هيثم كحيلي - ترك برس

هناك قصة سربت في شهر أيلول الماضي، بالتحديد ليلة أول مؤتمر عام لحزب العدالة والتنمية برئاسة أحمد داود أوغلو، عن كواليس خلاف حاد دار ليلتها بين داود أوغلو والرئيس رجب طيب أردوغان.

تقول القصة إن داود أوغلو اعتقد أن رجب طيب أردوغان يقوم فعلا بدور رئيس الجمهورية الذي يقف على مسافة واحدة من كل الأحزاب، فقام بتحضير قوائم المؤسسات التي سيطلب من المؤتمرين أن يصادقوا عليها بمفرده دون أن يستشير أردوغان أو "رجال" أردوغان، وهو ما أثار غضب الرئيس ورجاله وجعلهم يتخذون خطوات عملية لتصحيح "سوء الفهم" الذي وقع فيه داود أوغلو.

وفي ساعات متأخرة من ليلة المؤتمر، بلغ داوود أوغلو حديث عن أن "بينالي يلدريم"، أحد أقوى رجال أردوغان داخل الحزب، جمع توقيعات الأغلبية المطلقة للمؤتمرين، وأعد العدة ليترشح لرئاسة الحزب، وبالتالي ليتولى بنفسه قيادة الحزب والحكومة عوضا عن داود أوغلو الذي كان أساسا يمر بفترة حرجة جدا بعد أن "خسر" أول انتخابات يخوضها الحزب بقيادته.

ما تنقله روايات عدة لهذه القصة، يفيد بأن داود أوغلو اتجه مباشرة للرئيس أردوغان ليسأله عن مدى صحة ما يثار وعن ما إذا كان هو المدبر الحقيقي لهذا "الانقلاب"، فكان رد أردوغان الصادم، في ما معناه، "نعم عندي علم بما يفعله يلديريم، كما عندي علم بما تفعله أنت، وبإمكانك أن تختار".

نتيجة لقاء أوغلو أردوغان في تلك الليلة كانت واضحة في نتائج المؤتمر الذي لم يترشح فيه يلدريم، والذي انتخب هياكلا سوادها الأعظم محسوب على أردوغان، وهو ما يعني أن أردوغان فرض زعامته على داود أوغلو، وأن داود أوغلو قبل بذلك.

وكما أن هذه القصة تؤكد إصرار أردوغان على المحافظة على منصب "زعيم تركيا الأوحد" في هذه المرحلة، وقبول داود أوغلو بأن يكون مديرا للحزب وللحكومة وليس زعيما لهما، فإن قصص أخرى أكثر صحة ووضوحا للعيان تؤكد نفس المعاني، مثل إيقاف داوود أوغلو لمفاوضات قصر دولما باهتشي مع الأكراد بعد رفض أردوغان لها، ومثل قصة رئيس جهاز الاستخبارات، هاكان فيدان، الذي استقال من منصبه وبدأ يتجهز لخوض الانتخابات التشريعية ولشغل منصب وزير الخارجية وفق اتفاق أبرمه مع داود أوغلو، ليقوم في نهاية المطاف بسحب استقالته وبالعودة لمنصبه نزول عند رغبة أردوغان التي عبر ودافع عنها صراحة أمام وسائل الإعلام.

هذه المواقف، ومواقف أخرى مختلفة في التفاصيل ومتطابقة في المعاني والرسائل، تؤكد أن داود أوغلو قبل مرارا بهذا الواقع الذي يستقيل اليوم بسببه، وبأنه قبل منذ البداية بأنه سيكون مديرا وليس رئيسا أو زعيما. وأما أردوغان، فقد كان واضحا منذ اليوم الأول بأنه ماض بجدية في تنفيذ وعوده أيام الانتخابات الرئاسية، أي تلك المتعلقة بالنظام السياسي الذي وعد أردوغان قبل أن ينتخب بأن يجعله نظاما رئاسيا يكون فيه رئيس الجمهورية الرئيس الفعلي والوحيد للسلطة التنفيذية، ولا يكون الرئيس فيه مجبرا على التخلي عن انتمائه الحزبي.

بل إن أردوغان كان واضحا لدرجة أنه صرح في الصيف الماضي بأن عملية الانتقال من النظام البرلماني للنظام الرئاسي قد تمت عمليا وإجرائيا، وأن عملية الانتقال هذه لم يتبقى منها سوى أن يتم التنصيص عليها في دستور جديد للجمهورية التركية.

كل ما ذكرته في الأعلى لا يتضمن آراء أو تعليقات، وإنما هو نقل وانتقاء لتصريحات ووقائع شهدها المشهد السياسي التركي في الفترة التي تلت فوز أردوغان بانتخابات الرئاسة منذ حوالي سنتين، ولا أجدني في هذا منحازا لا لأردوغان الذي يؤمن بأن اقتسام رئاسة السلطة التنفيذية بين رأسين يكبل الدولة ويمنع ازدهارها، ولا لداود أوغلو الذي يريد أن يكون رئيسا فعليا حر الإرادة لكل من الحزب والحكومة تماما كما كان سلفه أردوغان.

وما يمكن أن أختم به كتعليق هو أن داود أوغلو أخطأ الطريق منذ البداية، فقد اختار السير مع أردوغان وهو يعلم نظرة أردوغان للنظام السياسي، ويعلم أن الحزب بقواعده وكوادره ومؤسساته لا يخرجون عن ما يشير به أردوغان ورجاله، ولا يرون زعيما في تركيا سِوى أردوغان، مهما كان اسم الشخص الذي يترأس الحزب.

ونظرا لأن أردوغان كان واضحا منذ اليوم الأول، ولأن داود أوغلو قبل بهذا الواقع منذ اليوم الأول؛ أعتقد أنه ليس من المناسب أن يحاول تغيير هذا الواقع في هذه اللحظة، وهنا لا أتحدث عن المشروعية الديمقراطية والقانونية لهذه المحاولة، ولكن عن واقع يقول بأنه سيفشل في صراعه هذا، لا لشيئ سوى أن الزعيم الحالي لتركيا هو أردوغان.

داود أوغلو سيقع في خطأ أكبر إذا فكر في خطة للانسحاب الآن والعودة في الدورة الانتخابية القادمة بنفس جديد متحرر من سيطرة أردوغان، لأنه قد لبس قميص المدير لعقد من الزمن، وسيعاني خلال فترة انسحابه من حملة هوجاء ستستهدف صورته وستمنعه من العودة في الشكل الذي يريده لنفسه، بل ستجعله يعود في شكل أضعف من الشكل الذي يتمرد عليه اليوم.

مع تقديري لكل الأسباب الأخرى التي قد تجعل داوود أوغلو ينسحب الآن، والتي قد تكون على درجة عالية من الجدية ولا تحتمل التأجيل، فإني أعتقد بأن بقاء أوغلو في الحكومة ومصابرته ومجادلته الهادئة لتلك المشاكل، ستكون أقل إضرارا بتركيا وبالشعب التركي وبالتجربة التركية وبكل الأطراف المتأثرة بالسياسات التركية.

عن الكاتب

هيثم كحيلي

كاتب صحفي وباحث متخصص في شؤون الشرق الأوسط


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس