د. علي المر - خاص ترك برس

نواز شريف " رئيس وزراء باكستان الخارج من السلطة مؤخراً " رجل مواقف صلب وسياسي بارع؛ ينتمي لحزب الرابطة الإسلامية الأكثر انتشاراً وقبولاً في الباكستان. انتهت ولايته بقرار من المحكمة بتهمة فساد. ولقد مرَّ الحدث دون أن يتوقف عنده الإعلام، مع أن الرجل من كبار السياسيين في العالم. وعمل لبلاده ما لا يعمله الكثيرون ممن يسلط الإعلام عليهم الضوء، إذا صعدوا وإذا هبطوا. فماذا وراء الأكمة؟ وماذا يجب أن يعرف الناس عن نواز شريف؟

ينحدر نواز شريف من أسرة كشميرية متدينة وغنية؛ تملك مجموعة صناعية وتجارية كبيرة، متخصصة في إنتاج الصلب والسكر وفي الزراعة والنقل، تقدر أصولها بمليارات الدولارات. 

كانت أول معرفتي بالرجل عبر الإعلام، في منتصف (السبعينيات) من القرن الماضي. كنت، حينها، على مقاعد الدراسة في المعهد الباكستاني للعلوم والتقنيات النووية، قرب مدينة إسلام أباد العاصمة. وكان نواز شريف، حينها، عضواً بارزاً في حزب الرابطة الإسلامية.

في تلك الآونة ضربت فيضانات عنيفة إقليم البنجاب الباكستاني، وأحدثت: دماراً كبيراً في المدن والقرى، والبنى التحتية؛ وخربت المحاصيل الزراعية؛ وشردت الآلاف من الناس من منازلهم. ولقد شاهدنا الرجل، في التلفاز، يتجول في المناطق المنكوبة؛ يواسي المنكوبين. ولقد بث التلفزيون الرسمي له خطاباً، كان مفاجئاً، حتى للباكستانيين. وكان مما جاء فيه: " لقد انتهى زمن الدعة والاستجداء. نحن أمة عظيمة، لدينا اكتفاء غذائي كامل بنسبة مئة في المئة. واكتفاء صناعي كبير جداً. لن نمد أيدينا بعد اليوم للخارج لكي يمنوا علينا بالبطانيات والمساعدات والدواء والغذاء. مخازننا ملآ، وما على الحكومة الباكستانية إلا أن تأمر بفتحها لكل محتاج يأخذ منها ما يحتاجه". ولقد كانت كلماته وموقفه موضع تقدير وفخار من عموم الشعب الباكستاني؛ حتى خصومه السياسيين.

خبرناه أيضاً في مواقفه الشجاعة في رفض تدخل الجيش في الحكم والسياسة، ولقد كلَّفه ذلك الكثير من العناء ومحاولات الانقلاب، حتى أطيح به عام 1999 إثر انقلاب عسكري قاده رئيس أركان الجيش، في حينه، الجنيرال برفيز مشرف.

من مواقفه التي لن ينساها التاريخ، كذلك، ولن ينساها له أعداؤه، موقفه من التهديد الهندي لباكستان عام 1998. في شهر أيار من ذلك العام: أقدمت الهند، العدو اللدود والمزمن لباكستان، على اختبار خمس قنابل ذرية، دفعة واحدة، بعد اختبارها الأول الذي أجرته عام 1974. في الوقت الذي كانت قد حشدت مئات الألوف من قواتها وهددت باجتياح الحدود إلى داخل أرض الباكستان، التي تآلب العالم على تقسيمها عام 1971، فيما فُهِم منه أنه عملية استعراضية من جانب الهند، لتخويف الباكستان ومنعها من الإقدام على إجراء أي اختبار نووي رداً على الاختبارات التي قامت بها.

دعا نواز شريف حكومته لاجتماع طارئ لتدارس الموقف، بعد التفجيرات الهندية؛ ثم خرج، بعد ربع ساعة فقط، ليعلن لوسائل الإعلام: أن حكومته سوف لا تتأخر في الرد على الغطرسة الهندية باللغة التي تفهمها.

وكما حصل في عام 1974، عندما اختبرت الهند قنبلتا النووية الأولى: هبت القوى الكبرى في العالم تدعو نواز شريف، والحكومة الباكستانية إن كان لديها سلاح نووي، إلى التحلي بالصبر، وضبط النفس، وعدم اختبار أي سلاح نووي رداً على الهند، بدعوى أن أي عمل باكستاني، من هذا النوع، سوف يزيد الأمور تعقيداً، وقد يدفع الهند لتحريك قواتها عبر الحدود المشتركة؛ إذا هو أصر على موقفه.

لم يلتفت نواز شريف إلى الصخب في العالم، ومن حوله، وانشغل بالترتيبات الداخلية للرد على الهند، وأمر العلماء بالتحرك لاختبار سلاح الباكستان النووي الأول، "ليسيئوا وجوه أعداء باكستان والإسلام، ويُروا الهند عاقبة فعلتها الخرقاء!". وبعد 15 يوم فقط، بتاريخ 28 أيار 1998، زُلزلت الأرض بستة تفجيرات نووية باكستانية، فَهِمت منها يومها: أنها: خمسة مقابل التفجيرات الخمسة التي كانت الهند قد أجرتها للتو، عام 1998؛ وواحدة مقابل واحدة الهند عام1974. ولقد رُصدت ارتدادات هذه التفجيرات من روسيا وأوروبا والولايات المتحدة. وبينما انشغلت القوى العالمية بالتحليل والاستنتاج ومحاولة التقليل من نوعية وقدرة القنابل الذرية الباكستانية، ألقى نواز شريف خطاب النصر، وقال فيه:" إن على الهند أن تسحب قواتها بعيداً، عن حدودنا، وخلاف ذلك سوف تضطر الباكستان لاختبار الدفعة الثانية من قنابلنا الذرية في قلب دلهي الجديدة (العاصمة الهندية)".

وعلى الفور دعا جورج فرنانديز، وزير حرب الهند، في حينه، لعقد مؤتمر صحفي؛ وأعلن: أنه لا بد للدولتين النوويتين الجارتين من التعايش بسلام؛ ودعا إلى تخفيف حدة التوتر بين البلدين. ولإثبات حسن النية: أعلن أنه وجَّه بالمباشرة بسحب نصف مليون جندي من قواته، كان قد حشدها على حدود الباكستان؛ وطلب من الباكستان أن تنحو نفس المنحى لتجنيب البلدين النوويين عواقب غير محمودة.

لم يَرُقْ ما فعله نواز شريف للقوى العالمية. وبعد عام من التفجيرات النووية، بتاريخ 12/10/1999، قام رئيس أركان الجيش الباكستاني بتدبير انقلاب عسكري على نواز شريف، وأودعه السجن. وألقى القبض على العالم عبد القدير خان، أبو القنبلة الذرية الباكستانية، الذي لفقت له تهمة بيع الأسرار النووية الباكستانية لليبيا وإيران ... وغيرهما/ ووضع رهن الإقامة الجبرية. ووصل الإسفاف أن تذيع بعض وسائل الإعلام، العربية المتصهينة، أن العالم الكبير باع تصاميم نووية، على أقراص مدمجة، لتجار في السوق السوداء بثمن بخس، دراهم معدودة. وأنه هدد بذلك الأمن العالمي للخطر. كان ذلك في بداية احتلال أميركا والغرب لأفغانستان، والذي يهدف، من بين ما يهدف، كما يرى المراقبون، إلى إضعاف الباكستان وتدمير برنامجها النووي، ونزع سلاحها النووي، أو القنبلة الذرية الإسلامية كما يحلو للغرب تسميتها، بدعوى الخوف من سقوط هذا السلاح الخطير بيد التنظيمات الإرهابية (الإسلامية).

انكشفت دوافع الانقلاب، واضطر قائد الانقلاب للتخلي عن الحكم تحت الضغط الشعبي. وعادت العملية الديموقراطية إلى الباكستان؛ وعاد معها نواز شريف، في 25/10/20007، بعد ثماني سنوت قضاها في المنفى، وانتخب رئيساً للوزراء، للمرة الثالثة في حياته السياسية بتاريخ 5/6/2013. ومنذ استلامه الحكم ظل الرجل يتعرض للضغوط، من خصوم الداخل والخارج. من الداخل: بتظاهرات تهدف للإطاحة به، بدعوى الإصلاح؛ وبتفجيرات تنفذها أيدٍ خفيه، لتثير البلبلة والاضطراب في البلاد، عادة ما ظلت تنسب لما يسمى حركة طالبان باكستان. ومن الخارج: بمناوشات وحروب على الحدود مع الهند وإيران وأفغانستان. غير أن أخطر ما دبِّر له، في حياته على الإطلاق، كان بتاريخ 8/5/2015، حين استهدفت حياته، كما تدل القرائن، بحادث تفجير طائرة مروحية عسكرية، كان من المتوقع أن يستقلها، متوجهاً إلى شمال البلاد لتدشين بعض المشاريع، كما أعلن رسمياً.

لقد أسفرت عملية التفجير عن ما وصف بمجزرة دبلوماسية، إذ راح ضحيتها: سفيرا النرويج والفلبين، وزوجتا سفيري ماليزيا وإندونيسيا. وإصابة سفيري بولندا وهولندا، ونجا منها بصعوبة سفراء لبنان وكندا وجنوب إفريقيا. ولقد نجا شريف من الحادثة بسبب صعوده في طائرة أخرى، غير التي فجرت. ولقد أعادت الحادثة إلى الأذهان عملية مقتل الرئيس الباكستاني الجنرال ضياء الحق، الذي كان، هو الآخر، من حزب الرابطة الإسلامية، واغتيل في عملية تفجير طائرة مروحية عسكرية مشابهة، بتاريخ 17/8/1988، وقيل إن الموساد الإسرائيلي، وربما المخابرات المركزية الأمريكية والهندية، كانت وراءها. كانت العمليتان متشابهتان إلى حد كبير، في السبب والوسيلة والإخراج. فكلا الرجلين ينتمي لحزب الرابطة الإسلامية؛ وكما أن شريف من أكبر داعمي البرنامج النووي كذلك ضياء الحق كان من أكثر الرؤساء الباكستانيين دعماً لبرنامج بلاده النووي؛ وكان طيلة فترة حكمه، وهي الأطول في التاريخ السياسي الباكستاني، قد بذل ما بوسعه لتسريع إنتاج السلاح النووي، لإعلان بلاده قوة نووية؛ لولا أن الموت سبقه.

في ذلك اليوم دعت السفارة الأمريكية الرئيس ضياء الحق لتفقُّد مجموعة من الدبابات، كانت الولايات المتحدة قد أهدتها للجيش الباكستاني. ولأنه كان شديد الحذر، ويصر على الإشراف بنفسه على تفتيش كل وسيلة نقل يصعد فيها، فلقد أصعدوا معه في الطائرة كلاً من سفير الولايات المتحدة في إسلام أباد، اليهودي، أرنولد رافي؛ والجنرال الأمريكي هيربرت واسوم. ولما كان عصير المانجا هو الشراب المفضل للرئيس صنَّعوا عبوة ناسفة على هيئة علبة مانجا، ووضعوها في صندوق من عصير هذه الفاكهة، قيل إنهم قدموه هدية له، فَقَبِل أن يوضع في الطائرة، وهو على قناعة بأن أميركا لن تضحي بسفيرها وأحد جنرالاتها الكبار. ولقد وقع ما لم يكن يتوقع. فلقد فجروا الطائرة عن بعد؛ وقُتل، ومعه السفير والجنرال اللذان قُدِّما قرباناً على مذبح الأمل في إعاقة البرنامج النووي لهذا البلد المكافح. ولكن الأعداء اصطدموا بحقيقة راسخة في وجدان الشعوب الباكستانية، على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، وهي أن " برنامجهم النووي" واحد من ثلاث مقدسات، لا يقبلون المساومة عليها أو التهاون فيها: الإسلام وكشمير والنووي. ولا غرو فإن نواز شريف يجمع عناصر هذا الثالوث المقدس، فهو كشميري الأصل، إسلامي الفكر والتوجه، داعم قوي للبرنامج النووي.

وما زاد الطين بلة، وعقد الموقف أكثر: موقفه الحازم من قضية كشمير، خلال سنوات حكمه الأخيرة؛ ومسارعته إلى إعلان دعمه المطلق للسعودية، في حربها ضد الحوثيين في اليمن؛ وتقاربه مع تركيا في الأزمة الخليجية الأخيرة؛ والإعلان عن إرسال طائرات تدريب باكستانية إلى قطر؛ وقيام الجيش الباكستاني بإجراء سلسلة من التجارب النووية الاستراتيجية؛ كان آخرها قبل أشهر فقط، بتاريخ 14/12/2016، لما وُصف بأنه نمط جديد من الصواريخ النووية المجنحة، النادرة في العالم، يبلغ مداها 700 كم.

بفشل محاولة الاغتيال، وبسبب هذه التطورات، اشتدت الدعوات المطالبة باستقالة شريف من رئاسة الوزراء. ولجأت بعض أحزاب المعارضة الصغيرة، التي قيل إنها موالية للغرب، إلى الشارع للتظاهر. وهدد قائد حزب العدالة، لاعب الكريكت السابق عمران خان، بالزحف على إسلام أباد من أنحاء البلاد، وشل الحركة فيها، وصولاً إلى إسقاط الحكومة. غير أن هذا السياسي الناشئ لم يتمكن من حشد سوى عدة مئات، تشتتوا قبل دخول العاصمة؛ كما صرح وزير الداخلية، في حينه، شودري علي خان، الذي استهجن أن تلجأ المعارضة إلى الغوغائية، وإعطاء انطباع سيء للرأي العام العالمي عن بلد يمتلك أسلحة نووية، وعن مدى أمان وجود هذه الأسلحة فيه؛ وهي الدعاية التي يروجها الغرب وأعداء باكستان، عن الخوف المزعوم من تشرذم البلد ووصول السلاح النووي لأيدٍ غير مسؤولة! ثم جاءت الضربة القاضية لحياة شريف السياسية، من حيث لم يحتسب.

ففي شهر نيسان 2017 قامت شركة موساك فونيسكا المثيرة للجدل، بتسريب الوثائق التي عرفت بِ (بنما-ليكس)، أشار بعضها إلى وجود فارق بين أصول عائلة شريف المعلنة ومصادر الدخل المعروفة للعائلة. ولكن شريف اعتبر هذه التسريبات لا تستند لأساس ورفضها. فأحيل الأمر إلى المحكمة المختصة لكي تبت فيها، والتي قضت، بإدانة شريف ومنعه من ممارسة العمل السياسي طيلة حياته. الأمر الذي يستشف منه أن الرجل مستهدف شخصياً، وهي الحقيقة التي ظلت تميز تحركات الأحزاب طوال فترة عمله رئيساً للوزراء، والتي كانت دائماً تطالبه شخصياً: بالتنحي عن رئاسة الحكومة، وإبقاء حزبه في السلطة، والحفاظ على العملية الديموقراطية في البلاد مستمرة!

نزل الرجل عند حكم القضاء، وأعلن استقالته بتاريخ 28/7/2017؛ بعد أن قضى في السلطة أكثر من 4 سنوات. وإن كان يؤمن بأن ما حصل لا يخرج عن كونه انقلاباً قضائياً بعد أن عجزت كل التحركات السابقة، على اختلاف أصنافها، عن إسقاطه! وهي ذات النتيجة التي خلصنا إليه في مقال سابق، بعنوان "نواز شريف – الصيد الثمين" نشرناه قبل عامين، على صفحة البوصلة الإخبارية، وتحديداً بتاريخ 17/5/2015، بمناسبة نجاته من مجزرة حادث الطائرة؛ والذي ختمناه بالعبارة التالية: " إن نواز شريف شخصية تاريخية، وصيد ثمين، وأكاد أجزم أنه لا يمكن للعاصفة من حوله أن تهدأ، ولسوف تتكرر محاولات النيل منه، حتى يلحق بضياء الحق، أو يكتب الله له الحياة ولباكستان، في ظل حكمه، المزيد من التقدم والازدهار".

وكمراقب، أشعر بأن عملية اسقاط نواز شريف، بالحكم القضائي، وإن كان مستهدفاً منذ إصراره على إجراء الاختبارات النووية الباكستانية الأولى عام 1998، التي أغاظت أطرافاً دولية فاعلة، وبخاصة إسرائيل وأمريكا والهند: فإنها جاءت في سياق الترتيبات التي تجري اليوم على طول العالم وعرضه، بدءاً من مصر وسوريا والعراق وتونس وليبيا واليمن وتركيا وقطر إلى البرازيل ونيكاراغوا وفنزويلا؛ والتي تستهدف قوى الإسلام السني وبعض القوى السياسية اليسارية، في أمريكا اللاتينية، التي وقفت في وجه المشروع الأمريكي الصهيوني للقرن الحادي والعشرين.

وأخيراً، أما وقد حصل ما حصل، فإنني ومن خلال معرفتي بنفسية الشعب الباكستاني، الذي ينتصر لكل صاحب حق ومظلوم، ويقف مع قادته التاريخيين الذين أفضل ما خدموا بلدهم وقضاياه الكبرى: الإسلام، وكشمير، والنووي، أدرك: أنه قد أغاظه ما حصل، ولسوف يعيد انتخاب حزب شريف، الرابطة الإسلامية، في الانتخابات العامة المتوقعة في منتصف العام القادم. وبالطبع سوف يتدخل المال السياسي، من كل حدب وصوب، لأهمية الحدث، وسوف تنشط قوى عالمية لمنع وصول حزب نواز شريف للحكم، وإعادة الاعتبار له ولحزبه، ولكننا نؤمن بأن الرجل: يملك الإمكانيات الوافرة، والكاريزما الجاذبة، والحجة القوية، لينفذ بقوة إلى قلب كل باكستاني يعرف أسباب استهدافه؛ ويقف على مدى الظلم الذي وقع عليه، بين الانقلابين: العسكري عام 1999 والقضائي عام 2017. ذلك ما نأمل ... وإن غداً لناظره لقريب.

عن الكاتب

د. علي المر

المدير السابق للطاقة النووية في الأردن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس