التدخل العسكري التركي في قطر: رادع استراتيجي معقد أم استراتيجية صراع منخفض الحدة، أم أن أنقرة تتفاعل مع ما يُعرف بـ "عقيدة غيراسيموف الروسية؟"

د. محمد عزيز عبد الحسن - خاص ترك برس

إن الأزمة الأخيرة بين دول الخليج العربي وتركيا، على خلفية الوجود العسكري التركي في قطر  قد سلطت الضوء على قضية تعود إلى أحداث عام 1893. في ذلك العام، أرسل العثمانيون جنودًا إلى قطر لقمع معارضة الحاكم المحلي قاسم بن محمد آل ثاني للإصلاحات الإدارية المقترحة من قبل إسطنبول. وبقي الجيش العثماني في قطر حتى سقوط الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وهي مدة أطول من بقائه في أي إمارة أخرى من الخليج.

وقد حال كيان قطر المستقل في ظل الحقبة العثمانية دون امتصاصها من قبل الدولة السعودية المتوسعة بين العامين 1899 و1926. ومؤخرًا، ساهمت الرؤية السياسية المشتركة المتعلقة بالشرق الأوسط في تقريب الأتراك والقطريين من بعضهم البعض.

فمنذ بروز حكومة "حزب العدالة والتنمية" في تركيا عام 2002، دعمت الدوحة وأنقرة عدة أحزاب إسلامية في المنطقة، غالبًا من خلال تشكيل تحالفات بفعل الأمر الواقع في دول مثل مصر وسوريا وأحيانًا ضد رغبات الرياض، وهي حليف إقليمي أساسي آخر لتركيا.

ويكمن إرجاع الدافع الاستراتيجي لهذا الانتشار الأمامي التركي إلى نقلة نوعية، فقد صوّت البرلمان التركي يوم 7 يونيو/ حزيران الفائت على مشروعيْ قرار، يتعلق الأول بتدريب وتأهيل قوات الدرك القطرية، والثاني بتطوير  اتفاقية التعاون العسكري المبرمة مسبقاً بين البلدين.

خاصة وان العقيدة العسكرية التركية كانت قد تطورت استراتيجتها العسكرية وكما يلي:

أولا: في التسعينيات، عندما تبنت "القوات المسلحة التركية" استراتيجية صراع منخفض الحدة رداً على تهديدات إرهابية صادرة عن "حزب العمال الكردستاني".

ثانيا: يشكل الانتشار الحالي في قطر امتدادًا لردة فعل أنقرة الجيوستراتيجية على الحروب الصغيرة على طول حدودها الجنوبية، ومن غير المرجح أن تنسحب "القوات المسلحة التركية" من شمال العراق في المستقبل القريب إلى المتوسط.

ثالثا: تبنت "القوات المسلحة التركية" استراتيجية قائمة على البحث والتدمير بدلًا من مقاربتها الدفاعية السابقة المرتكزة على المراكز العسكرية، ولتحقيق هدفها الأسمى المتمثل في اكتساب عمق استراتيجي في شمال العراق والصومال وقطر، بدأت "القوات المسلحة التركية" بإرساء وجود دائم لها بالتزامن مع حملاتها عبر الحدود.

رابعا: تدرك تركيا أنها غير قادرة على منافسة أمريكا أو حلف الناتو أو حلفائها الأوروبيين، أو أن تلعب بالمستوى نفسه عسكريا في منطقة الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوجود منافسين إقليميين مثل إسرائيل ومصر وإيران. ولذا فان الواقع الجيوستراتيجي يفرض على تركيا أن تلجأ لما يسمى "الحرب الهجينة"، والتي رسمتها ما عرف باسم "عقيدة غيراسيموف التي وضعها عام 2013 رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الروسية، وجاء فيها أنه "في العالم المعاصر تبدو الخطوط بين الحرب والسلام غير واضحة، وغالبًا ما تكون الصراعات غامضة."

وبموجب عقيدة غيراسيموف، يتم استغلال ضعف الخصم. "مهما بلغ حجم القوات التي يملكها العدو، ومهما بلغت درجة تطور قواته ووسائله الحربية، من الممكن إيجاد السبل والأدوات اللازمة للتغلب عليه. إذ سيكون دوماً لدى الخصم نقاط ضعف، وذلك يعني البحث عن وسائل مناسبة لمحاربته".

خامسا: التنسيق بين القوات التركية والإيرانية شكّل انعطافة مميزة في منطقة الشرق الأوسط، وأثبت أن ما يحدث بين إيران وتركيا هو مجرد تنافس وليس صراعًا على مناطق النفوذ سواء في العراق أو سوريا أو حتى ترتيب أوضاع إقليمية على مستوى الخليج العربي أو ترتيب أوضاع الخليج العربي أمنيا، وربما مشاركة عبء أمن الخليج العربي مع الولايات المتحدة الأمريكية، أو يمثل هذا التنسيق فرصة لتوسيع التعاون العسكري القطري الإيراني التركي على مستوى القوات البحرية أو الجوية أو البرية، أو بناء قواعد جديدة سواء كانت تركية أو إيرانية في قطر، أو يفتح آفاقًا جديدة للأتراك أو الإيرانيين لعرض معداتهم أو تبادل التكنولوجيا العسكرية... إلخ.

سادسا: وجود القاعدة العسكرية التركية في قطر سوف يعني عمليا فرصة ميدانية للجيش التركي للتدريب في الصحراء يفتقر إليها حاليًا، مما يسمح للقوات البحرية التركية بإنجاز عمليات مكافحة القرصنة وعمليات أخرى في الخليج العربي والمحيط الهندي وبحر العرب، وقد تشكل القاعدة مركز للعمليات التركية المستقبلية ما وراء البحار.

وأخيرًا التنسيق العسكري التركي الإيراني إزاء أزمة قطر أثبت لكل الطرفين المتنافسين (تركيا وإيران) الآتي:

أولاً: إن أهمية الخليج العربي الجيوسياسية والاستراتيجية هو بيئة أكثر تقلبًا من حدود تركيا البرية مع إيران.

ثانيًا: إن الانتشار العسكري سواء كان تركيًا أو إيرانيًا  في قطر لن يشكل على المدى المنظور القريب أي مأزق أو عبء عسكري يترك أثرًا سلبيًا على توازنات القوى الإقليمية في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، خاصة وأن وجود القوات التركية في قطر قد تم بموجب تنسيق وتفاهم محكوم بموجب اتفاقية قانونية بين البلدين القطري والتركي.

وخلاصة القول الآتي:

أولًا: أثبتت الأزمة القطرية والتدخل العسكري التركي فيها أن الرئيس التركي أردوغان ظهر كمنافس قوي لكل من مصر وتركيا في شؤون المشرق العربي، والأهم من ذلك، في السياسة.

فقد فاز الزعيم التركي المتحالف مع قطر وإيران بصورة النموذج اللامع للسياسة الإسلامية في الشرق الأوسط. أما في نجاح أردوغان، فترى مصر والسعودية تجسيدًا لخصومه السياسيين.

ويشير ذلك إلى أنه من غير المرجح أن تتعافى العلاقات التركية المصرية أو السعودية التركية في المستقبل القريب. وفي الواقع، من المحتمل أن تزيد المنافسة الإقليمية بين السلطتين  المصرية والسعودية ضد الزعامة  للرئيس أردوغان من تغذية النزاعات القائمة بدءًا من غزة مرورًا بقبرص ووصولًا إلى العراق.

ثانيًا: إن المسار الأكثر خطورة هو قيام قطر بلعب أوراقها العسكرية.

 فبإمكانها البدء بذلك مع الولايات المتحدة، التي لديها اتفاقات تعاون أمني مع قطر يرجع تاريخها إلى عامي 1992 و2013، وتستخدم بموجبها الولايات المتحدة "قاعدة العُديد الجوية" كمركز حيوي للضربات ومركز القيادة/ السيطرة في المنطقة.

وقد نصت هذه الاتفاقيات، سواء ضمنيًا أم صراحةً، على أن بإمكان البلد المضيف أن "يدعو" الولايات المتحدة للمساعدة إذا واجه هذا البلد تهديدًا أمنيًا.

وفي حين تبقى هذه الالتزامات ملزمةً قانونيًا...

عن الكاتب

د. محمد عزيز البياتي

أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي في كلية العلوم السياسية بجامعة بغداد


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس