأتي تحسن العلاقات التركية-الأرمينية على حساب ممر الطاقة الموصل بين الشرق والغرب، وبمعنى آخر، التعاون فيما يتعلق بالأنابيب الممتدة من أذربيجان إلى تركيا. ويعتبر هذا الممر أداة استراتيجية حاسمة بالنسبة لواشنطن من أجل تقليص الاعتماد الغربي على النفط والغاز من الشرق الأوسط.

وحسب تقرير أوردته (رويترز) - قالت شركة الطاقة المملوكة للدولة في أذربيجان (سوكار) إن صادرات النفط عبر خط أنابيب باكو-تبليسي-جيهان بلغت 14.9 مليون طن في النصف الاول من العام الحالي بزيادة قدرها 2.8 بالمئة عن الفترة نفسها من 2015.

وكانت صادرات النفط عبر خط الأنابيب الذي يمر في أراضي جورجيا وتركيا قد ارتفعت 1.5 بالمئة في 2015 إلى 28.84 مليون طن.

وتصدر أدربيجان النفط عبر خط الأنابيب من حقلي تشيراج وجونشلي النفطيين اللذين تشغلهما شركة بي.بي البريطانية.

وتصدر أيضا الخام عبر روسيا من خلال أنابيب باكو-نوفوروسييسك وعبر أراضي جورجيا بالسكك الحديدية ومن خلال خط أنابيب باكو-سوبسا.

ويجري تصدير نفط من قازاخستان وتركمانستان أيضا عبر خط أنابيب باكو-تبليسي-جيهان.

وتتوقع ارتفاع هذه النسب خلال عامي 2016/ 2017.

ومن الجدير بالذكر أنه قد فازت شركة يونانية بأول عقد لإنشاء خط أنابيب النفط الذي يربط باكو (أذربيجان) بميناء جيهان (تركيا) عبر تبليسي (جورجيا) وتبلغ قيمته 4.9 مليارات دولار.

أعلنت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أنّ تركيا في وضع يؤهلها لتلعب دورًا هامًا كمركز لنقل النفط والغاز الطبيعي من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وروسيا إلى أوروبا والمحيط الأطلسي.

وأكّدت الإدارة ضمن بياناتها التي نشرت في وقت مبكر من شهر تموز/ يوليو الجاري أنّ تركيا كانت مركزًا رئيسيًا لنقل النفط، وهي تكتسب الآن مكانة أكبر كمركز رئيسي للغاز الطبيعي.

ويُعدّ مضيقا البوسفور والدردنيل بوابتان رئيسيتان للنفط الخام من روسيا وبحر قزوين إلى الأسواق الدولية.

وتقول إدارة الطاقة الأمريكية إنّ "تركيا في وضع مؤهل لتكون مركزًا رئيسيًا لنقل الغاز الطبيعي"، وتتابع: "إلا أنّ معظم خطوط نقل الغاز الطبيعي تنقل الغاز إلى داخل البلاد، حيث لم يترك الطلب المتزايد على الغاز كمية كافية للتصدير".

وأرجعت إدارة الطاقة ارتفاع الطلب على الغاز في تركيا إلى النمو الاقتصادي وارتفاع الطلب على الطاقة، حيث عملت الدولة على تجنّب ركود اقتصادي ضرب معظم الدول الأوروبية. وتشير الإدارة إلى أنّ "تركيا مرّت منذ عام 2010 بإحدى أكبر معدلات النمو في الطلب على الطاقة بين دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي (OECD)".

يُوفر خط أنابيب نقل الغاز الإيراني المعروف بـ"خط تبريز - أنقرة" لتركيا ما مقداره 10 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا، وفقًا لبيانات شركة خطوط أنابيب النفط التركية "بوتاش (BOTAŞ)"

ويحمل خط أنابيب "باكو - تبليسي - أرضروم" والمعروف بخط أنابيب جنوب القوقاز ما مقداره 6,6 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا إلى تركيا.

عن الكاتب

د. محمد عزيز البياتي

أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي في كلية العلوم السياسية بجامعة بغداد


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس