هيثم الكحيلي - نون بوست

يمكن لأنصار جماعة فتح الله غولن ولغولن نفسه أن ينكروا التهم الموجهة لهم بالتآمر للإطاحة بحكومة حزب العدالة والتنمية وبمحاولة فرض أجندتهم السياسية الخاصة على الجمهورية التركية دون أن يدخلوا العملية السياسية من أبوابها التقليدية، ولكن لا يمكن لأحد في داخل تركيا أو خارجها أن ينكر وجود "دولة موازية" داخل الدولة التركية، قامت خلال السنوات الماضية بزرع آلات التنصت داخل مكاتب أركان الجمهورية التركية وساستها ورجال أعمالها، ونفذت أو تسترت على عشرات الجرائم التي حولت وجهة تركيا وعرقلت قراراتها السيادية واحتقرت الإرادة الشعبية عبر تقييد الساسة المنتخبين.

وقد دأبت حكومة العدالة والتنمية على استخدام لفظ "الدولة الموازية" بعد أسابيع من عمليتي 17 و25 ديسمبر 2013 عندما تم توجيه تهم بالفساد المالي وبالتعاون مع التنظيمات الإرهابية لعدد من أبرز الشخصيات العامة في تركيا في عدد من القضايا التي كُشف عنها فجأة في يوم 17 ديسمبر والتي تعلقت أساسًا برئيس الوزراء آنذاك "رجب طيب أردوغان" وابنه بلال وأبناء وزراء آخرين ورجال أعمال وكوادر إدارية في أضخم المؤسسات المالية في تركيا.

ويفسر استخدام تسمية "الدولة الموازية" عوضًا عن "جماعة فتح الله غولن" بما قاله الرئيس التركي الحالي "رجب طيب أردوغان" مؤخرًا بأن عملية 17 ديسمبر لم تكن من تدبير الجماعة، وكذلك بما دأب عدد من المحللين على قوله من أن كل الأهداف التي استهدفتها جماعة غولن لم تكن أبدًا من أهداف أي من الجماعات الدينية في تركيا، وإنما جمعت بين أهداف لقوى الدولة القديمة في الداخل (مثل السيطرة على جهاز الأمن الداخلي) وأهداف أخرى لقوى إقليمية ودولية (مثل منع تركيا من التدخل في الشأن الفلسطيني ومن مساعدة إيران على التهرب من العقوبات الدولية).

جهاز الأمن الداخلي

نجحت جماعة فتح الله غولن خلال السنوات العشر الأولى بعد وصول العدالة والتنمية للحكم في اختراق مؤسسة الشرطة تدريجيًا، عبر السيطرة أولاً على مدارس وأكاديميات الشرطة التي أتاحت لها تصعيد الموالين لها إلى المراكز الهامة بسرعة وإبعاد غير الموالين لها؛ مما جعل أهم أجهزة وزارة الداخلية تقع تحت سيطرة الجماعة.

وبعد أحداث 17 ديسمبر، شنت الحكومة هجمات منظمة ضد الأمنيين المشتبه في انتمائهم لجماعة غولن أو لتنظيم الدولة الموازية أو لأي شبكة علاقات غير رسمية، وذلك عبر مرحلتين: أولا عبر تحويل أماكن عمل هؤلاء الأمنيين (أعدادهم بالآلاف) إلى محافظات ثانية وخارج المحافظات المركزية التي عينوا فيها قبل 17 ديسمبر، وثانيًا عبر تحويل ملفات هؤلاء الأمنيين للقضاء حتى ينظر في ملفاتهم ويقرر براءتهم وبقاءهم في مناصبهم الجديدة أو إدانتهم وممعاقبتهم إداريًا أو جنائيًا.

ومهما كانت ولاءات شبكات الأمنيين التي تم تفكيكها، سواء كانت لجماعة غولن أو للدولة العميقة القديمة أو لجهات خارجية، فإنها كانت تمثل فعلاً "دولة موازية" للدولة، تتحرك وفق توجيهات لا تصدر عن السلطة التنفيذية المنتخبة وتوظف السلطة التي يمنحها القانون للعاملين داخل الدولة حتى تنفذ أجندات سياسية وتصفي صراعات خاصة كان آخرها مع حزب العدالة والتنمية.

ورغم أن الضربات القاسية التي وجهتها الحكومة لتنظيم الدولة الموازية وللمحسوبين على جماعة غولن نجحت نسبيًا في شل قدرة هذا التنظيم على استخدام جهاز الأمن الداخلي لغايات سياسية، أعلن رئيس الوزراء الجديد "أحمد داوود أوغلو" عن إقرار حكومته بعدم نجاعة هذا الجهاز وعن عزمها إدخال سلسلة من الإصلاحات العميقة التي تهدف - حسب ما أعلنته الحكومة - إلى جعل هذا الجهاز مشابهًا لنظرائه في الدول المتقدمة وخاصة في ألمانيا، الأمر الذي يُفسر على أنه محاولة لتدارك الضعف الذي أصاب هذا الجهاز بعد تورطه في الصراعات السياسية.

جهاز الاستخبارات

يعتبر المستشار "هاكان فيدان"، رئيس جهاز الاستخبارات التركية، السبب الرئيسي في توجه جماعة فتح الله غولن نحو التصادم مع حزب العدالة والتنمية، حيث وقف هاكان فيدان سدًا منيعًا ضد اختراق جماعة غولن لهذا الجهاز، كما رفض أردوغان (رئيس الوزراء آنذاك) أن يتخلى عن فيدان؛ الأمر الذي دفع الجماعة للسعي مرارًا إلى الإطاحة به مستخدمة شبكاتها داخل جهاز الأمن الداخلي والتي قامت بإعداد ملفات ضخمة لاتهام فيدان بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني (مصنف تنظيم إرهابي).

ومع فشل كل محاولات الجماعة لإطاحة بهاكان فيدان، جاءت عمليتي 17 و25 ديسمبر بمحاولة جديدة للإطاحة به وذلك عبر إيقاف شاحنات أسلحة تابعة لجهاز الاستخبارات كانت متجهة لسوريا، واتهام فيدان بالتعاون مع التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق، وإصدار بطاقة جلب في حق هاكان فيدان، غير أن فيدان امتنع عن المثول لأمر اعتقاله، كما حكم القضاء التركي ببطلان التهم الموجهة لجهاز الاستخبارات وللعاملين وفيه ووجه تهم بالجاسوسية لكل المتورطين في عملية توقيف الشاحنات.

وبعد هذه العملية، عملت الحكومة بشكل كبير على دعم جهاز الاستخبارات وعلى تمكين رئيسه هاكان فيدان من كل الدعم القانوني والمادي والمعنوي حتى يطور من قدرات الجهاز الذي بات اليوم من بين أحد أهم أجهزة الاستخبارات في المنطقة - حسب الشهادات الدولية التي توالت في الفترة الأخيرة - وخاصة بعد نجاحه في تحرير الدبلوماسيين الأتراك الذين اعتقلهم تنظيم داعش في محافظة الموصل العراقية.

القضية الفلسطينية

من أهم الملفات التي تؤكد أن الحرب التي خاضتها جماعة فتح الله غولن مع حزب العدالة والتنمية لم تكن حرب الجماعة وأن الجماعة والدولة الموازية وبعض أحزاب المعارضة كانت مجرد أدوات استخدمت لإرضاخ الحكومة التركية، هي استهداف عمليتي 17 و25 ديسمبر لمنظمة الإغاثة الإنسانية "إي ها ها" واتهامها في قضايا متعلقة بالإرهاب، لتضاف هذه العملية إلى تصريحات فتح الله غولن التي انتقد من خلالها سفينة المعونات الإنسانية "مرمرة" (نظمتها إي ها ها واقتحمتها القوات الإسرائيلية وقتلت عددًا من المشاركين في رحلتها إلى قطاع غزة) والتي حمل خلالها المسؤولية عما وقع لمنظمي السفينة بحجة أنهم لم يحصلوا على إذن من إسرائيل قبل أن يتوجهوا لقطاع غزة.

وكباقي الملفات، فشلت عملية 17 ديسمبر في إجبار تركيا على التراجع عن مواقفها المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وفي تصريح صدر عن رئيس الوزراء الحالي "أحمد داوود أوغلو" مؤخرًا وخاطب من خلاله جماعة غولن وبعض الأحزاب المعارضة وكل الممتعضين من المواقف التركية من القضية الفلسطينية ومن احتضان تركيا للاجئين السوريين، قائلاً: "خرج مؤخرًا من يقول إن استقبالنا لـ 1.5 مليون لاجئًا سوريًا خيانة للوطن، وكما قلنا لمن سبقوه بمطالبتنا بالسكوت عما يحدث في غزة بأننا سنتحدث عن غزة، نقول له اليوم: عنادًا فيك سنفتح أبوابنا لهؤلاء اللاجئين مهما كانت ديانتهم ومذاهبهم، من لا يرحم الناس لا يرحمه الله".

حرب الاستقلال التركية

يؤكد الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" ورئيس الوزراء "أحمد داوود أوغلو" بشكل مستمر على أن الحكومة لا تخوض حربًا ضد الجماعة كجماعة، وإنما تخوض معركة "استقلال تركيا" وصراع "المحافظة على استقلالية القرار السيادي" و"احترام الإرادة الشعبية"، ورغم أن القضاء التركي قضى نهائيًا ببطلان كل التهم التي وجهتها عملية 17 ديسمبر لأبرز الشخصيات الفاعلة والمقربة من حكومة العدالة والتنمية، ورغم أن العدالة والتنمية نجح خلال السنة الماضية في التفوق على الضربات التي وجهت له، سيبقى التحدي الأكبر أمام الحزب متمثلاً في مدى قدرة الحزب على عدم الاغترار بقوته وعلى عدم تسخير هذه القوة لصالح الحزب وتسخيرها بشكل كامل لصالح الدولة والشعب.

عن الكاتب

هيثم كحيلي

كاتب صحفي وباحث متخصص في شؤون الشرق الأوسط


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس