هيثم كحيلي - ساسة بوست

قبل ثلاثة أيام فقط من الانقلاب تشكلت لديّ قناعة مع قراءتي للتحركات الدبلوماسية التركية ما بعد خروج داوود أوغلو من رئاسة الحكومة، بأن أردوغان معرض للقتل، وذلك في مواجهة القراءة المنتشرة أن نهاية حكمه اقتربت فكل هذه التحركات مجرد انفعالات زعيم أسكرته السلطة.

وتفسيري أن النظام العالمي دخل طور الانهيار، وأن الغلبة ستكون للرجال الذين سيبادرون لافتكاك مواقعهم وفرض إرادتهم والذين سيحاربون بشراسة في وسط الفوضى التي بدأت مع بداية الربيع العربي وانتقلت إلى العالمية عبر نتائج الاستفتاء البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي، وقد تبلغ ذروتها الكارثية في حال وصل دونالد ترامب لرئاسة أمريكا.

مرت الأيام وجاء خبر الانقلاب، ثم تتالت الأسئلة:

- هل فشل الانقلاب؟

- كيف فشل الانقلاب؟

- من نفذ الانقلاب؟

- من دبر ودعم الانقلاب؟

- ما هي الأسباب التي أوصلت تركيا للانقلاب؟

- كيف يمكن أن تحصن تركيا نفسها من انقلابات جديدة؟

- كيف فشل الانقلاب؟

توجد تفاصيل كثيرة عن بطولات كثيرة لا تحصى أدت إلى إحباط العملية الانقلابية، من بينها نجاة قائد الجيش الأول من الاغتيال وتحركه لمكافحته، ومنها تحركات رئيس جهاز الاستخبارات، هاكان فيدان، الذي أصدر في اللحظة الأولى للانقلاب أمرا خطيا لكل منتسبي جهازه بالتشابك بالرصاص الحي مع كل الانقلابيين، وكذلك معظم مكونات الشعب التركي من سياسيين داخل حزب العدالة والتنمية وخارجه، من الحكومة والمعارضة، ومن مختلف الأجهزة الأمنية ومؤسسات المجتمع المدني، وخاصة وأولا من قبل كل أبناء الشعب التركي الذين وقفوا عراة في وجه الدبابات رافعين شعار: «يا عسكر يا خونة عودوا إلى منازلكم».

ولكن كل ما سبق كان يمكن أن يحدث دون أن يؤثر في خطة الانقلاب، لولا نجاة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من محاولات الاغتيال التي تعرض لها في الساعات الثلاث الأولى للانقلاب ولولا ظهوره حيا فور صدور البيان الأول للانقلاب، ولا أعتقد أن لكيفية ظهوره أهمية كبيرة، فسواء كان ظهوره الأول في قناة «سي إن إن» أو في قناة «إن تي في»، عبر تطبيق «سكايب» أو عبر «فيس تايم»، يبقى الفرق كل الفرق في كونه ظهر حيا.

ظهور أردوغان حيا، لا تنحصر أهميته في تلك الشحنة المعنوية التي بثها في أنصاره الذين خرجوا من منازلهم بعد منتصف الليل تلبية لطلب زعيمهم أو لـ«أمر قائدهم العسكري» كما قال أردوغان في كلمته، وإنما تكمن أيضا في حالة الذعر التي أصابت كل من كانوا في صف الانقلاب وكل من كانوا يفكرون في الانحياز له.

حالة الذعر هذه جعلت عددا من قادة الانقلاب يفرون في لحظات حاسمة، وجعلت جنرالات انقلابيين يتخذون إجراءات حاسمة لردع الانقلاب حتى تكون تذكرة نجاة تنقذهم من الويلات التي ستصب على رؤوس الانقلابيين، وجعلت الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته ينتقلون من وضع المتابعة ومن الحديث عن «ثورة الجيش التركي»، إلى وضع الإدانة الشديدة للانقلاب والدعم الكامل للشرعية والديمقراطية التركية، وجعلتهم في مرحلة ثالثة يتسابقون مع غيرهم من قادة العالم لإظهار قلقهم على حقوق الإنسان في تركيا وهو ما يقصدون به خوفهم مما سيفعله الأتراك بالانقلابين وبداعميهم وبالمتواطئين معهم.

حالة الذعر هذه ناتجة عن التاريخ الطويل لأردوغان مع الانقلابات، فأردوغان أمر في سنة 2012 قائد جهاز الاستخبارات بأن يموت قبل أن يسلم نفسه للمدعي العام الذي جاء لاعتقاله، وأردوغان تعود أن يدعم المبادرين من العاملين معه وألا يتخلى عنهم وهو ما جعلهم يمتلكون من السند والدعم والثقة ما يكفيهم حتى يتجرأوا على قطع الكهرباء على قاعدة إنجيرليك (أهم القواعد العسكرية لحلف الناتو وأحد أكبر مخازن أسلحته الفتاكة) بسبب شبهات لم تتضح بعد حول اعتماد الانقلابيين عليها في خطتهم الانقلابية.

ونتيجة هذه الصورة التي تشكلت حول أردوغان لدى أنصاره وأعدائه جعلته يصبح اليوم أول زعيم ينجح في إفشال انقلاب عسكري في تاريخ تركيا، تركيا التي تعتبر الانقلابات العسكرية ممارسة عادية في تاريخها السياسي لا تختلف كثيرا عن العمليات الانتخابية، تركيا التي لازالت حتى هذه اللحظة محكومة بدستور كتبه انقلابيو الثمانينات الذين سجنوا وعذبوا أكثر من نصف مليون تركي، تركيا التي من مفارقاتها العجيبة أن كلمة «Inkilap» في قاموسها تعني «إصلاحات».

لماذا يميل كثيرون إلى اتهام أمريكا؟

وقع الإعلام العربي منذ سنة 2007 في فخ ما يسمى بقضية أرجينيكون، فنقل الإعلام العربي كل ما تداول حينها من نجاح الحكومة التركية في إحباط مخطط انقلابي كان الجيش يخطط له، وتحدث الإعلام والإعلاميون العرب كثيرا عن نجاح الثلاثي أردوغان وغول وداوود أوغلو في إحباط الانقلاب وقسم شوكة العسكر وتقليم أظافرهم والزج بمئات الجنرالات في السجون بأحكام تتراوح بين عشرات السنين والمؤبد.

غير أن الإعلام العربي لم ينقل الفصل الأخير من قضية أرجينيكون، وتجاهل قرارات البراءة وإلغاء قرارات الإدانة التي صدرت في السنتين الأخيرتين، والتي جاءت بعد أن استفاق حكام تركيا على حقيقة صاعقة مفادها أن قضية أرجينيكون بكل تفاصيلها وفصولها كانت خدعة من جماعة فتح الله كولن قاموا من خلالها بإجراء عملية جراحية متوحشة داخل بنيان الجيش التركي كان الهدف منها تصفية شريحة عمودية من المؤسسة العسكرية محسوبة على الكماليين في المعظم وعوضتها بجنرالات جدد موالين للجماعة.

قرارات المحاكم التركية كانت بالغة الوضوح في خصوص عملية أرجينيكون، على عكس تصريحات المسؤولين الأتراك التي كانت خجولة نوعا ما، وذلك مفهوم نظرا إلى اكتشافهم فجأة لأنهم خدعوا وخدروا وكانوا يصنعون الوحش الذي سيلتهمهم. وهذا انعكس على الإعلام العربي والغربي الذي لم يعطِ أهمية كبيرة لهذه التطورات.

وأما أكثر التصريحات دقة ووضوحا حول خدعة أرجينيكون، فجاءت على لسان قائد الأركان الأسبق، إلكار باشبوغ، الذي أطاحت به قضية أرجينيكون، حيث قال فور خروجه من السجن وتبرئته، وبعد تلقيه مكالمة من أردوغان لتهنئته بالبراءة، أن عملية أرجينيكون كانت عملية استخباراتية خططت لها وكالة الاستخبارات الأمريكية وأمر الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش بالشروع في تنفيذها، ونفذتها جماعة فتح الله كولن، هذا كلام باشبوغ أنقله حرفيا وهو منشور في كتاب سيرته الذاتية ومنشور في أكثر من حوار صحفي.

ويضيف باشبوغ في شهادته، أنه في أحد آخر لقاءاته بأردوغان قبل أن تنفذ جماعة كولن عملية أرجينيكون، قدم له قائمة بأسماء منتسبي الجماعة في الأجهزة الأمنية ونبهه من أنهم سينقلبون على أردوغان من خلالهم بعد أن ينتهوا من السيطرة على الجيش من خلال قضية أرجينيكون، مضيفا أن أردوغان احتفظ بتلك القائمة دون أن يلبي طلبه بالتصدي للجماعة آنذاك، غير أنه عاد واعتقل وأقال كل الواردين في القائمة بعد المحاولة الانقلابية التي تعرض لها في سنة 2014 والتي كانت يوم إعلان الحرب بشكل رسمي بين أردوغان وجماعة كولن.

إذًا نحن أمام جماعة يقيم رئيسها في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عقدين، وتعترف بشكل مباشر أو غير مباشر بمسؤوليتها عن المحاولة الانقلابية التي تعرضت لها تركيا في سنة 2014 والتي قادها نفس النواب العامين الذين قادوا قضية أرجينيكون التي سمحت للجماعة باختراق الجيش والسيطرة على مفاصله والتي يقول القائد العام الأسبق للجيش أنها مدبرة من قبل جهاز الاستخبارات الأمريكية بأوامر مباشرة من الرئيس جورج بوش وبالتحديد من قبل تيار المحافظين الجدد النافذ في الإدارة الأمريكية.

نفس هذه الجماعة هي اليوم المتهم الوحيد بتدبير الانقلاب، سواء من قبل الحكومة أو المعارضة أو الجيش بشكل رسمي، وهو يجعل معظم المتحدثين وخاصة منهم القريبين من الحكومة والحزب الحاكم يميلون إلى أن الجماعة نفذت الانقلاب لصالح الأمريكيين، مؤكدين بأن القول بأن جماعة كولن متورطة في الانقلاب كاف للقول بأن للإدارة الأمريكية يدا في هذا الانقلاب.

ما علاقة التحركات الدبلوماسية التركية الأخيرة بالانقلاب؟

في ليلة حدوث الهجوم الإرهابي المتوحش على مطار إسطنبول كان علينا أن نعي أن هذه العملية جاءت لتخبرنا بوجود قوة ما في هذا العالم تمتلك من الوحشية ما يكفي لتهاجم نقطة يمكن أن يتواجد فيها أي فرد من أفراد هذا العالم، الأتراك والعرب والإنجليز وحتى الإسرائيليون، الأغنياء والفقراء، المسلمون وغيرهم، المتدينون وغيرهم، بل قد تجد من بين هؤلاء المغدورين مواطنا أوروبيا يحاول عبور تركيا نحو سوريا للالتحاق بداعش، وقد تجد على بعد بضعة أمتار منه دبلوماسيا أستراليا، وطالبا مغربيا، ولاعب كرة قدم ورجل أعمال وحامل حقائب وعاملة نظافة.

قبل أن نبحث عن اسم الجهة أو الجهات التي تقف خلف العملية، وبعد أن نتأمل في الرسالة المذكورة في الأعلى، لا بد من أن نلاحظ أمرا في غاية الأهمية، فمهما يكن اسم الجهة المدبرة، فإنه لابد لها من سبب جدي يجعلها تقدم على تنفيذ عملية بهذا الحجم، فهذه العملية لا يمكن أن تكون مجرد محاولة لإيلام تركيا أو للإضرار باقتصادها، ولا بد أن تكون إما ردة فعلا على تطور عظيم شهدته المنطقة في الأيام الماضية، أو تطور عظيم كنا سنشهده في الأيام المقبلة، فجاءت العملية لتجهضه.

فقد كانت هناك إشارات كثيرة إلى أن الأتراك سارعوا لعقد الصفقة مع الإسرائيليين بهدف استخدامها لتحصين تحرك آخر يدبرونه أو لمنع تحرك يخشونه. وأصحاب هذا الرأي يرون أن إقالة أو استقالة داوود أوغلو لم تكن مجرد خلاف على الصلاحيات مع أردوغان وإنما كانت نقطة U-Turn في السياسة الخارجية التركية، ويعتقدون أن البروفيسور داوود أوغلو – رغم شأنه في هندسة السياسة الخارجية التركية – أخطأ كثيرا عندما تسلم دفة القيادة، فعوض أن يقود تركيا نحو نظرية «صفر مشاكل»، كاد داوود أوغلو يوصلها إلى نقطة «صفر علاقات».

ففي فترة حكم داوود أوغلو، وبالإضافة إلى أن تركيا لم تصفر أي مشكلة، فإنها قد دخلت في خطأ استراتيجي وهو القبول باستمرار القطيعة التركية الروسية، بينما كانت النظيمات الإرهابية الكردية تجوب الحدود التركية انطلاقا من الساحل السوري وصولا إلى الحدود العراقية الإيرانية.

ففي الوقت الذي كان فيه الأمريكيون والألمانيون والفرنسيون يدعمون التنظيمات الإرهابية الكردية بكل ما أوتوا من قوة، كانت الحكومة التركية تقيم مفاوضات مكوكية في بروكسيل لإيجاد حل لحماية الحدود الأوروبية من أمواج اللاجئين، بينما يقوم الروس بتزويد التنظيمات الكردية الإرهابية بالمضادات الجوية نكاية في الأتراك، وبينما كان بوتين يستمتع بتهديد الأتراك بأنه سيدمر أي طائرة أو طائر تركي يدخل المجال الجوي السوري (السوري وليس الروسي).

بسبب القطيعة مع الروس، وبسبب تلاعب الأمريكيين، وعبثية الأوروبيين، كانت الأمور تسير في سوريا نحو إقامة دولة كردية ونحو تحدي الخطوط الحمراء للأمن القومي التركي عبر عبور التنظيمات الكردية الإرهابية للضفة الغربية لنهر الفرات، ولو تم الأمر، يعني لو لم تحدث نقطة الـU-Turn، لأقيمت الدولة الكردية ولاضطرت تركيا إلى التدخل عسكريا في سوريا لحماية حدودها وأمنها القومي (وليس انتصارا لأية قضية أخرى)، ولجلسنا جميعا لمشاهدة نهاية «صَدامية» لأردوغان و«بعثية» لحزب العدالة والتنمية.

مع العلم أن حادثة إسقاط الطائرة الروسية التي كانت سبب العداء التركي الروسي تبين بأدلة قطعية أن الطيارين الذين تسببوا فيها كانوا تابعين لتنظيم جماعة كولن وأسقطوها دون إذن أو أمر من القيادة العسكرية، وكانت غايتهم هي التسبب في عداء بين تركيا وروسيا، وقد تم اعتقالهم بعد يومين من المحاولة الانقلابية الفاشلة.

ويعتقد أن ما حدث في موجة التحركات الدبلوماسية التركية الأخيرة والتي يعتقد أنها تسببت في جعل قوى كثيرة حول العالم مهيأة للقبول بانقلاب عسكري، هو:

الإدارة التركية الجديدة رأت أن المفاوضات مع الأوروبيين عبثية، وبالتالي تم وأدها في اليوم الأول لاستقالة داوود أوغلو.

الإدارة التركية الجديدة قررت التوقف عن الانسياق خلف الإدارة الأمريكية وعن الثقة في نواياها، وهو ما جعلها تتخذ مسافة منها.

الإدارة التركية الجديدة تفطنت إلى أن القطيعة مع الروس تمثل حماقة استراتيجية كلفت وستكلف الأتراك ما لا طاقة لهم بهم، وبالتالي تمت المسارعة إلى الاعتذار وإبرام المصالحة.

للاحتياط من الغضب الأمريكي من التقارب التركي الروسي، قامت الإدارة التركية الجديدة بعقد صفقة مع الإسرائيليين طالما ناضلت الإدارة الأمريكية لأجل تحقيقها.

لتقليل العداء الإقليمي لها، قامت الإدارة الجديدة بإغراء المصريين بشيء من التقارب لتحييدهم، وأظهرت قليلا من المرونة بخصوص القضية السورية، وذلك في مقابل السماح للجيش التركي بردع التنظيمات الكردية داخل الحدود السورية.

كل هذه التحركات كانت على وشك أن تقع، بل شرع في تنفيذها وكادت أن تتحقق غاياتها، ولو تحققت فإنها ستمثل ولادة جديدة لمشروع تركيا الجديدة وللزعيم أردوغان، ولذلك يرجح أن من أرادوا عرقلة هذه الخطوات سمحوا لداعش بأن تنفذ عملية المطار لتكون «رسالة موقعة بالدم» للقيادة التركية عما يمكن أن يحدث في حال مضى أردوغان في مشروعه الذي يقلق بعض القوى العالمية تماما كما يبهج مناصريه.

ثم جاء الانقلاب ليكون إعلانا صريحا عن فقدان تلك القوى لأي بصيص أمل في السيطرة على تركيا وفي ترويض أردوغان وفي إمكانية دفع تركيا أردوغان نحو السيناريو الذي يريدونه لها.

كيف يمكن أن تحصن تركيا نفسها من انقلابات جديدة؟

إن من يعتقد أن الانقلاب قد انتهى هو إنسان يعتقد أن الانقلاب بدأ في ليلة الجمعة، أو إنسان يعتقد أن عملية 7 فبراير (شباط) 2012 انتهت عندما نجا هاكان فيدان من الاعتقال، أو إنسان يعتقد بأن عملية جيزي بارك انتهت عندما سيطرت الحكومة على المظاهرات، أو إنسان يعتقد أن عمليتي 17 و25 ديسمبر (كانون الأول) انتهت عندما نجا أردوغان من الاعتقال، والقائمة تطول ولا تنتهي ولن تنتهي.

قرار الانقلاب على أردوغان لا رجعة عنه وستستمر المحاولات إلى ما لا نهاية، لأن الغرض منها ليس مجرد رغبة فئة من الناس في الوصول إلى السلطة أو امتعاض فئة أخرى من ممارسات أردوغان، وإنما لأن من وضعوا النظام السياسي التركي الحالي فصلوه وفق حاجاتهم التي ستبقى محفوظة طالما بقي هذا النظام، ولأن هؤلاء يدركون جيدا أن أي محاولة للتغيير ضمن النظام القائم حاليا لن تضر بمصالحهم وبأن أي محاولة لتغيير النظام نفسه ستنسف مصالحهم جملة وتفصيلا، ولذلك ستستمر محاولات الانقلاب على أردوغان طالما استمر في محاولاته لتغيير النظام أو في ما يسميه هو بـ«حرب الاستقلال».

وهكذا تتمثل الخطوة الأولى نحو تحصين تركيا من انقلاب جديد في الإيمان بأن مساعي الانقلاب مستمرة وجدية ولن تنتهي بمجرد إفشال إحداها، ثم يتجسد التحدي الثاني أمام القيادة التركية في ضرورة العمل بجدية على تقوية الصف الوطني وتعزيز العملية السياسية القائمة، سواء عبر حصر الخلاف بين الحكومة والمعارضة في زاوية الخلاف السياسي المشروع وتجنب تحوله إلى عداء وقطيعة منبوذة، أو عبر تقوية الصف الداخلي للتيار الحاكم وترميم الشروخ التي لحقت به في السنوات الأخيرة، خاصة وقد أثبت أمثال عبد الله غول وداوود أوغلو أنهم رجال يعتمد عليهم في وقت ضيق.

وهنا تقع المسؤولية على الجميع، أولا على الزعيم أردوغان لما يمتلكه من دور كبير في المشهد السياسي التركي والذي ينتظر منه أن يوظفه للم شمل الشعب التركي ولتجاوز الخلافات ولكسر الاستقطاب مهما كانت درجة حدته، وثانيا على رفاق دربه الذين ينتظر منهم أن يكونوا أكثر صبرا وتفهما للقيادة المنتخبة وأن لا ينتظروا حدوث انقلاب حتى يندفعوا لدعمه، وثالثا على الأحزاب المعارضة التي يجب أن تعترف بأن أردوغان الذي سبق أن وصفوه مرارا بالفاشي والدكتاتور هو نفسه أردوغان الذي جعل ديمقراطية تركيا ولأول مرة في تاريخها تنتصر على انقلاب عسكري.

وأما الخطوة الثالثة فتتعلق بالسياسة الخارجية، حيث باتت الخارجية التركية في حاجة إلى استحضارفلسفة البروفيسور داوود أوغلو القائمة على تصفير المشاكل وعلى إقامة العلاقات الندية مع كل القوى العالمية دون معاداة أي منها ودون الوقوع في فخ التبعية، وكما أن رفض حالة العداء بين تركيا وروسيا لا تعني الدعوة للتبعية للروس أو للتودد لهم، فإن الحديث عن تورط فئة من الأمريكان في الانقلاب لا تعني الدعوة لمعاداتهم.

كما الرأي الأقرب للصواب هو أن المصالحة مع الروس لا تقل أهمية عن تسوية بعض المشاكل مع الأمريكيين وعن إيجاد تفاهمات معهم لتجنب وقوع تصادم في المرحلة القادمة، لأن تركيا والشعب التركي ومشروع تركيا الجديدة سيكونون الخاسر الأكبر وربما الوحيد في حال حدوث تصادم كهذا.

والتحية كل التحية للشعب التركي الذي أنتج هذه التجربة العظيمة بكل مكوناتها.

عن الكاتب

هيثم كحيلي

كاتب صحفي وباحث متخصص في شؤون الشرق الأوسط


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس